السبت 2024-12-14 06:17 م
 

أربعة تشكيليين مغاربة في معرض مشترك بعمّان: الانتصار للجمال في مواجهة صور العالم الجارحة للعين

04:25 م

الوكيل - تحت شعار ‘خيمياء الانسحار’، يقام حاليا في العاصمة الأردنية معرض لأربعة فنانين تشكيليين من المغرب: حسان بورقية ونور الدين فاتحي وأمال بشير ويونس خراساني، وذلك في إطار فعاليات أسبوع الفن بعمّان. ويستمر المعرض الذي يحتضنه رواق ‘أورفلي’ إلى غاية 26 أيلول (سبتمبر)«’اضافة اعلان

أعد الشاعر والناقد الفني سعيد عاهد عن هذه التجربة الورقة التالية:
اللقاء مُخصِب دائما وأبدا، كيفما كانت سعة المشترك مع الآخر.
هذا بالذات ما يفصح عنه المعرض الرباعي للفنانين المنغرسين حتى النخاع في التشكيل الحداثي المغربي: حسان بورقية، ونور الدين فاتحي، وأمال بشير ويونس خراساني.
المشترك بين الفنانين الأربعة يتجسد في انزياحهم، المفكر فيه بوعي ينتصر للجمال في مواجهة صور العالم الجارحة للعين، للغة تشكيلية هي، إذا ما استعرنا مقولة رولان بارت، ‘ليست زادا من المواد، بقدر ما هي أفق’.
تختلف المواد/ التيمات المنتقاة والمشتغل عليها من طرف كل واحد من الأربعة، لكن منجزهم يلتقي في كونه مديح للحياة كأفق، بعث للحركة ضد الجمود الرتيب، إعادة ترتيب تشكيلية لبعض ما يتلاشى في عالم اليوم، لبعضٍ من بعض ما تمر العين المتسرعة بقربه دون رؤيته ودون الانتباه إلى ممكناته.
إنهم’يُعملون جميعا ما صدح به هنري برغسون في ‘الفكر والمتحرك’: ‘ما الفنان؟ إنه شخص يرى أفضل من الآخرين. (…) حين نبصر شيئا، فنحن لا نراه عادة.’
وبقدر ما تتنوع وتختلف مقاربات بورقية وفاتحي وبشير وخراساني لتعكس غنى الحقل التشكيلي المغربي وتعدده في مكونه الحداثي، بقدر ما تتقاطع أعمالهم لأنها تصوغ إدانة للأذى المتنوع التجليات الذي ينخر الكائنات والأشياء: كدمات الزمن الراهن السالب لإنسانية الإنسان من الإنسان، وتشنجات النسق التجاري المهيمن حيث تُختزل الكائنات جميعها والأشياء كلها في مجرد قيمتها التبادلية، بالإضافة إلى تلاشي المعنى.
الأتربة والأرمدة المستلة من مختلف الأفضية، أفضية الحياة والموت، أفضية الضوضاء والسكون، أفضية المركز والهامش، هذه الأتربة والأرمدة هي العنصر الأساس الذي يعتمده حسان بورقية لصياغة لوحة تعلن على رؤوس الأشهاد مناهضتها للشكلانية الأكاديمية.
إنقاذ الأتربة من عزلتها القاتلة، جعلها تحيد عن وظيفتها الأصل لتتحول إلى عنصر جمالي عبر اكتشاف ممكانتها التشكيلية، هي ذي الرهانات التي يتبناها حسان بورقية، في أفق منح الناظر شحنة كهربائية تخترق وجدانه على غرار من تنتابه نوبة سحر عابرة يعرف مصدرها دون أن يقدر على تحديد هويته.
الجسد المنعتق من شرطه المتآمر ضد ‘الآخر’، ذلك ‘الآخر’ المعتبَر ملغيا للـ’أنا’ بالضرورة، هذا الجسد هو التيمة الأساس التي ينحاز لها نور الدين فاتحي: جسد مغمور في إحالات شتى على تعدد الحضارات (الإيقونات اليهودية-المسيحية والخط العربي-الإسلامي)، يبدو كأنه يسائل العين حول الانتقال من وضع الشلل إلى وضع الحركة.
تحويل الجسد الحضاري/ جسد الحضارات إلى شعاع موجه لآفاق التاريخ التي تخضع للتفاوض بين ‘القديم (الذي) يحتضر والجديد (الذي) لا يستطيع أن يولد بعد’ (غرامشي)، هو ذا رهان فاتحي الساعي إلى تخليص الأجساد، تشكيليا، من شحنتها الإقصائية للغير لجعلها بؤرة حوار وتقارب. وهو بذلك يمارس نوعا من السحر الأبيض، سحر المحبة والتحاب، على ذاته الحضارية وعلى ذوات الآخرين في الآن ذاته.
يهيمن الطفل الذي كانه على أمال بشير حين يقف هذا الأخير في مواجهة السند لينصبه أولا قبل تأثيثه. لذة اللوحة، لديه، ضرب من ضروب لعب الأطفال، استعادة لما يكنزونه من قصاصات ملونة وعلب تلفيف وأظرفة قصد تشييد عالمهم الخاص بواسطتها.
أما سلاح بشير الجمالي، فهو تقنية الكولاج (اللصق) التي ليست مجرد تمرين عبثي، بل منحى تجريديا، في حالته، يخضع لضوابط صارمة. ولعل أحد هذه الضوابط المستعصية، التي يتقنها الفنان بامتياز، يتجلى في السيطرة على الورق وتطويعه ليندمج في السند الذي يهيؤه بنفسه.
تحويل القابل للتلاشي إلى سند أولا، ثم إنجاز لوحة انطلاقا من هذا المُعرض لانمحاء عبر اللمس، هي ذي الوصفة السحرية التي يستعملها أمال بشير ليسحر الرائي، هو الذي يعلم علم اليقين أن ‘اللمس هو الحاسة الأكثر فضحا للأوهام من بين كل الحواس، على خلاف حاسة البصر التي هي الأكثر سحرا’ (رولان بارت).
الآلة الموسيقية المخلصة من وظيفتها الغنائية، تلك الوظيفة التي تؤشر على الفصل بين الأجناس الفنية وتمجد غياب الشك حول حتمية الحدود بين التعبيرات البشرية أو بين التطلعات الإنسانية، هذه الآلة، بالنسبة ليونس خراساني، هي الكاشف عن وضع ‘البين- بين’ الإنساني اللايحتمل.
وتبدو الآلة الموسيقية الحائدة عن وجودها الأصلي والمتحولة بفعل آثار اللون والنور المتواطئين ضدها، تبدو كأنها تشعر المتلقي بنسبية الوجود، بأن الشيء يحمل في ذاته ضده بالضرورة. رهان يكسبه خراساني لأنه يقود اللوحة إلى الإقامة خارج مصير مكوناتها الأولي، في حيوات نائية عن حياتها الأولى: حيوات هي هبة ساحرة للعين.
منسحرون هم’جميعهم بالعناصر والتيمات التي ينتقونها كمكونات جمالية لأعمالهم. منسحرون إلى درجة الانتماء إلى فصيلة ناقلي الأحاسيس لمن يحسن توظيف العين.
وعليهم جميعا ينطبق وصف بارت للفنان الذي هو من يتقن إعمال حاسة البصر السحرية: ‘رؤية الآخر وهو لا يرى، إنها الطريقة الأمثل لرؤية ما لا يراه بحدة’.
وكتبت كريمة بنعمران (منسقة المعرض) ما يلي:
‘لا يمكن إلا أن أكون مغتبطة بالتعاون الفني مع رواق ‘أورفلي’ للفنون، ذائع الصيت من حيث عرضه لأعمال فنانين ذوي حساسيات فنية متباينة تعكس اهتماماتهم الجمالية، قضاياهم وانشغالاتهم الفنية؛ ومساهمته في إبراز وتطوير المشهد التشكيلي في القطر الشقيق الأردن الذي بات له حضوره القوي في خارطة التشكيل العربي والعالمي…
ويدخل هذا المعرض الذي يرى النور اليوم بهذا الرواق، في السياق المشار إليه، إذ يترجم الانشغالات الفنية التي يدور في فلكها فنانو البلدين، والتقاطعات الثقافية والسياسية والاقتصادية المشتركة بين البلدين، بين المغرب والأردن منذ بضعة عقود من الزمن، حيث صار الحوار الفني بين البلدين ممكنا وصارت إمكانية قراءة ما يتقاطع بين الفنانين، جماليا، أمرا ممكنا كذلك… وقد كان للزيارة الملكية مؤخرا، إلى الأردن، نقطة انطلاق رسمية، فتحت بابا للحوار الفني بين البلدين لتعميق ما بدأ ثقافيا بين الكتاب والشعراء وجمعياتهم واتحاداتهم.. بالموازاة مع أشكال التنمية وتطوير العلاقات الثنائية بين البلدين..
يعرض رواق أورفلي بالأردن أعمال تشكيليين أربعة، من المغرب، حسان بورقية، بشير أمل، نور الدين فاتحي ويونس خراساني.. بعضهم متداول اسمه في المشرق والعالم بعامة.. يمثلون أحيانا حساسيات مختلفة لكنهم يفتحون حوارا ممكنا ويتبادلون مقاربة معينة… يشتركون في التقنية أحيانا وأخرى يختلفون في المنطلق الفكري الكامن وراء إنتاجهم كي يعددوا الاختلاف ووجهات النظر… تماما كما تبين أعمالهم المعروضة اليوم ذلك.
كان بودي أن أعرض جنب هؤلاء، وفي ذات المعرض، أسماء هامة أخرى، لها حضورها العربي والعالمي… ولكن لظروف تنظيمية لم يكن ذلك ممكنا اليوم، وسيكون هذا المعرض الراهن خميرة لقاءات فنية وتشكيلية تعقبه..
أريد أن أقول في النهاية، بناء على ما سبق، أن هذا المعرض سيكون بمثابة فتح حدود بين فنانينا، وحوار حاد بين مختلف التكوينات الفنية، التي تبدو ظاهريا متباعدة، لكنها في العمق أقرب ما يكون، تعيش متساكنة في إمبراطورية الفن المتخيلة، تقارب بين الأمزجة وتخلق’ قبيلة’ متحدة في سماء اللوحة.’


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة