الجمعة 2024-12-13 10:19 ص
 

الحكيم المُتّكئ على السنديانة

04:17 م

الوكيل - تفاجأت مثلي مثل غيري من الناس، برحيل الكاتب والباحث اللبناني كمال الصليبي في الأول من سبتمبر 2011، والحقيقة أنني كنت أظنه قد رحل قبل هذا التاريخ، إذ ابتعد الرجل الذي شغل الباحثين والدارسين بكتابه التوراة جاءت من الجزيرة العربية.اضافة اعلان

أقول ابتعد عن الاضواء وعن البرامج الثقافية على قلتها- في القنوات الفضائية العربية، وفضّل أن يكون كالطائر الحكيم المسن الذي حطّ على السنديانة، كلما رأى أكثر تكلم أقلّ، كلما تكلم أقل سمع أكثر، لماذا لا نكون جميعا مثل هذا الطائر الحكيم المسنّ؟، وكان الصليبي قد دوّن هذه الأبيات من تراث الأدب الانجليزي للأطفال على غلاف مذكراته المعنونة بطائر على سنديانة والتي صدرت عن دار الشروق للنشر والتوزيع عام 2002.
يقول الصليبي عن كتابه هو سجل لأشياء أذكرها حاولت أقصى الجهد في ما عدا بضعة مقاطع في الفصلين الأوّلين، أن أروي مشاهداتي والروايات التي سمعتها تماما كما أذكرها دون أن أخضعها لأيّ تحليل، ودون المزج بين ما أذكر وما صرت أعرف عن أي شيء شهدته أو خبرته لاحقا.
لقد كُتبت المذكرات بسرد تاريخي شيق، لكأنها حكاية أراد لها صاحبها أن ينسجها على مر السنين ، وإن كانت تبدو أكثر تفصيلا في المرحلة الأولى، التي بدأ فيها من عائلة الصليبي التي ينسبها إلى العيد الذي يقع في 14 أيلول/ سبتمبر، والذي يعتبره أهل الشام اليوم الفاصل بين الصيف والخريف، حيث يطلق النصارى اسم الصليبي على المولود يوم عيد الصليب، والمسلمون مثلهم مثل النصارى، كانوا يطلقون صفة الصليبي على نتاج الموسم الرعوي أو الزراعي لعيد الصليب.
يذكر كمال الصليبي أن الفضل في تعلّم أجداده، يعود إلى شابين من مسلمي بيروت كانا مختبئين في غارة وهما هاربان من الجندية التي كان إبراهيم باشا فرضها آنذاك على مسلمي البلاد، دون النصارى، وقد تعرف عليهم شاهين الصليبي أحد أجداد كمال- واستضافهما في بيته وخلال مكوثهما عند عائلة الصليبي كانا يصطحبان سليمان أخا شاهين، إلى ضفاف نهر الغابون أسفل بحوّارة فيعلمانه القراءة والكتابة على الطين عند حافة النهر، وكانوا يتخذون من نبات الغزّار أقلاما يكتبون بها على قطع من الخشب، مستخدمين وحل النهر بدلا من الحبر. نطالع في الكتاب أيضا بعضا من الأحداث التاريخية التي يذكرها كمال الصليبي دون التعميق في تفاصيلها فمثلا يذكر أن بريطانيا قد أنزلت قوات عسكرية هي وحليفاتها على الساحل اللبناني لمساعدة الدولة العثمانية في إخراج القوات المصرية من الشام، وذلك عام 1840.
يتحدث الصليبي عن أيامه في المدرسة الاستعدادية في بيروت وطلابها، فيتحدث مثلا عن الطالب البحريني يوسف أحمد الشيراوي والطالب الكويتي أحمد الخطيب وخالد القرملي من مكة، كما يذكر أيضا بداية تكون تنظيم القوميين العرب، فيقول قضيت معظم ذلك الصيف في بيروت، حيث صار لي في ‘سيج هول’ غرفة أسكن فيها: أتردد كل يوم إما على بيت سعد، أو على بيت البارودي أو على بيت أبو الجبين، أو أزور يوسف الشيراوي في ‘البريتش كاونسل’ عندما أكمل مبنى هذه المؤسسة، انتقل إليه جميع طلاب الجامعة الذين يحملون منحا منها، وفي جملة هؤلاء صديقي أحمد الخطيب وغيره من الناشطين في جمعية العروة الوثقى، أذكر منهم جورج حبش، وإن لم أعرفه جيدا. ومن الذين يجتمعون مع أحمد وجورج في ‘البريتش كاونسل’ أو ربما يسكنون أيضا هناك، علي منكو(درس معي القانون الروماني في صفّ الدكتور محمصاني) وهاني الهندي (كان يجلس إلى جانبي في صف للدكتور فريحة درسنا فيه تاريخ الشرق الأدنى القديم)، ووديع حداد (تعرفت عليه جيدا عندما كان يشارك أحمد الخطيب مسكنا في شارع بلس في إحدى عطل الصيف) وغيرهم من الذين لم أعد أذكر اسماءهم، وكان واضحا أنّ المكانة الأولى بينهم هي لجورج حبش، من الظرفاء من أطلق عليهم اسم ‘حزب الوشوشة’ لكثرة تهامسهم في ما بينهم، وسمعت لاحقا أنهم يسمّون أنفسهم ‘حركة القوميين العرب’، وأن الأب الروحي لهذه الحركة هو الدكتور قسطنطين زريق.
لا أقدّم هنا ملخصا لهذه السيرة الجميلة ولا يحق لي ذلك، ولكن من الملفت للاهتمام وإن يكن اهتماما ذاتيا هي مقاربات الصليبي للألفاظ في التوراة فقد وجدت بعض التشابه بين هذه الالفاظ مع ألفاظ من اللغة الشحرية لغتي الاولى- التي تعد من اللغات العربية الجنوبية، فيقول مثلا ترد في المزمور 23من التوراة لفظة ‘صلموت’ على وزن ‘حضرموت’، وقد حُرّكت تقليديا لتلفظ بالعبرية (وهي الكنعانية) ‘صل ماوث’ بمعنى ‘ظل موت’ ومن ذلك الترجمة التقليدية للجملة التي ترد فيها هذه اللفظة’ ‘أيضا إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرّاً لأنك معي’ لكن من علماء التوراة من يقترح إعادة تحريك اللفظة لتُقرأ ‘صلموث’ جمع المؤنث الكنعاني من صلمه يقابلها بالعربية ‘ظٌلمة’ إذن: ‘ أيضا إذا سرت في وادي ظلمات لا أخاف شرّاً، هنا أقول إننا ننطق الظلمة في اللغة الشحرية ‘ظِليوت’، ويورد الصليبي مثالا آخر هي لفظة ‘حضرموت’ فيقول إذا أعيد تحريك لفظة ‘حصرموت’ التوراتية لتُقرأ ‘حصرمُوث’ قياسا على تحريك ‘صلموت’ لتُقرأ ‘ صلموث’ يصبح لدينا جمع المؤنث’ الكنعاني للمفرد ‘حصرمه’ يقابلها بالعربية إما ‘حصرمة’ أو ‘حضرمة’ أو ‘خصرمة’ أو ‘خضرمة’ ويقول الصليبي أنا أقترح ‘خضرمة’ بمعنى الواحة ومن ذلك جمع المؤنث ‘حضرموت’ كاسم مكان بمعنى ‘خضرمات’ أي واحات، علما بأن وادي حضرموت هو امتداد من الواحات، وأنا أزيد على ما قاله الصليبي بأننا نطلق على الأرض الخضيرة في اللغة الشحرية ‘خضيرت’ والضاد شدقية تخرج من الشدقين، وهناك الكثير من الالفاظ الواردة في التوراة والتي تتطابق مع بعض الكلمات في اللغة الشحرية، بما يؤكد صحة ما ذكره الصليبي بأن التوراة جاءت من جزيرة العرب، وكذلك ما يذكره الكاتب العراقي فاضل الربيعي في كتابه فلسطين المتخيلة.
رحل الحكيم كمال الصليبي تاركا إرثا معرفيا وفكريا لا ينضب، وهذه التركة بحاجة إلى مواصلة البحث والتدقيق وكشف المزيد من البحوث لإثراء الثقافة العربية.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة