الأربعاء 2024-12-11 11:50 م
 

إقصاء الآخر غير مثمر

01:05 م

يظن البعض أن بإمكانهم أن يقوموا بإقصاء الدّين من حياة الناس، وهذا وهْمٌ بلا شك. فالمحافظة على الدين بالنسبة للإنسان المتديّن حاجة ضرورية، كحفظ النفس والمال والنسل، فلا يمكن له أن يتركه أو يساوم عليه.اضافة اعلان

فللدين دور مهم في حياة أتباعه، حيث يجيب عن أسئلتهم الوجودية الكبرى، لماذا أنا موجود، ومن أوجدني، ولماذا أعيش، ولماذا أموت، وماذا بعد الموت؟ كل هذه الأسئلة الوجودية وغيرها يجد المتدين جوابها في معتقده أو كتابه، فصار الدين ضرورة لا يمكن أن يستغني عنها المتدين من الناس؛ لأنّ الدّين قد أعطى للموت وللحياة معنى.
ومن خلال الدين يتحمل الإنسان المرض والتعب والفقر؛ لأن الدين يعطيه الأمل بالتغيير، وأنه سيثاب على صبره؛ لأن ما يحصل له ابتلاء، والله إذا أحب عبدا ابتلاه، فيتجاوز بذلك عقبات الحياة صابرا راضيا وكله أمل بخالقه؛ لأنّ الإله يتصف بالقوة والقدرة على كل شيء، فيعيش الإنسان على أمل أن يتغير الحال بقوة الإله إذا شاء.
ولا ننسى المنظومة القيمية والأخلاقية التي يقدمها الدّين لأتباعه، مثل: برّ الوالدين، والصدق، والإخلاص، والإحسان إلى الجار، والصفح عن المسيء، ...الخ. ممّا يساهم في رقيّ الفرد والمجتمع من الناحية الأخلاقية والسلوكية.
فالدين يقدم منهجا لفكر الإنسان وسلوكه، مما يجعله هوية له، يصعب جدا فصل أحدهما عن الآخر، بسبب التماهي بينهما، ومحاولة إزالة أحدها هي محاولة إزالة للآخر، لذلك كله وغيره كانت محاولة إقصاء الدين من حياة الناس غاية في الصعوبة.
وربما يستدل البعض بما حصل في أوروبا من نهضة علمية، يزعم أن قوامها التخلص من الدين في حياة الناس، ولولا ذلك لكانت أوروبا غارقة في ظلمات العصور الوسطى. وهذه مغالطة كبير؛ لأن ما حصل في أوروبا هو تراكم معرفي أدى إلى النهضة العلمية، ولا تخفى مساهمة علماء الإسلام في هذا التراكم المعرفي. والأمر الثاني، وهو شق سياسي إلى حد كبير، يتمثل في التخلص من سلطان رجال الدين على الحياة العامة للناس، حيث قصر سلطانهم في الكنائس على أتباعهم، بعيدا عن السياسة والحكم وتدبير شؤون البلاد، إذ كان رجال الدين قوة موازية للنظام الحاكم في تلك البلاد. وهذا ما تبنته تلك الدول وعرف بالعلمانية، التي هي فصل للسلطة السياسية عن السلطة الدينية، ولا يعني محاربة الدولة للدين كما يفهم البعض؛ بل إن بعض هذه الدول (العلمانية) تخصص من موازنتها أموالا تدعم فيها مختلف الأديان في الدولة؛ لأنها تقف على مسافة واحدة من الجميع.
لكن نشأت علمانيات متطرفة حاولت أن تقصيَ الدين من حياة الناس، ولم ترغب بالتعايش معه، فمثلا ما حصل في تركيا في السابق، من حرب على الإسلام وشعائره، ففي عام 1925 منع رفع الأذان وأداء الصلاة في أيا صوفيا، وتم تحويل القرآن الكريم إلى اللغة التركية وقراءته بها بدلًا من العربية على الرغم من اعتراض شيخ الإسلام آنذاك. ولكن ما النتيجة؟ بعد سنوات من محاولات الإقصاء القاسية، يحكم حزب العدالة والتنمية ذو التوجه الإسلامي البلاد، أي أن كل محاولات الإقصاء باءت بالفشل. ومثله يقال عما حصل في تونس الخضراء.
إذن، ما الحل؟ الحل في أن يتقبل كل طرف وجود الآخر، وحريته في اختياره معتقده، وهذا لا يعني أنني عندما أحترم الشخص أو حريته في اختيار معتقده أنني أوافقه على معتقده بالضرورة، بل يعني أنني أعطيه ما أطلبه لنفسي، من أنني حر في التعبير عن نفسي، وحر في اختيار ما أراه صالحا لي. فلا بد من سياسة الاحتواء والتقارب والتفاهم والحوار، بدل سياسة الإقصاء التي تقضي على حرية الإنسان، وتدوس على كرامته، ولا تثمر إلا مزيدا من الشحناء والبغضاء والانقسام. من خلال الحوار والتركيز على المشتركات، وتقديم مصلحة الوطن والمصلحة العامة على المصلحة الفردية للأشخاص ستبنى جسور الثقة بين مختلف الأفراد، وتنشأ الشراكة بينهم لخدمة الوطن ورقيّه.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة