الخميس 25-04-2024
الوكيل الاخباري
 

ذكريات 29



ها انا ذا وقد تجاوزت السبعين، في الربع الرابع من العمر وقد اختزنت في ذاكرتي تفاصيلَ تجربةٍ متنوعة، أرويها لعل فيها بعض ما يفيد.اضافة اعلان


لست مضطرا إلى اختلاق شخصيات والى تخليق أحداث، كي اكتب مادة تليق بذائقة القارئ وتسترعي انتباهه وتتيح اشتقاق بعض العبر من حياتي الصاخبة الزاخرة بالتحدي والاستجابة.
بقيت موزعا، بين أن اسكبها في "قوالب" أُعنى باختيارها، او أن اتركها للتلقائية فتتدفق وتفعل فعلها. إلى أن رأيت أن في وسعي أخْذُ الخيارين، بأن أضع تجربتي بين دفتين، والشخصيات في مقامها، والأحداث في سياقها. أو أن ألجأ إلى الخيار الثالث وهو ترك التلقائية والعفوية تأخذ مجراها وتفعل فعلها. فجاء هذا النص الذي بين أيديكم الذي قال فيه الروائي المحترف الصديق جمال ناجي:
"ثمةَ مزيجٌ من السيرة الذاتية والفن الروائي، وهو مزيجٌ يبعد النصَّ عن مسمى السيرة أو الرواية ويأخذه الى منطقة مشتركة، أسميه (سيرةً روائية) وهو في تقديري الوصفُ الأكثرُ دقةً وملاءمة".
يرحم الله جمال ناجي.
الآن، أصبح من تمام الأمانة والواجب، أنْ أُفرِج عن الشخصيات، وهي كلها حقيقية. وان أحررها وأنْ أنصفها
لقد حثني، على مدى خمسةٍ وأربعين عاما، العشراتُ من الأصدقاء، على كتابة سيرةٍ /روايةٍ /ذكريات /مذكرات، ترصد وقائع حياة شعبنا الذي شقَّ بإلحاح ومثابرة، دروبا موحشة.
فانا ابن الضناء الذي أناخ عليّ، والرجاء الذي أنار دربي.
ترددت، لأنّ السيرة الروائية في نظري، عملٌ كبير، كنت لا اسمح لنفسي أن أقحمه بتجربتي المحدودة في الزمان والمكان. رغم أنها مقطع عرضي لتجربة شعب الأردن العصامي المكافح.
وللأمانة، فقد ظل عمر داودية، وهو أبرزُ قارئ روايات عرفته، بما له من ذائقة أدبية نقدية مضيئة، يلحّ عليّ بشدة، ويتابع معي بمثابرة، كتابة هذه السرديات ومساراتها.
وقد تجاوز حدوده ومارس عليّ دور الرقيب الصارم بخصوص المشاهد "الساخنة" التي تدفقت دون ضبط مني، بحجة "أنهم" سيهاجمون السيرة /الرواية.
قلت له يا بني: سيكون هجومهم متوزعا، بين نقدٍ ارتضيه وهجوم ازدريه، كما افعل دائما. وسيكون كل ذلك مفيدا يا عمر. سيمكنني من تحويل التحدي إلى فرصة، وفي أسوأ الحالات، ستسهم "الزعبرة" في الترويج والدعاية.
ما زلت لم احسم مسألة المقاطع والمشاهد "الساخنة" في هذه السردية. وعندما أعود بالذاكرة إلى روايات سطعت وحققت مكانة كبيرة، فقد كانت "السخونة" جزءا من بنيتها الاجتماعية والجغرافية وابرز مثال على ذلك رواية المغربي محمد شكري "الخبز الحافي" -الكتاب الملعون كما يسميه، التي تزخر بمشاهد ساخنة كثيرة. ومع ذلك نشرت بكل ما فيها وهاهي يتم تدريسها في الصفوف الثانوية في المدارس المغربية كافة!!
وجاء في التعريف بالكتاب: "تحفل نصوص محمد شكري بصور الأشياء اليومية وبتفاصيلها الواقعية وتمنحها حيزًا شعريًا واسعًا. شخصيات محمد شكري وفضاءات نصوصه ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمعيش اليومي".
لقد عرضتُ تلك المشاهد على أصدقاء كتاب ونقاد محترفين وقراء ذوي ذائقة تعجبني وكانت الردود متوزعة بين نعم ولا. زادتني قلقا وحيرة. قلقا لان سؤالي واستشارتي لم تكن لتطرح وتتم قبل ثلاثة عقود من حياة مجتمعنا الذي اختلفت فيه المعايير والمقاييس.
وأيضا لم تكن الأجوبة حينذاك، هي الأجوبة التي وصلتني اليوم. كانت قبل ثلاثة عقود اقل انسياقا وانسحاقا.
إن إعدام او بتر تلك المشاهد "الساخنة" التي لا ابتذال فيها ولا رخص ولا إسفاف، ينزع عن هذه السردية جزءا من عفويتها وبراءتها. وفي كل الأحوال، لم نصل بعد الى موقع تلك المشاهد لأصل إلى قرار بشأنها.
هل ثمة ما هو جدير بالكتابة ؟!
هذا هو السؤال الثقافي الفاصل بين حث الإبداع وضغطه. وبين حث التواضع وقيده. وهشاشة التجربة وسطحيتها.
بلا سند وبلا عضد، ما خلا الله وامرأة، هي أمي.
الطفل الذي لم ينطق في حياته كلمة "أبي" قطع رحلتَه الطويلة الموحشة، الموغلة في العناء والضناء والشقاء، وحيدا مخذولا جائعا مقرورا. يقوم من كبوة ليقع في كبوة. منسحقا ينوء تحت أعباء، هيهات أن تُدرأ وفي ضنكٍ لا يضاهى.
عندما تزوجت وأنجبت، اكتشفت أنني بلا خبرة أب. لم يكن لي أب يوجهني، يضربني، يحملني، يوبخني، يضمني، يقرأ لي يروي لي، أراقب تصرفاته وردود فعله مع الجار ومع الأخ ومع التاجر.
واكتشفت أيضا أنني بلا خبرة زوج. فلم أر كيف يتصرف أبي مع والدتي. ولم يمر علي سلوك الأب مع أبنائه ولا سلوك الزوج مع زوجته.
لم اختزن مثل تلك التجربتين الحياتيتين المهمتين، فكان علي أن أتصرف. فارتجلت.
أصبت وأخطأت تعجلت وترويت وفي كل الأحوال كنت أضع الملامة على نفسي.
وجدت نفسي مستفرَدا، قد مسّني الضُرُّ والعُسر. وبقيت واقفا على رِجْلٍ واحدة، أكثر من نصف قرن. كنت ألاطم بكفِّ الطفل الرقيقة، المخارزَ المتلاحقة التي غارت عميقا في جسدي وروحي فأدمته.
جعلت التحدياتُ الطفلَ المُستفرَدَ، ذئبا شديد البأس، يعرف ما يريد، ويعرف كيف يسعى إلى ما يريد.
ولقنته الحياةُ، الدروسَ الفادحة التي مكنته من ارتقاء مرتقيات وعرة.
واشتقَّ الطفلُ لنفسه قواعدَ حياةٍ صارمةً، مشى على صراطها فأنجَته من التهلكة.
ووهب اللهُ الطفلَ حكمةً، دلّته، وأضاءت دربَه في اشتداد الظلمة وانطباق اليأس.
لقد تفاديت الكثير من أهوائي ولاحقت الكثير من رغباتي وعشت دون ان أُلحِقَ الضررَ بأحد، ولا حتى بقطة او نملة.
عملت بدأبٍ ودقّةٍ وأمانة، وقادت المثابرةُ والصبرُ والإخلاصُ خطاي في دياجير وبرازخ دامسةٍ، فكان الصبرُ أجمل الحصانات.
لقد نزع الله من قلبي الحسدَ والغلَّ والكراهيةَ، فكيف انسحق إذن!
من طفلٍ يبيع الصحفَ في بلدة فقيرة على سيف البادية الأردنية، الى صحفي محترفٍ، ينتج الصحفَ والمجلاتِ ويطرّزها بالمقالات النارية.
ومن شابٍّ فقيرٍ بائسٍ متمرد، أوغل في دهاليز العمل السياسي السري، الخطرةِ المرعبة، ضد النظام، الى مدير إعلام الملك الحسين الهاشمي "مدير الإعلام والعلاقات العامة للديوان الملكي الهاشمي" والى عاشقٍ صوفي في محرابه.
كيف يصبح الطفلُ اليتيمُ الفقيرُ وزيراً مرتين!
ماذا على المرء أن "يشلح" كي يصبح وزيرا ؟
وعن ماذا عليه أن يتخلى؟
وعلى جثث من عليه أن يتخطى !؟
أصبح الطفلُ حصانا جامحا صلبا بلا لجام.
عام 1986 وصلتني بالبريد رسالة ناصحةٌ جميلة جدا. قرأتها، فإذا بها تفيض ودا وحرصا. عرفت بحدسي أنّ صديقي، الذي يجلس إلى جانبي في الصحيفة، هو من كتبها، بخط أحد إخوته وألقاها في صندوق البريد، دون أن يضع اسمه عليها. لم أفاتح كاتبَها إلى اليوم بشكوكه وحدسه، جاء في الرسالة:
"انا محبٌّ يقرأ ما تكتب ويتابعك. انت تسير على خطٍ وطني هو الأنقى. أرجو أن لا تخذلني وتخذل آلاف محبيك الواثقين بك، المؤمنين بما تكتب وتفعل. اسمح لي أن اطلب منك أن لا تدع السلطةَ تشتريك. وأنا أرجوك أن لا تصبح وزيرا في هذا النظام".
كان كاتب تلك الرسالة يريد ان يقول: "هم يألفونك فإنفِر".
كان معذورا ومُحِقا، فقد كان ثمة تقرّب وألفة.
أصبحت اتلقى دعوات غداء وعشاء من عدد من الشخصيات الاقتصادية والأكاديمية والمهنية اليمينية التي اظن ان بعضها كان مكلفا بدعوتي والتقرب مني و"تطبيقي" !.
لقد ظلت تلك الرسالة القصيرة الحميمة، ترنّ في رأسي عشرات الأعوام، وها انا اليوم أراجع مسيرتي بدقة الصائغ:
هل خذلت ذلك الشاب؟ اين خذلته؟ هل بعت نفسي؟ هل الوزير، كل وزيرٍ فاسد، لا تهمه إلا مصلحته الشخصية؟
أذكر أنني كتبت مرةً وأنا في تمام فحولتي السياسية: "أن النجاة الفردية، في مجتمع يغرق، هي غرقٌ في العار".
هل مشيت على قاعدة أن طالبَ الإمارة لا يُؤمر؟ وهل طبّقت مقولة الإمام العظيم الفارس الحكيم علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه:
استغن عمّن شئتَ تكُن نظيره.
واحتجْ إلى من شئت تكن أسيره.
وأحسِن إلى من شئت تكن أميره.
ثمة أحكام انطباعية متعسفة نيّةٌ غرّة، يحاول أصحابها المتعصبون لها ان يعمموها على كل الناس وفي كل الأزمنة وفي كل الأمكنة وفي كل الظروف. وبأمانة كنت من هؤلاء، ردحا من الزمن.
لست مضطرا يا عزيزي إلى إطلاق النار على من هو أمامك ولا الى طعن من هو فوقك لتأخذ مكانه. العالم ليس هكذا. والقمة وان كانت مخروطية، فإنها ليست حادة، وهي تتسع لكل من له طموح وقدرة على الصعود وعزم على الارتقاء، مع توفر شروط الإخلاص في العمل والتفاني فيه وتحمل متطلباته القاسية.
لا احد يطالب أحدا بأن يشلح أخلاقه ونزاهته وشرفه.
لكن لا احد يستطيع أن يمنع أحدا من النذالة والرخص، التي يعتقد الأوغاد أنها المؤهلات المطلوبة.
إنها قابليات واستعدادات تكبر مع النبيل وتنمو مع الوغد. ولا يستطيع احد ان يرفعك إذا لم يكن لك عمود فقري.
قال أبو القاسم الشابي:
ومن لا يحب صعود الجبال،
يعش ابد الدهر بين الحفر.
لقد صدقت العرب حين قالت: طالب الإمارة لا يُؤمّر.
يوم 21 تشرين الأول 2003 كنت أتبطح على شاطئ المحمدية على المحيط الأطلسي مع الأصدقاء أبناء الجالية الأردنية في المملكة المغربية: هنائي الدجاني وزهير القضاة ونبيل النجار وزياد الصرايرة ومحمد الشوابكة وفهمي السماعنة.
تناولنا وجبة لذيذة من سمك الصول والميرنا الطازج، وشرعنا في مناقشة شؤون الجالية الأردنية في المغرب عندما دق هاتفي الجوال.
- مرحبا محمد.
- أهلا يا أخي.
- أنا فيصل الفايز.
- أهلا الحبيب أبو غيث، أرجو ان تكون في طريقك إلينا.
- اسمع محمد. كلفني سيدنا بتشكيل الحكومة.
- أطيب المنى وصُبّار بركة وربي يوفقك دولة الرئيس.
- أريدك معي في الحكومة ذراعي اليمين وسندي، احجز الآن، أريدك غدا في عمان.
- شكرا على الثقة دولة الرئيس، تؤمر سأكون عندك غدا مساء بعون الله.
هكذا أصبحت وزيرا بمفاجأة ومباغتة كاملتين.
في المقابل أعرف من سفح ماء وجهه وكرامته دون أية نتيجة.
ثابروا وأتقنوا ففي المثابرة والإتقان رضا الله ورضا النفس وأشياء مباغتة أخرى.

وكل عام وأنتم بخير.