الخميس 25-04-2024
الوكيل الاخباري
 

ذكريات (19)



انيروني يا اصدقائي. لماذا لم تتمكن قسوةُ الحياة والظروفُ المتوحشةُ، من زرع الوحشية والحسد والكراهية والغل والبغضاء في نفوسنا ؟!اضافة اعلان


لماذا لم يحولنا الجحيمُ إلى اشخاص قُساةٍ، أجلاف، غِلاظ ؟! 

كيف اتفق ان جعلتنا الظروف الوحشية، أناسا ايجابيين، متفائلين، متسامحين، اهلَ محبة وحب ورحمة وأمل، على المستويات الشخصية والوطنية والقومية والإنسانية ؟!

هل هو تأثير القرآن الكريم التهذيبي المبكر، الذي وجّهنا وجهةَ القيم والمُثُل والأخلاق والإيجابية ؟! 

هل هي تأثيرات الأُسرة الأردنية التي تناقلت قيمَ المساواة والمحبة والتعاون والتراحم، من جيل إلى جيل ؟!

هل هي تأثيرات قراءة الأدبيات الكلاسيكية الإنسانية الرائعة، التي تركز على المحبة والسلام والأخوة الإنسانية والعدل والحق والخير ؟!

هل هي مباديء احزاب الستينات والسبعينات والثمانينات اليسارية والقومية التي انخرطنا فيها وكرستنا مواطنين متآخين متحابين جماعيين أصحاء؟!

هل هو تحدي الخطر التوسعي الصهيوني، الذي من شروط مواجهته ان نكون وحدويين متعاونين متراصين، غير متنافرين ولا متعادين. 

هل هو كل ذلك و غيره من المؤثرات ؟ 

هل و هل و هل ؟!!

تلك أسئلة عمرها عقود، ظلت تلوب وتلوب، لم اطرحها من قبل، على قاعدة ان الجَمال لا يُفسّر، واذا ما تم تشريحه فسنحصل على أشكال لا تمت له بصلة. 

خرجت الى شرفة شقتي الأرضية، في إسكان الصحافيين بطبربور، المكون من 67 شقة في 11 بناية. وهو اسكان محترم تبرع به عام 1979 لنقابة الصحافيين، الرئيس العراقي الراحل صدام حسين يرحمه الله.

كانت ابنتي عدن ذات ال 9 أعوام تقف في الساحة الخارجية للعمارة رقم 11، المكونة من 6 شقق في 3 طوابق، اتفقنا نحن الأصدقاء الستة على السكن فيها متجاورين: عزام بدر، حافظ ملاك، عماد القسوس، يوسف العبسي، احمد الحسبان وانا.

كانت طفلتي عدن تقف وظهرها لي، وسط مجموعة من الأولاد والبنات الجالسين على الأرض، وهي تحمل عصا خشبية اطول من قامتها.

كان عدد الأولاد والبنات نحو 15، يترتبون في نصف دائرة واسعة، وطفلتي عدن تلعب دور مديرة المدرسة، فتطلق الأوامر والنواهي بلهجة آمرة حاسمة. 

كان في ذلك الطابور أولاد وبنات يكبرونها عمرا بثلاث واربع وخمس سنوات.

أدهشني المشهد، واخذت اتساءل، من سلّم تلك الطفلة الطفيلية الشركسية عجلة القيادة؟ 

ملت إلى تفسير ان القيادةَ فطرةٌ ! 

رغم المعاناة القاسية لم اطلع قاسيا ولا فظا غليظ القلب. وأفتخر واعتز بانني عملت في عشرات الأعمال اليدوية الشاقة، إلى درجة لم أجد بعدها أية صعوبة في أي عمل توليته.

واسائِل نفسي أحيانا أن كنت ولدت بمناعة طبيعية ضخمة. وكانما ولدت منذورا ومهيأ للشقاء. لم أكن مَرِقاً ولا مايصا (مرق ومايص مصطلحات طفيلية تعني ما كنتش دلع). 

ولم اذكر انني تذمرت. 

ولم اذكر انني زرت طبيبا الا مرة واحدة خلال سنوات عمري العشرين الأولى.

ولا أذكر أنني زرت طبيبا طيلة عملي معلما لمدة أحد عشر عاما. ربما هو حليب الأمهات الأربع اللواتي ارضعنني في الإجفور. أو هي بيئة البادية الجافة. أو هي الجينات المختلطة الطفيلية المعانية. أو هي كلها مجتمعة.

وانا هنا اؤكد على أن ما انطبق عليّ، انطبق على أبناء جيلي أولاد العسكر والعمال والحراثين وصغار الكسبة.

لا أزعم التفرد بالكفاح والعصامية، فكل أبناء بلادنا الفقيرة كافحوا وجهدوا وخرجوا من قاع البئر المظلم الرطب السحيق إلى الضياء والنور والبناء.

قلت يوم أمس انني عملت تاجرا وخسرت.

لقد تحولت من عامل إلى مقاول يعمل في الرمل والإسمنت والغبار والشمس، الى تاجر يعمل في الظل، يجلس على مقعد وثير تحت مروحة لا تتوقف وامامي الصحيفة والمجلة والكتاب وعلبة التبغ وعلبة الثقاب و ابريق الشاي بالنعناع (انا مش شرّيب اهوة).

قال لي صديقي عضو قيادة حزب التحرير الإسلامي، هاني محمود عبد القادر سُكّر العقايلة: لماذا لا تفتح لك مصلحة؟ 

قلت: الحائل كما تعلم، هو الرأسمال.

دلني على تاجر تصفية كبير في شارع بسمان بعمان، اتفقت معه على ان آخذ من عنده 200 بدلة المانية فاخرة جديدة، برسم البيع، اعرضها على "ستاندات" في المفرق واحاسبه على ما ابيعه منها أولا بأول.

استأجرت جزءا من مخيطة الخياط الطيب سعيد حداد وكان الإتفاق ان ادفع فاتورة استهلاك الكهرباء البالغة خمسة دنانير، وان ادفع له خمسة دنانير أخرى جزءا من اجرة المخيطة  الشهرية، على ان يتولى هو تقييف البدلات التي ابيعها لتصبح في مقاس من يشتريها.

طبعت أوراق دعاية ملونة، كتبت فيها المواصفات والسعر والعنوان واعطيتها الى عدد من الصبية وزعوها على تجار المدينة.

كانت البداية متوازنة، فقد بعت في الشهر الأول عشر بدلات بسعر سبعة دنانير ونصف الدينار للبدلة الواحدة التي كانت كلفتها عليّ اكثر من خمسة دنانير ونصف الدينار. دعوت عمي جعفر وأهديته بدلة ودعوت  خالي إبراهيم واهديته بدلة. وزارني معلمي الدكتور خلف المخزومي الذي درّسني اللغة الإنجليزية، فبعته بدلتين بسعر الكلفة.

قلت لنفسي: عيب عليك يا محمد. ان تربح من استاذك.

وبعت عددا من البدلات لعدد من الأصدقاء بسعر الكلفة وبالتقسيط أيضا. 

كان الأصدقاء يتجمعون في مخيطة سعيد يوميا، ولا يخلو يوم من وجبة دسمة تجمع الأصدقاء واصدقاءهم. كانت لنا صفة التجمع الشبابي السياسي الثقافي، مما قادنا الى الحديث في تأسيس نادٍ او جمعية ثقافية.

اصبح الخياط سعيد يحب جلستنا، و أخذ يُسرّ لي بملاحظاته المتنوعة عن الشلّة: هذا مصلحجي. هذا فشّار. ذاك صادق. ذاك يريد الخير لك. وذاك يحسدك ويغار منك.

ذات يوم باح لي بما قال انه تردد كثيرا في البوح به: 

يا محمد انت لا تصلح تاجراً.

ثم ضحك وقال: انت افشل تاجر مرّ وسيمر عليّ.

واستطرد سعيد: اترك التجارة فهي ليست لك. انت تبيع بأقل من الكلفة. وتهدي من مال غيرك. وتبيع بالتقسيط. وتنفق مما تبيع وهو ليس مالك. 

واضاف: يا محمد، ستتأبط ديونا ثقيلة. هذه مخيطة ومحل رزق وانت جعلتها مطعما مجانيا، تنفق من جيبك اكثر من دخلك منها.

عندما جمعت وطرحت ما بعت وما كسبت وما خسرت، وجدت نفسي مدينا بخمسة اضعاف راتبي، فاستنجدت بصديقي هاني يرحمه الله، الذي اقنع صديقه تاجر التصفية بقبول تقسيط المبلغ الذي "انكسرت" به.

لقد انتهيت إلى ما انتهى إليه فأر القرع، وتلك حكاية أخرى.