الوكيل - 1.تحل يوم 28 أكتوبر الذكرى الأربعون لرحيل طه حسين. وقد كان بودي لو أكتفي في كلمتي بعنوان ‘تجديد ذكرى طه حسين’ من غير إشارة إلى أن ما أكتبه يأتي بمناسبة الذكرى الأربعين لوفاته، على غرار عنوان كتاب ‘تجديد ذكرى أبي العلاء’.
إن أبا العلاء هو الأخ الرمزي لطه حسين، وصديقه في مفتتح الرحلة العلمية، إذ خصه بأول دراسة جامعية سنة 1914، قبل أن يغادر مصر ويتوجه لمتابعة الدراسة في فرنسا. ثم اتضح لي أن الذكرى الأربعين تأتي في لحظة تستحق أن نرفعها إلى مستوى أعمق ما قام به طه حسين عندما وضع كتابه ‘في الشعر الجاهلي’. أقصد ثورته في الرؤية إلى الموروث الشعري الجاهلي، ومن خلاله إلى الثقافة العربية في كل من ماضيها ومستقبلها.
بتلقائية وجدت نفسي وجهاً لوجه مع كلمة ‘الثورة’. فهذه الكلمة ـ الرمز هي التي يجب أن نعود بها إلى طه حسين في هذه الذكرى الأربعين لوفاته، قلت في نفسي. كلمة لا تنطبق فقط على ما جاء به كتاب ‘في الشعر الجاهلي’ أو سواه من مؤلفاته الأدبية والتاريخية، لكنها تلخص حياة طه حسين، بما هي حياة متعددة، تنتقل من القرية إلى الأزهر، ومن الجامعة والبحث العلمي إلى الكتابة الإبداعية والصحافية، ومن إدارة وزارة التعليم إلى معهد الدراسات العربية العليا ومجمع اللغة العربية. حياة كانت الثورة هي عنوانها البدئي، لأنه كان، مرة بعد مرة، يبدل الأوضاع نحو المفاجئ والحر. الثورة، إذن، هي الكلمة التي تستحقها الذكرى الأربعون. إلا أنني شعرت بتهدج الأنفاس وتقطعها. ما نعيشه من آلام طيلة السنتين الأخيرتين يغيّر اتجاه الثورة إلى ثورة مضادة. فإذا كان شبان الربيع العربي استلهموا، من حيث يدرون أو لا يدرون، ثورة طه حسين حين أصدر سنة 1926 كتاب ‘في الشعر الجاهلي’، فإن ما آل إليه الربيع العربي يضاعف من غربة ثورة طه حسين، ومن غربة ثقافة الحداثة العربية برمتها.
2.
ذكرى ثورة طه حسين. ذلك ما عليّ أن أحتفظ به، مهما انتكست الحرية وثقافتها في عهد ما بعد الربيع العربي وانتكس الإبداع. ثم هناك ما لا بد من التنبيه عليه. لا يحتاج اسم طه حسين إلى صفة إضافية، مثل ‘الدكتور طه حسين’، أو ‘عميد الأدب العربي’. هذا الزمن لا يتسع لألقاب النبالة الثقافية. إنه زمن ينسى طه حسين، بل يتنصل من طه حسين، بل يلعن طه حسين. لذلك فإن ذكر اسمه، عارياً من كل صفة، يكفي ليذكرنا بأن طه حسين أكبر من الألقاب. وهو كذلك سيبقى في نفوس الذين أنصتوا إلى درسه في المعرفة والإبداع والحرية. وإن كان عددهم قليلاً، فإن ربط الذكرى بالثورة يعني أن هناك من بين المثقفين العرب من لا ينسى طه حسين وثورته، متصليْن جنباً إلى جنب. لا معنى لكلمة الثورة، في السياق العربي، من غير طه حسين، ولا فائدة من استرجاع ذكرى طه حسين من غير استحضار ثورته.
طه حسين رائد كبير، أعطى الثقافة العربية قدرة على أن تتكلم أبجدية العصر الحديث. وعندما ننظر، اليوم، إلى ما يحيط بنا لا نجد أثراً لهذه الأبجدية. ما حاربه بكل عنفوان عاد، بصيغ متباينة، ليستبدّ في الجامعة كما في الحياة الثقافية والحياة العامة. كانت الجامعة رهاناً لتصبح مركز التنوير والتفتح والحوار، والحياة الثقافية حلمَ أن تكون أرضاً حرة، لها شرعية الوجود والتقاسم، بالتساوي، بين الفاعلين الثقافيين، والحياة العامة طموحَ نضال سياسي من أجل أن تكون ساحة مفتوحة على الذات والآخر، على الوحدة والتعدد، على التضامن والاختلاف. كل ذلك أصبح مجرد كان حتى كان.
3.
عندما أذكر اسم طه حسين فأنا أعني عائلة الثقافة العربية الحديثة برمتها، مشرقاً ومغرباً، على السواء. أسماء كتاب وأدباء وفنانين وباحثين وعلماء. إن الزمن الذي يسيء إلى طه حسين هو نفسه الذي يسيء إلى سواه. وضياع ما كان لطه حسين ضياعٌ لما كان للحديثين جميعاً، من أبناء القرن الماضي حتى اليوم. أنظر إلى اسم طه حسين على صفحة غلاف من أغلفة كتبه، أو فقط مذكوراً في أعمال آخرين، مجايلين ولاحقين. ومن هذه النظرة يحضر ما أعتقد أن الثقافة العربية الحديثة عرفته بفضل طه حسين، في النقد الأدبي كما في العمل الروائي، في الفكر السياسي كما في الفكر الاجتماعي، وفي الترجمة كما في بناء المؤسسات الثقافية. تستغرقني النظرة حتى يضيق بي المكان.
هي أربعون سنة على وفاته، لكن علاقتي بأعماله تعود إلى ما يقرب من خمسين سنة. أقصد عندما تعرفت، شيئاً فشيئاً، عليها في شبابي. لم أعش تفاصيل زيارته للمغرب. كان ذلك في 24 يونيو 1958، بعد أن كان زار قبل سنة، في 28 يونيو 1957، تونس. كنت آنذاك ابن عشر سنوات، غير أن أثر زيارته للمغرب ظل يتردد لفترة في أحاديث كما في كتابات. كان كتاب ‘الأيام’ أول ما قرأت، فيما كان أصدقائي من عصابة القراءة ولوعين بالعقاد وحافظ إبراهيم. ومن بين ما كان أثر في نفسي قدرة طه حسين على تعلّم فن التصرف مع عماه، ويقظة الوعي بوجوده في القرية، وحساسيته الشديدة بفضاء الدراسة والصلة مع الآخرين، والإصابة في انتقاء الأفضل من الأساتذة والكتب، والقدرة على التفوق في اكتساب المعارف. لكن نقده للأزهر، من علماء ومناهج وطرق تربوية وتنظيم دراسي، كان الجانب الذي أفصح فيه عن شخصية ترسخت لديها مبادئ الحرية في التعبير، والجرأة على إعلان الرأي الشخصي، والثورة على الجامدين، الراضين بوحل القبول والقناعة والخضوع.
ثورته في ‘الأيام’ على الأزهر كانت، في معناها الأشمل، ثورة الحاضر على الماضي، وثورة العلم على الجهل، وثورة الحرية على العبودية. ثورة من أجل مستقبل مغاير لا تقيده تقاليدٌ مضادة للحياة ولا قيمٌ عاجزة عن الإبداع. وهي، في الوقت نفسه، ثورة المعترف بالفضل للأساتذة الكبار الذين تعرّف عليهم في الأزهر، وفي مقدمتهم : الأستاذ محمد عبده، الشيخ الشنقيطي، الشيخ سيد المرصفي. ضمّ كل واحد من هؤلاء إلى صدره بكل عرفان وامتنان. ولم يتوقف عن ذكر ما تعلمه من سيد المرصفي، الذي قال عنه في مقدمته لكتاب ‘تجديد ذكرى أبي العلاء’ : ‘أستاذنا الجليل سيد بن علي المرصفي أصحّ من عرفت بمصر فقهاً في اللغة، وأسلمهم ذوقاً في النقد، وأصدقهم رأياً في الأدب، وأكثرهم رواية للشعر، ولا سيما شعر الجاهلية وصدر الإسلام.’
ومع قراءتي، لاحقاً، لكتاب ‘في الأدب الجاهلي’ (إذ أنني لم أظفر آنذاك بالطبعة الأولى التي تحمل العنوان الأصلي ‘في الشعر الجاهلي’) تيقنت أنني مع شخصية ثقافية تتجاوز شخصية الأستاذ الجامعي أو الناقد الأدبي. هزتني مقدمة الكتاب بجرأتها وجدّتها في آن. أثر تلك المقدمة، ثم الكتاب، في نفسي يماثل ما كان لي مع ‘هكذا تكلم زرادشت’ لنيتشه، أو’النبي’ لجبران. وما زلت حتى اليوم أعتبر تلك المقدمة من النصوص المرجعية للثقافة العربية الحديثة. ولشدة استمرار تعلقي بها، جعلتُ منها مدخلاً إلى الدروس التي ألقيها في الجامعة، إيماناً مني بأن لها مرتبة تعاقد علمي وأخلاقي لا مناص من توفره بين الطالب والدرس الجامعي.
4.
أقتصر على ذكر هذين الكتابين، لأنهما برأيي أقوى ما كتبه طه حسين. سلطتهما تتجسد في ردود الفعل التي أثاراها معاً في وسط ‘أنصار القديم’، كما يسميهم، رغم أنه لا يمكن أن نساوي بين الكتابين في ردود الفعل التي خلّفها كل واحد منهما. فما أحدثه كتاب ‘في الشعر الجاهلي’ وصل إلى حد رفع الاتهام بالإلحاد والكفر إلى النيابة العامة وإجراء التحقيق مع المؤلف. أما ‘الأيام’ فإن الردود اقتصرت على الموقف النقدي من الأزهر.
نعم، ابتدأت، في أول عهدي بالقراءة، بكتاب ‘الأيام’ (في جزئيه الأول والثاني)، ثم قرأت بعد فترة ‘في الأدب الجاهلي’. لكن ترتيب مكانة الكتابين انقلب، على إثر القراءة، فأصبح ‘في الأدب الجاهلي’ من الكتب التي أكاد لا أفارقها. ثمة عنصران تلازما في قراءتي للكتاب. إنه أول كتاب عربي حديث يعلّم، بصرامة ويُسْر، معنى المنهج في الدراسة الأدبية. فلم أعرف كتاباً يماثله لناقد عربي حديث، من حيث الوضوح النظري والدقة المنهجية. كنت أتوقف لأتأمل فقرات فأعيد قراءتها حتى أدرك القصد، أو أراجع ما كنت قرأت لغير طه حسين في الموضوع. والعنصر الثاني هو المتعلق بأطروحته في انتحال الشعر الجاهلي. في العنصر الأول كنت أنصت إلى الباحث، الذي تعلم في الجامعة المصرية ثم الفرنسية، فأتقن المعرفة النقدية. ومع العنصر الثاني كنت أجلس إلى مؤرخ يصدر عن رؤية واضحة في الشعر الجاهلي وفي لغة العرب وتاريخهم. بهذا اكتسب الكتاب قيمة مرجع فريد في تكويني الثقافي والجامعي. وقد كانت له ظلال خلف ظلال وأنا أنجز عملي الجامعي الأول عن ‘ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب’.
لم ينتبه خصوم طه حسين، عندما صدر كتاب ‘في الشعر الجاهلي’، إلى دلالة انطلاق باحث في الأدب من شيء اسمه المنهج الديكارتي، الذي وضح طبيعته وحدوده في المبحث الثاني من مقدمة الكتاب. لقد كان تعرض، من قبل، أثناء تقديمه لكتاب ‘تجديد ذكرى أبي العلاء’، إلى المنهج الأروبي الجديد الذي اتبعه في دراسته وإلى ‘الخطة’ التي سار عليها، غير أن اعتماد ‘في الشعر الجاهلي’ على المنهج الديكارتي كان أبعد، من حيث دلالة ووظيفة المنهج. وهو ما خصّص له مبحثاً من أربع صفحات، ضمن مقدمة كتاب ‘في الشعر الجاهلي’، حيث كتب : ‘سأسلك في هذا النحو من البحث مسلك المحدثين من أصحاب العلم والفلسفة فيما يتناولون من العلم والفلسفة.’ عدم الانتباه يدل على أن القارئ التقليدي، الذي هاجم الكتاب واتهم صاحبه بالكفر والإلحاد، لم يكن يمكنه التفكير في دلالة المنهج الديكارتي ولا في وظيفته في الدراسة الأدبية. أي لم تكن له لا أهلية قراءة الكتاب ولا مصداقية الحكم عليه.
5.
ورغم أن طه حسين كان في تقديم ‘تجديد ذكرى أبي العلاء’ تناول أيضاً وضعية تأريخ الأدب في مصر بالوصف والنقد، وتعرض للفرق بين المنهجين القديم العربي والجديد الأروبي، فإنه آثر، في الطبعة الجديدة للكتاب بعنوان ‘في الأدب الجاهلي’، أن يضيف إلى الطبعة الأولى ما سماه ‘الكتاب الأول’، وخصه بعنوان فرعي هو ‘الأدب وتاريخه’. وهو عبارة عن درس تمهيدي يرسم فيه معالم الطريق التي يجب على القارئ الشروع في معرفتها قبل الإقدام على قراءة كتابه، أو هو، بصيغة أخرى، مقدمات أولية تخص علم الأدب، وتساعد على قراءة الكتاب، بعد أن تعذرت، في الصيغة الأولى، قراءته قراءة سليمة. درسٌ يلقيه طه حسين على الرأي العام القارئ، ليوسع من دائرة المحدثين، ويشرح للجاهلين من ‘أنصار القديم’ أن ما يقوم به في الكتاب له أساس معرفي. وتتمثل المقدمات الأولية في أسبقية وصف وضعية الدرس الأدبي في مصر، ولزوم سبيل الإصلاح، والاطلاع على العلاقة بين الثقافة ودرس الأدب، والوقوف على المعنى الحديث للأدب، ثم إدراك الصلة بين الأدب وتاريخه، ودرس الفرق بين الأدب الإنشائي والأدب الوصفي، وتحديد مقاييس التاريخ الأدبي، والتساؤل عن الوقت الذي يصبح فيه تاريخ الآداب العربية ممكناً، وأخيراً ضبط قواعد البحث الحديث وشرط توفر الحرية في دراسة الأدب. هذه العناوين الفرعية عبارة عن تقديم المعرفة التي لا بد من توفرها في مصر لينتقل قارئ الكتاب من العفوية والارتجال إلى المعرفة والمسؤولية، أو ليصبح للعرب تاريخ حديث لآدابهم.
عناوين تفيد أن طه حسين يصدر في تأريخه للشعر الجاهلي عن متاع معرفي لا يتوفر عليه ‘أنصار القديم’. وهو، بطبيعة الحال، متاع معرفي غربي، يستقيه من الغرب ويدعو لاتّباعه واعتماد مصادره الموجودة في الغرب. دعوة صريحة لا مواربة فيها ولا تلاعب بالكلمات. وهي التأكيد على أن الثقافة العربية تحتاج إلى أن تصبح جزءاً من الثقافة الغربية، حتى تتمكن من الدخول إلى العصر الحديث، في علاقتها بذاتها وبآخرها الغربي. ولم يكن ‘أنصار القديم’ جاهزين للوعي لا بطبيعة ولا بخصوصية (حتى لا أقول بقيمة) ما أقدم عليه طه حسين، وهو يتناول مسألة تاريخ الأدب ومنهج الدراسة الأدبية أو المنهج العلمي في البحث الحديث، مهما كان مجال البحث.
6.
ما أثار ‘أنصار القديم’ هو رأي طه حسين في قلب القراءة الموروثة عن العلاقة بين الشعر الجاهلي والقرآن من ناحية، وتحكّم الأسطورة في رواية تاريخ العرب في الجاهلية، من ناحية ثانية. ذلك ما يتفرغ له المؤلف، ابتداء من ‘الكتاب الثاني’، الذي يحمل عنوان ‘الجاهليون : لغتهم وأدبهم’، وفيه يتناول’منهج البحث’، أو المنهج العلمي في البحث الحديث. بهذا بدأ ‘في الشعر الجاهلي’، الذي كان يحمل عنواناً عاماً هو ‘الكتاب الأول’ متبوعاً بكلمة ‘تمهيد’ التي حافظت عليها الطبعة المراجعة بعنوانها ‘ في الأدب الجاهلي’.
منذ الفقرة الأولى من التمهيد تستطيع أن تسمع، عن بعد، صوت طه حسين. إنه واثق مما يقول، مقتنع بإذاعته في الناس، كما يفضل أن يعبر، ومدرك لعواقب الجرأة التي يتكلم بها : ‘هذا نحوٌ من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد، لم يألفه الناس عندنا من قبل. وأكاد أثق بأن فريقاً منهم سيلقونه ساخطين عليه، وبأن فريقاً آخر سيزورّون عنه ازوراراَ. ولكني على سخط أولئك وازْورار هؤلاء أريد أن أذيع هذا البحث، أو بعبارة أصح أريد أن أقيّده، فقد أذعته قبل اليوم حين تحدثت به إلى طلابي في الجامعة، وليس سراَ ما تتحدث به إلى أكثر من مائتين.’
تصرح هذه الفقرة الافتتاحية بكل ما يريد لها طه حسين. إنه يدرك أن الطريقة التي يتناول بها موضوع الكتاب غير مسبوقة في الثقافة العربية. نعم، هناك أولاً كتاب مصطفى صادق الرافعي ‘تاريخ آداب العرب’ ، الصادر في جزأين سنة 1911، وبعده جرجي زيدان الذي أصدر بين 1911 و1914 ‘تاريخ الآداب العربية’. لكن ما جاء به طه حسين ينتقل إلى فضاء نظري، نقدي، له أساسه في منهج الشك الديكارتي. وما كان يهدف إليه هو إبدال دراسة الأدب العربي في مصر، من خلال إبدال منهج القراءة، الذي كان سائداً. حيث إن ما كان يهمه هو الوجه الآخر للدراسة الأدبية، الذي ‘لا يتناول الفن الكتابي أو الشعري، وإنما يتناول البحث العلمي عن الأدب وتاريخ فنونه.’ فهو ينبه القارئ على قصور التأريخ السائد للأدب العربي، فيكتب :’ولا ينبغي أن تخدعك هذه الألفاظ المستحدثة في الأدب، ولا هذا النحو من التأليف الذي يقسّم التاريخ الأدبي إلى عصور، ويحاول أن يدخل فيه شيئاً من الترتيب والتنظيم؛ فذلك كله عناية بالقشور والأشكال لا يمس اللباب ولا الموضوع.’ مذهب طه حسين في كتابه مخالف لهذا المنهج من حيث الخطوات والنتائج. لذلك فإن ‘الفرق بين المذهبين في البحث عظيم، فهو الفرق بين الإيمان الذي يبعث على الاطمئنان والرضا، والشك الذي يبعث على القلق والاضطراب وينتهي في كثير من الأحيان إلى الإنكار والجحود.’
7.
إن اتخاذ الشك الديكارتي منهجاً لإعادة تأريخ الأدب العربي بُوصَلة توجّه مسار القراءة. وهنا يكون التصريح الخاص في الشعر الجاهلي : ‘وأول شيء أفجؤك به في هذا الحديث هو أني شككت في قيمة الشعر الجاهلي وألححت في الشك، أو قل ألحّ عليّ الشكّ، فأخذت أبحث وأفكر وأقرأ وأتدبّر، حتى انتهى بي هذا كله إلى شيء إلم يكن يقيناً فهو قريب من اليقين. ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعراً جاهلياً ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين.’
هذه الفرضية الأولى، التي قلبت الرؤية المطمئنة إلى ثبوت الشعر الجاهلي وصلاحيته في شرح وفهم القرآن، تلتقي بالفرضية الثانية. وهي المتعلقة بمسألة لغة العرب العاربة ولغة العرب المستعربة وما نتج عن ذلك من نفي وجود إبراهيم وإسماعيل. هكذا يكتب :’ للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي.’
إن التصريح بهاتين الفرضيتين، وما يصاحبهما من تركيب، يعود في أسسه النظرية إلى منهج ديكارت. فهذا المنهج يتطلب التخلص من الأغلال : ‘نعم ! يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربي وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل مشخصاتها، وأن ننسى ديننا وكل ما يتصل به، وأن ننسى كل ما يضادّ هذه القومية وما يضادّ هذا الدين، يجب ألا نتقيّد بشيء ولا نذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي الصحيح.’
كانت هذه القولة تتركني صامتاً لما تختزنه كثافتها وما تضيئه من مسافات لا تنتهي. وهي مما كنت أعتمدته في نظرتي إلى الثقافة المغربية، وضرورة تحريرها من استبداد تبعية الثقافي للسياسي، التي هي صيغة محدثة لتبعية الثقافي للديني. ولكن هيهات!
8.
بهذا المعنى تفُوق سلطة ‘في الشعر الجاهلي’ سلطة ‘الأيام’، بل تفُوق سلطة أيّ كتاب آخر من كتب طه حسين. لست في معرض تأريخ ولا تحليل. مع ذلك، يتهيأ لي أنه من المفيد التذكير بأن ردود الفعل الطويلة الأمد على كتاب ‘في الشعر الجاهلي’ اتجهت نحو تكفير طه حسين. إنه التكفير ذاته الذي شاهدنا صوراً منه وقرأنا أخباراً عنه، في الفترة الأخيرة، من خلال ما قام به الجيل الحالي من ‘أنصار القديم’ الذين نزلوا إلى الشوارع ونفذوا ما ارتأوه حكماً ‘إسلامياً’ على طه حسين، وتطبيقاً للحدود عليه، رغم أنه مات قبل عقود. هؤلاء أحفاد مصطفى صادق الرافعي، الذي كان في فترة صدور الكتاب (وهو أيضاً مؤلف ‘تاريخ آداب العرب’ كما أسلفت) أعلى ممثل لفئة ‘أنصار القديم’. هاجم ‘في الشعر الجاهلي’ وعنّف بصاحبه عبر سلسة من المقالات تحولت إلى كتاب شهير بعنوان ‘تحت راية القرآن’. عنوان الكتاب دال. تحوّل القرآن بين يدي الرافعي إلى راية الله. وهو عندما يحملها يكون المقدم على سواه في الحرب على الكافر، طه حسين، الذي يتكلم من وراء الكافر ديكارت وجمْع المستشرقين. عنوان له صورة الحرب والمحارب. حرب الردة في القرن العشرين.
هذا المحارب مضادٌّ للمعرفة الحديثة، يواجه المجددين بسيف الاتهام بالكفر. يكتب الرافعي في المقدمة : ‘ولقد كان من أشدهم عُراماً وشراسة وحمقاً هذا الدكتور ‘طه حسين’ أستاذ الآداب العربية في الجامعة المصرية، فكانت دروسه الأولى ‘في الشعر الجاهلي’ كفراً بالله وسخرية بالناس، فكذّب الأديان وسفّه التواريخ وكثر غلطه وجهله.’ هذا الاتهام هو ما سيتردد على طول الكتاب. ومن مظاهر تأييده، على الخصوص، رأيُ لجنة العلماء بتكليف من شيخ الأزهر، والمرافعاتُ في مجلس النواب، التي كان يتزعمها عضو المجلس عبد الحميد البنان، في سبتمبر 1926، أو النقاشاتُ التي دارت في مجلس الوزراء. نشر الرافعي في كتابه رأي لجنة العلماء ونقل بعض جلسات البرلمان واجتماعات الحكومة. وهي جميعها تلتقي في اتهام طه حسين بالكفر والإلحاد، والأمر برفع دعوى إلى النيابة العامة. ولعل رأي لجنة العلماء تقدم الصيغة التي تمت بها نسبة الاتهام بالكفر والإلحاد. جاء في الرأي : ‘والكتاب كله مملوء بروح الإلحاد والزندقة..’ لذلك طالب العلماء ‘فضيلة’ شيخ الأزهر والحكومة ‘بوضع حد لهذه الفوضى الإلحادية خصوصاً التي تنبت في التعليم لهدم الدين بمعول الزندقة كل يوم.’
9.
كانت الدعوى ضد كتاب ‘في الشعر الجاهلي’ أول قضية أدبية ترفع إلى النيابة العامة. وقد سبق لطه حسين أن تعرض للتهمة ذاتها بالكفر والإلحاد عندما أصدر ‘تجديد ذكرى أبي العلاء’، لكن الخصوم لم ينجحوا في رفع دعوى إلى النيابة العامة كما وقع مع كتاب ‘في الشعر الجاهلي’. ومن حظ الثقافة المصرية الحديثة أن رئيس النيابة العامة محمد نور، المكلف بالتحقيق في الدعوى، كان متفتحاً على الثقافة الحديثة. استندت قراءته للكتاب على المعرفة وأسُسها. وذلك واضح في تقريره، الذي جاء فيه :’ومن حيث أن العبارات التي يقول المبلغون أن فيها طعناً على الدين الإسلامي إنما جاءت في كتاب في سياق كلام على موضوعات كلها متعلقة بالغرض الذي ألف من أجله، فلأجل الفصل في هذه الشكوى لا يجوز انتزاع تلك العبارات من موضوعها والنظر إليها منفصلة وإنما الواجب توصلاً إلى تقديرها تقديراً صحيحاً بحثُها حيث هي في موضعها من الكتاب ومناقشتُها في السياق الذي وردت فيه وبذلك يمكن الوقوف على قصد المؤلف منها وتقدير مسؤوليته تقديراً صحيحاً.’
إن ورود كلمة ‘السياق’ في التقرير يدل على أن رئيس النيابة عارف بأسس الفكر الحديث، التي لا يلمّ بها ‘أنصار القديم’. فكان قراره هو تبرئة طه حسين من التهم الأربعة الموجهة إليه، والمتحدة كلها في تكفيره. تبرئة فتحت الباب لطه حسين ولأنصار الثقافة الحديثة حتى يواصلوا عملهم، في الجامعة وخارجها.
10.
مر اليوم ما يقرب من تسعين سنة على صدور ‘في الشعر الجاهلي’، ومرت على وفاة صاحبه أربعون سنة. أليس من العبث أن نسأل، بعد كل هذا الذي كان : ما الذي بقي من طه حسين في حياة العرب الحديثين ؟ أو أين اختفى كل ما قدمه طه حسين للثقافة العربية ؟ أو كيف امّحى كل أثر لطه حسين في عالم كان يسميه العالم العربي ؟ ثم أليس من العبث أن نسأل : من أين خرج الجاهلون إلى حياتنا ؟ وكيف احتلوا عقول الشبان وخيالهم ؟ وبأي وقاحة رفعوا المعول وهدموا تمثال طه حسين، الذي كافح من أجل تعليم أبناء مصر ؟ عبث أن أسأل أو يسأل غيري. فنحن نعرف ما يكفي من أسباب هذا الاندحار، الذي لا نهاية له، لأن بدايته ضاعت حكايتها وضاع الراوي حيث لم نعد ندري.
أكتفي بأن أثبت هنا ما سجله طه حسين، في خاتمة الجزء الثاني من ‘الأيام’، بخصوص موقفه عندما عاقبه شيخ الأزهر مع صديقيه بمحو أسمائهم من لائحة الطلبة، ووجد نفسه وحيداً بدون أمل في الرجوع للدراسة : ‘ولكن الفتى لم يكن يعرف رفقاً ولا ليناً؛ فلم يسع إلى أحد ولم يتوسل إلى الشيخ بأحد، وإنما كتب مقالاً عنيفاً يهاجم فيه الأزهر كله وشيخ الأزهر خاصة ويطالب بحرية الرأي.’
موقف لا يعرف رفقاً ولا ليناً. كذلك كان المشي على طريق الثورة. وحين أعود اليوم إلى ذكرى ثورة طه حسين فأنا أعود بدون واجب. هذا كاتب، مفكر ومبدع، يظل حاضراً في حياتي. بيننا كلمة الحرية تعلو في برد وحدتها. ولي منه ما أتعلم مستقبلاً، كما تعلمت ماضياً، من دروس المعرفة والإبداع والعزلة والصبر والمقاومة.
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو