السبت 2024-12-14 11:44 م
 

الأبنودي والفيتوري .. وداعاً

12:41 م

طبعاً توجع القلب هذه الأخبار المتلاحقة فقبل أيام تلقينا نبأ رحيل الشاعر الشعبي الكبير عبد الرحمن الأبنودي ابن الصعيد, الذي بنى أهرامات من سحر الخيال والكلمات الراقصة الجميلة كأهرامات مصر, والذي بدأ ملتزماً وبقي ملتزماً إلى أنْ أضناه المرض والتعب وغادر بعد قصيدة جارحة تحدث فيها عن عمته لكنه من وراء السطور كان يخاطب نفسه وكان يستهزئ بالموت بل ويطالب «عبد الرحمن» بأن يتحداه وأن لا يخشى مجيئه ذات يوم واقترابه منه . اضافة اعلان

مساء أمس الأول, الجمعة, رحل محمد الفيتوري الذي تألق وعرفه جيلنا في نهايات ستينات القرن الماضي وبدايات سبعيناته والذي كان شاهداً مثله مثل نزار قباني ومحمود درويش والطيب صالح وسميح القاسم على مرحلة ظنناها اللحظة التاريخية التي ستضع العرب على بداية مسيرة مجيدة كتلك المسيرة التي أوصلت فرسانهم إلى «بواتيه» على بعد عشرات الكيلو مترات من باريس في الغرب وإلى سور الصين العظيم في الشرق البعيد.
كنت أعتقد أن «الفيتوري» من ليبيا لكنني اكتشفت ليس متأخراً أنه من السودان.. هذا البلد الجميل الذي لم يكتشف العرب حتى الآن عذوبته حتى بعد أنْ أُبتُلي بظاهرة الانقلابات, التي غدت متجذرة فيه وللأسف, إنْ بالنسبة لموسيقاه الانسيابية الجميلة وإنْ بالنسبة لشِعْره المتميز وإنْ بالنسبة لطيبة ناسه ودماثتهم وسمو أخلاقهم و لحدائهم الصوفي.. وتأثيرهم الثقافي على كل الشعوب الإفريقية المجاورة .
عرفت الطيب صالح عن قرب في المرحلة اللندنية حيث بقي يكتب الصفحة الأخيرة في مجلة «المجلة», التي كنت قد زاملتها ردحاً من الزمن, قبل أن تغيب وللأسف كما غاب هؤلاء المبدعون, وكنت قبل اللقاء به قد قرأت له في المرحلة البيروتية, التي امتدت لإثني عشر عاماً, «موسم الهجرة إلى الشمال» التي اعتبرت واحدة من أفضل الروايات العربية في القرن العشرين.. وأنا أجزم بأنها أفضل الروايات العربية في هذا القرن العشرين.. وفي ما مضى من سنواتٍ من القرن الحادي والعشرين .
كنت قد التقيت عبد الرحمن الأبنودي في عام 1982 عندما جاء إلى بيروت, المحاصرة من السماء والبحر ومن أربع رياح الأرض, في إطار وفد مصري يضم عدداً من الفنانين والسياسيين هو الوفد العربي الوحيد الذي اخترق الحصار وهكذا وخلال الأيام التي قضاها معنا كنا نستمتع بـ «نقْرات» عوده الجميل وصوته الهادر وكلماته التي كانت تخرج من صدره لتختلط بهدير المدافع وأزيز الطائرات وزمجرة الإنفجارات.. لقد كان يأخذنا من ألم الشعور بالاستفراد ورداءة المرحلة العربية إلى عالم الأحلام الجميلة وإلى رؤية الورود التي ربما لم تزهر ولم تبرعم حتى الآن .
كلهم رحلوا حتى نزار قباني ويوسف الخال وممدوح عدوان ومؤنس الرزاز وموسى شعيب وشاعر العروبة الكبير سعيد عقل الذي أصيب بـ»فايروس» الطائفية في أواخر حياته... كلهم رحلوا حتى بلند الحيدري الذي كان يشاركني أو أنا أشاركه مكتبه في مبنى: «ARAB PRESE HOUSE « في لندن حيث تصدر الشرق الأوسط ومجلة المجلة وسيدتي والرجل وحيث كان يتربع على عرش «الكاركتير» أستاذي محمود كحيل الذي درَّسني «الإخراج الصحافي» في كلية الصحافة والإعلام في الجامعة اللبنانية.. آه ما أحلى تلك الأيام وما أمرها.. هل أنني أحسُّ بالألم الآن لأن زهرة العمر قد ولَّت وهي لن تعود أم لأن أحلاماً كانت قد أخذتنا إلى غيوم السماء ثم اكتشفنا بعد كل هذه السنوات المريضة أننا لا نزال في منطقة هي الأكثر انخفاضاً في الكرة الأرضية.. الوداع أيها الراحلان.. وأطيب التحيات لمن سبقوكما إلى دنيا الخلود !!


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة