السبت 2024-12-14 04:12 م
 

الشاعر صلاح بوسريف: هذا الوضع الكارثي أفضى إلى حشر المثقف في زاوية ضيقة!

10:12 ص

الوكيل - الشاعر المغربي صلاح بوسريف مبدع إشكالي، يمتلك حسا دقيقا بالمرحلة الراهنة المتسارعة التحولات ودون ‘سكة’ حقيقية في العالم العربي . لذا فشاعرنا لا يراكم الأغلفة والمقالات كغاية في حد ذاتها، بل هو صاحب مشروع وأفق في حاجة إلى نقاش حقيقي، لتبادل الحرقة أولا، والتأسيس لمساحات فكرية على أساس عقلاني وحداثي ما أحوجنا إليها في ثقافتنا العربية المعطوبة .اضافة اعلان

بهذا، وإنصافا لهذا الرجل الذي لايهدأ له بال في صميم الحدث العربي المركب، آثرنا أن نفتح معه سلسلة حوارات منتجة ومولدة، الأول منها يتعلق بالمثقف العربي وعلائقه ضمن مشهدية الوضع وتراجيديته التي تجعل المسألة الثقافية موضع تساؤل دائم ؛ نظرا للهيمنات ذات الترسانات والتأجيلات ذات التركات العقيمة والأصول المحنطة . على أمل التأسيس لحوارات معرفية، تقتضي ذهابا جماعيا عوض الانكفاء
على الذات ورعاية إمبراطوريات الوهم . فتبقى الطريق في الطريق دون حضور ورجات حقيقية.
أدعوكم لنقرأ أولا، وننخرط في هذه المساحات التي ليست ملكية خاصة، بل مفتوحة على الطرح، وتبادل الأفكار، في اتجاه أفق ينتظر منا الكثير.

‘ ضمن التحولات المتسارعة للمرحلة والتراجيديات التي ترخي بظلالها على الجميع، تتعدد صور المثقف العربي، وتتعدد في المقابل الأسئلة حول موقعه وأدواره..أي صورة تحددها أولا لهذا المثقف ؟
‘ لايمكن بآي حال أن نتكلم بعبارة إدوارد سعيد عن ‘صورة المثقف’، هكذا بالمفرد، فنحن، دائماً كُنَّا بإزاء صُوَرٍ للمثقف، أو مثقفين بصور، وبوجوه، وبأقنعة مختلفة، في ما يمكن أن نعتبره مواقف، ووجهات نظر، تختلف، بحسب اختلاف المرجعيات، ومصادر التكوين، والمعرفة التي خرج منها هؤلاء، أو كانت مصدر فكرهم. فكما كتبتُ، في أكثر من مقال، في هذا الموضوع، فأنا تَحّدثْتُ عن هذه الصُّوَر، أو حاولتُ تشخيصها، باعتبارها من بين الصور التي باتت اليوم، في هذا الوضع ‘التراجيدي’، كما تسميه، الأكثر حضوراً. أعني المثقف المُتَحَلِّل من كل الالتزامات، بما فيها التزامات المثقف، أمام نفسه، باعتباره صاحب أفكار، ومُشاركاً في الشأن العام، في ما يقوله ويكتبه. فهو يتأمَّل، ويُحلِّل، و ينتقد، ويقترح أفكاراً، وحين يعتبر نفسه غير معني بما يجري في الواقع، فهو يكون مثقفاً مُسْتَقِيلاً، وليس مُسْتَقِلاًّ، فالمسافة بين الاثنين كبيرة، وفارقة. وهناك المثقف الدَّاعية، الذي أفرزته هذه السلفيات التي أصبحت اليوم بين ما يجب أخذه بعين الاعتبار. أعني هذا الذي يتخذ من الدِّين، في تأويلاته الخاصة، مرجعه الوحيد، والدين، هنا، ليس سوى الإسلام، وليس اليهودية أو المسيحية، أو غيرهما من المعتقدات التي لا يُفَكِّر فيها بتاتاً، أو يتَّخِذ منها موقفاً حاسماً، دون أن يعرفها.
المثقف الملتزم، هذا المفهوم بدروه أصبح غير ذي معنى، لأن مفهوم الالتزام يحتاج لمراجعة، وفحص، واختبار، وربما إلى تفكيك، لمعرفة ما نريده، وما نقصده بهذا المفهوم. أما المثقف الليبرالي، واليساري، أو الماركسي، سابقاً، فهؤلاء اليوم لا يفكرون في تجديد أفكارهم، والخروج بها من تاريخها الذي انتهت صلاحيته، لأن ثمة معطيات جديدة، وكثيرة، وشركاء آخرين دخلوا على خط الثقافة، أو أصبحوا فاعلين اجتماعيين وثقافيين، من الصعب تجاهلهم، أو التغاضي عنهم.
المثقف، اليوم، في صورته العامة، يعيش خارج ما يجري، ثمة أفراد قلائل، هم من لا زالوا يكتبون، ويواكبون ما يجري، دون التنازل عن أسئلتهم، واختياراتهم، وهؤلاء هم من اختاروا منذ البداية البقاء خارج المؤسسات، بكل ألوانها. وهذا ما يجعل من أصواتهم غير مسموعة، لأنها شاذة، عن العام، المُبْتَذَل، وتصدر عن فكرٍ نقدي، تحرُّريّ، ينتصر لـ ‘ الحقيقة ‘، أو لِما يصل له من حقائق.
نحن، في ما يتعلق بالمثقف، أمام مرآة مشروخة، حين تنظر فيها تجد الصورة الواحدة، مُمَزَّقَةً، ومُوَزَّعَةً، في نفس الفضاء، على أكثر من شَرْخ. وما يجري. في الواقع العربي الراهن، من انقلاب على الأنظمة القائمة، والثورة عليها، زاد من فضح هذه الصورة المشروخة، الممزقة، وكشف تهافت الكثير من المثقفين، ممن كانوا بالأمس من أنصار النُّظُم العسكرية، ممن انقلبوا عليها، وأصبحوا يتكلمون باسم الثورة، التي هم يرفضونها، أساساً، لأنها عصفت بمصالحهم، ولا تدخل، أساساً في فكرهم.
‘ بكل تأكيد، كما أشَرْتَ، تتعدد صور هذا المثقف : مثقف الدولة، مثقف الحزب، مثقف المؤسسات الثقافية المعطوبة …وكلها صور تشوش على المثقف الحر الذي يسعى إلى خلق مساحات رأي معرضة للصد . تعليقك الأستاذ بوسريف .
‘ هذا هو التَّمَزُّق الذي أشرتُ إليه. فالمرآة متعددة الجروح، ولا تُتِيح لنا رؤية الوجه في صورته الحقيقية، أو كما ينبغي أن نراه. ثم إن هذا التشتت داخل مساحة المثقفين أنفسهم، كان دائماً موجوداً، وكانت الدولة، تعمل على استدراج المثقفين لتبرير سياساتها، ولاستعمالهم كدروع لتحتمي بهم من ‘العَوامّ’. الفقهاء، كانوا يقومون بهذا الدور، كما قام به الشُّعراء، في مراحل نشوء الصراع السياسي، في حكم الأمويين، فكلما كانت الدولة في حاجة لشرعية ما، فهي تستعمل ‘رجال الدين’، وأعني هنا الفقهاء، والمثقفين، بالمعنى الذي يجعل من المثقف يصدر عن غير مرجع الفقيه، الذي يحشر نفسه في الفتوى، وفي الوعظ والنصيحة.
المثقف، بهذا المعنى، موظف، يَتِمّ استعماله، وتوظيفه للدفاع عن عقيدة الدولة، واختياراتها، وعن عقيدة الحزب واختياراته، ولا يصدر هذا المثقف عن اختياراته هو، وعن رؤيته الخاصة، بل إنَّ السياسة، هي التي تستعمل المثقف، وتُوَجِّهُه، في حين أن العكس هو ما ينبغى أن يكون. وهذه هي حالة العطب التي أدَّت إلى تفاقُم انهيارات المثقفين، وتفاقم انهيار اختياراتهم.
في مصر الناصرية، وفي سوريا، والعراق، وحتى في ليبا القذافي، انكشف هذا التهافُت، وهذه الانتهازية، التي دفعت المثقفين للانجرار وراء ديكتاتوريات، لم يتوانوْا في الدفاع عنها، واعتبارها ثورية، وكتابات هؤلاء، وما شاركوا فيه من مهرجانات، وحصلوا عليه من أموال، يشهد بهذه الانتهازية، وهذا التهافُت الذي ليس من سلوك المثقفين المُسْتَقِلِّين، أصحاب الفكر الحداثي التنويري، الذي يقوم على النقد، واجتراح الأفكار، لا اجترارها.
وهذا ما حدث عندنا في المغرب، إبَّان ما سُمِّيَ بحكومة التناوب، التي دخل فيها اليسار، إلى السلطة، المثقف اليساري، لم يُراع المسافة اللازمة، ولم ينْأَ بنفسه عن السياسي، ليبقى الضمير المراقب لِما يجري، وللتذكير بالمباديء، ويُنَبِّه للانحرافات. المثقف بالعكس، وخصوصاً مثقفو الاتحاد الاشتراكي، انساقوا دفعة واحدةً نحو غنائم السلطة، ما سيُفضي لموت الحزب في ما بعد، نتيجة فشله الذريع في حل المشاكل المطروحة، بل إنه كان فرصةً، استغلها الإسلامويون للوصول إلى الحكم، لأن الاتحاد بقدر ما كان حزباً قوياً، راهَن عليه الجميع، بقدر ما كان لحظة الحسم، في كشف انتهازية السياسي، والمثقف معاً.
هذه بعض أوجه الجروح، أو الشروخ التي نراها على المرآة، وهي مرآة مشروخة، مُشَوَّشَة، لا يمكن استشفاف الرؤية، فيها بوضوح.
‘ يفضي بنا هذا النقاش إلى علاقة الثقافي بالسياسي في وجهه الحزبي أو الرسمي، كما أشرتَ،. كيف تشخصون هذه العلاقة المحكمة بالهيمنة والتأجيل؟
‘ يبدو أنَّ السياسة، من خلال المعطيات التاريخية لهذه العلاقة، هي المستفيد الأول من الثقافة، أي من المثقف الذي، بدل أن يدخل السياسةَ من باب الثقافة، فهو، دائماً، يختار العكس، فتبقى الثقافة. عنده، تالية على السياسة، أو تابعةً لها. هذا يَتِمّ، في مستوى التبعية للدولة، أو السلطة، بالأحرى، كما يتم في مستوى التبعية للحزب.
الثقافة هي ما يقود السياسة، ويُوَجِّهها، أو يفتح أمامها الطُّرُق، وهذا هو ما لا يحدث في الواقع، كون المثقف، لا سلطةَ له، سوى سلطته الرمزية، التي لا تجد لها، في الغالب قاعدةً، فالأمية منتشرة في مجتمعاتنا بشكل واسع، ناهيك عن الجهل، وغياب قاعدة واسعة من القُرَّاء، والكِتاب، أو القراءة عموماً ليس عليها إقبال، وهذا، طبعاً يعود لطبيعة السياسات التعليمية التي اتبعتْها الدول العربية، وهي سياسات أدَّت إلى إفراغ المتعلمين من الحس النقدي والمعرفي، ما جعل مجتمعاتنا تنتقل للتقنية، والحِرفِيَة، في مجال العلوم، دون تكوين معرفي، مبني على المعرفة بمفهومها العام.
هذا الوضع الكارثي، هو ما أفضى لحشر المثقف في زاوية ضيقة، واليوم، حتى مع وجود القنوات الفضائية، وشبكة النيت، ظهر نوع من المثقفين الخُبراء!’ في كل شيء، وهؤلاء يستعملهم الإعلام للترويج للأحداث الطارئة، أما المثقف الحقيقي، فهو لا يمكن أن يكون تابعاً لآلة الإعلام، لأنه صاحب فكر ونظر، وهو لا يملك أجوبة جاهزةً. ومثقف السلطة والحزب، هو أيضاً، مثقف عند الحاجة، وليس مثقفاً له أفكار، وله مشروع يدافع عنه، ويعمل على تكريسه. هذا النوع من المثقفين، هم من يعملون على تأجيل الأفكار الأساسية، والأسئلة الكبرى، وهم من يهيمنون على المؤسسات، ووسائل الإعلام، ويعطون صورة سيئة عن مفهوم الثقافة والمثقفين.
‘ قد تتأثر المؤسسة الثقافية في الأقطار العربية بالوضع العام والتصورات المراوحة دوائرها .هل هذه المؤسسات منشغلة اليوم بالسؤال الثقافي الذي يقتضي مشروعا ثقافيا متوافقا حوله أم أنها تجري وفق الهوى وقشور النظر، هذا فضلا عن الانتهازيات المقنعة ؟
‘ هذا ما حاولتُ أن أُوَضِّحَهُ، قبل قليل. المعرفة، في العالم العربي، لا تصدر عن مؤسسات. الذين هم اليوم في قلب المعرفة، لا علاقة لهم بالمؤسسة، من مفكرين، ومثقفين، ومبدعين وشُّعراء. إذا نظرتَ في المشروعات الفكرية، والإبداعية المؤثِّرة، في المشهد الثقافي العام، والتي كان لها دور في حَرْف مسار الفكر السلفي الماضوي، والقَطْع مع الفكر الاجتراري، الذي لا يقبل التقدم، أو التَّصَيُّر، ستجدهم، كانوا، دائماً، خارج إطار المؤسسة، وهم يعملون بمجهوداتهم الفردية، لأن الدولة، إذا قبلتهم، فهي ستفرض عليهم أن يعملوا وفق ما تريده، لا وفق فكرهم، ونظرهم هُمْ.
عندنا في المغرب، محمد عابد الجابري، لم يعثر على مشروعه، بغض النظر عما نتفق معه فيه، أو نختلف فيه معه، إلاَّ عندما استقال من مسؤولياته داخل الحزب. فهو كان ضمن قيادات الاتحاد الاشتراكي، وهو نفسه عبَّر عنه هذا. وهذا ما ينطبق على محمد أركون، الذي كان لوجوده في فرنسا ما ساعده على العمل بحرية أكثر. أدونيس أيضاً، عمل خارج المؤسسة، وتحرَّر مبكراً من الحزب القومي السوري، وثمة كثير من المثقفين الذين أدركوا أنَّ المؤسسة عائق أكثر منها حافزاً على العمل والتفكير.
المؤسسات التي بدأنا نراها اليوم تظهر، بدعم من دول الخليج، بشكل خاص، أنا أتساءل، مثلاً، إلى أي مَدًئ ستكون حُرَّة في عملها، وفي ما ستعمل عليه من أفكار وقضايا. ولدينا تجارب سابقة، كشفت عن انتهازيتها، فحالما تظهر بوادر خلاف، أو يتغير أمر ما في ما يمكنه أن يكون في صالح الطَّرَف الدَّاعِم، تتوقف هذه المشاريع،
و ينتهي كل شيء. ثمة خطوط حمراء يعرفها المثقف قبل أن ينخرط في هذا المشروع.
‘ بم تفسرون تراجع المثقف الآن أمام وضع كارثي وسلفية تسعى أن تطال كل شيء، بما في ذلك أجساد المثقفين المجروفة في موجات الزبد والأبواق ؟
‘ المثقف في أوربا، إبَّان هيمنة الكنيسة، وسلطتها المطلقة على الحياة العامة، عمل على التأسيس لأفكاره بتبني المراجعة، والنقد والتفكيك، وكان الدين بالنسبة له، هو العائق، لِما كان له من دور في الانتصار للماضي، ووضع الله، في مقابل الإنسان. فبدايةً من القرن السادس عشر، شرعت أوربا في النهوض، وفي المراجعة، وفي إفراغ المقدس من أسطوريته، ومن أفكاره الخرافية، وأعطت للفكر التاريخي أهمية كبيرة. فما ذهب إليه فكر الأنوار، هو نتيجة عمل دؤوب، ونضالات فكرية حقيقية، كانت نتيجتها وضع الدين خارج سياق الدولة، باعتباره خياراً فردياً، وليس قَدَراً مفروضاً على الإنسان، وهذا ما أفضى للعلمانية التي قررتها فرنسا، بشكل رسمي في بدايات القرن العشرين، لتفصل بذلك بناءً على قولة المسيح الشهيرة في ما بين ما لله لله، وما لقيصر.
عندنا، الدين، بمفهومه السلفي المتطرف، هو الذي يكتسح، وينتشر، وللنُّظُم الحاكمة دور كبير في تكريس هذا الوضع. يمكن هنا، أن نعطي مثال أنور السادات، الذي استقوى بالإسلامويين، لمواجهة اليسار، بمختلف شرائحه، فكانت النتيجة انقلاب هؤلاء على السادات نفسه. المشكلة في العالم العربي، هي أنَّ الدولة لا تلتجيء للفكر التنويري، في صورته السطحية التزينية، إلا عندما تجد نفسها أمام زحف هذه السلفيات الإرهابية القاتلة. في المغرب، تَمَّ منع تدريس الفلسفة، وحذفها، في التمانينيات، من المدارس، ومن الجامعات، وتعويضها بالفكر الإسلامي، وبشعبة الدراسات الإسلامية، وحين حدثت التفجيرات الإرهابية بمدينة الدارالبيضاء، انتبهوا إلى غياب الفلسفة، وانتشار الفكر الديني السلفي الماضوي، فأعادوا الفلسفة للمدرسة والجامعة، لكن بالصورة التي لا يصير معها الطالب صاحب فكر تفكيكي انتقادي، فهو سيكتفي بمعرفة المباديء الأولية في الفلسفة.
انظر ما قام به الإخوان المسلمون في مصر، حين تولَّوْا شؤون البلاد، فوزير التعليم قام بحذف إجبارية الفلسفة، في مقابل إجبارية الفكر الإسلامي، أليست هذه هي الصورة نفسها التي حدثت عندنا في المغرب في الثمانينيات، وكانت نتيجتها كارثية علينا؟
إننا سنبقى رهائن في يد هذه السلفيات القاتلة، ما لم نُعِد النظر في تعليمنا، وفي دور المثقفين، في إعادة تأهيل المجتمع، ووضعه في سياق الفكر النهضوي، التحرري، الحداثي، التنويري، الذي يكون فيه الإنسان سيد نفسه، وليس رهينةً، لا في يد الجامع، ولا في يد الكنيسة، أو الدولة التي ما زالت تستعمل الدين لتبرير سلطة الحاكم، ولوضعه فوق النقد، وفوق المحاسبة.
‘ التأسيس لمساحات عقلية وحداثية، يقتضي مراجعة الأصول باستمرار . وهو شيء ملح في ثقافتنا العربية . طالما أكدتَ على هذا الأمر . لكن بأي معنى ؟
‘ المراجعة، هي جوهر الحداثة. الذين اعتبروا الحداثة انتهتْ، وأننا نعيش زمن وفكر ما بعد الحداثة، في العالم العربي بشكل خاص، لم يُدرِكوا جوهر الحداثة باعتبارها مراجعة دائمة، فهي لا تفتأ تُراجع نفسها، وتُعيد مراجعة مفاهيمها نفسها، وهذا ما يجعلها تجاوزاً مستمراً، وأفقاً مفتوحاً على المجهول.
الغرب، في ما حققه من تقدُّم، وفي ما وصل إليه من علم ومعرفة، قياساً بنُكوصنا، طبعاً، اختار النقد والمراجعة كضرورة من ضرورات التقدم، فلا وراء في الفكر الغربي، إلا باعتباره تاريخاً قابلاً لاستشارته في فهم بعض ما يجري في عصرنا، وما يطرأ من مشكلات، وليس وراءً، باعتباره سلطةً تحكم الأمام. الماضي عند الغربيين، انتهى، كصيرورة، لأنه أصبح تاريخاً، وليس فاعلاً في الحاضر، أو عنصراً حاسماً، خصوصاً إذا كان هذا الماضي، عقبةً في طريق الحداثة والتحديث. ما كان في الماضي مستمراً، فهو مستمر بحكم حداثته، وقابليته للإنصات لقيم ومعايير الحاضر، لا باعتباره قائداً، ومُوَجِّهاً للحاضر.
بهذا المعنى، كان أول فصل في كتابي ‘حداثة الكتابة في الشعر العربي المعاصر’، تأكيد على مراجعة الأصول، واختبار ما تنطوي عليه من مفاهيم، وقابلية هذه المفاهيم للاستمرار، والتوظيف. القصيدة مثلاً حين نراجع أصولها، نجد أنها مفهوم تاريخي، وأن هذا المفهوم، شعرياً وجمالياً، استنفذ استمراره، في ما نسميه بالشعر المعاصر، خصوصاً في الشرط الجمالي الشفاهي، الذي هو البنية المستحكمة في القصيدة.
هذا النوع من المراجعة، يضعنا في مواجهة الماضي، وهو ما يقوم به عدد من الشعراء، والكتاب والمفكرين، ممن يُصرُّون على وضع الحداثة في سياقها الفكري والجمالي الواسعين، والمنتميين للعصر، لا كشعار لا يعني شيئاً، أو ككلام ليل، يمحوه النهار.
وأوَدّ، في هذا الاطار، أن أنَبِّه لشيء يتعلق بكلامنا عن العقل. فالجابري، مثلاً، بعكس أركون، في قراءته للعقل العربي، اكتفى بالعقل، وحصر نفسه داخله، دون أن يلتفت للخيال، الذي لا يمكن للعقل أن يكون، في صرامته، دون خيال. تاريخ العلم والمعرفة، هو تاريخ الخيال، وليس تاريخ العقل، فالعقل يأتي تالياً على الخيال. انظر الأفكار التي مهَّدت للعلم، وللعقل، فهي كانت في بداياتها تخييلاً، جول فيرن، مثلاً، أعماله هي تخييل، قبل أن تتحقق علمياً، وهذا ما يسري عالي التقنية نفسها. هذا الخلل عند بعض المفكرين لا بد من تداركه، ولهذا أنا شخصياً، أفضل ما يقوم به الشعراء، والفنانون من مراجعات، على ما يقوم به بعض المفكرين الذين يغرقون في النص الفكري، دون وعي شروطه الجمالية، وهذا هو عطب الجابري القاتل، رغم أنه درس البيان العربي، لكن بأداة تُعَتِّمُه وتَحْجُبُه، بالأسف.
‘ غياب الحوار بين المثقفين العرب ـ الحوار المنتج ـ يترك المجال للتعطيل وقفز المجابهات غير الفكرية . تعليقك .
‘ هذه مشكلهة كبيرة في فكرنا العربي الحديث، أو المعاصر، بالأحرى. عندما نعود لفترات ازدهار الفكر والإبداع العربيين، بما في ذلك ظهور علوم اللغة، وترجمة الفلسفة اليونانية، وكتب الرَّيّ، والزراعة، والفيزياء والكيمياء، والطب، وعلم النجوم، نجد أنَّ هذه الأمور التي حدثت في ثقافتنا، وفي فكرنا، إبَّان هذه الفترة، هي حصيلة حوارات، طويلة، في جميع المجالات، ثمة كتب، فيها يبدو حوار المثقفين، أي الفلاسفة، والكتاب، والفقهاء، ورجال الدين، والعلماء، نوعاً من الإنصات العميق لمشكلات الفكر، ومشكلات الدين نفسه , ‘الإمتاع والمؤانسة’ لأبي حيان التوحيدي، ‘الهوامل والشوامل ‘ للتوحيدي ومسكويه، ‘معجز آحمد للمعري ‘ للمعري، باعتباره حاراً نقدياً عميقاً بين شاعرين كبيرين، وعظيمين، وغيرها من الأعمال الكبرى، هي حوار، إما بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر، وفي هذا الصدد عُدْ لابن رشد والغزالي، وابن تيمية، لتجد هذا الحوار، مهما تكن حِدَّتُه، فهو حوار كان يسمح بمعرفة رأي الآخرين، وطرح المشكلات من زوايا مختلفة. اليوم هذا لحوار شبه منعدم، فكل واحد يكتب بغير إنصات للآخرين، ويمكن اكتشاف هذا الكلام المفرد في المراجع التي يحتمي بها الكتاب العرب، فهي تأتي بكل كُتَّاب العالم لتستشهد بهم، وتتفادي الكاتب العربي المعاصر بشكل خاص، وحتى إذا تمَّ استعمال كاتب ما، فهو يكون موضوع نقد، وازدراء ليس أكثر.
الحوار هو طريق المعرفة، لأن فيه إنصات، وفيه تبادل للأفكار، والآراء، وهو ما يسمح بالتجاوز والتخطي، وهذا ما ليس حادثاً عندنا، لأن الكاتب العربي، حين تقرأ كتاباته، تستشعر فيها وَهْم البداية من الصفر، فهو يُشْعِرُك بنفسه كأنه هو الفاتح الأول، وليس قبله من هو جدير بالتنويه. هذه الأنا المريضة، هي عائق في وجه أي تجاوز. لا شاعر يعترف بشاعر آخر، ولا ناقد يعترف بناقد آخر، والأمر نفسه يسري على الفكر، والفن.
بالفعل فهذا تعطيل للصيرورة، واستنفاذ لطاقات فكرية، وإبداعية، دون طائل.
‘ الوضع الثقافي مغربيا وعربيا بهذه الصورة والمشهدية، يجعل الأدب في خطر كما أكدت بعض الصيحات . ما هي في تقديريكم أسباب هذا الاندحار ؟
‘ بدأنا في العالم العربي نستهين بالأدب، وبالشعر بشكل خاص، قياساً بما يجري في فرنسا مثلاً. فتودورف حين كتب في هذا الموضوع، فهو ذهب إلى المدرسة والجامعة، لأنه كان يتوفَّر على معطيات، هي حصيلة عمله في موقع القرار، في يتعلق بالمدرسة، وبالمقررات الدراسية. لكن الأدب في فرنسا رغم ذلك موجود، رغم حالة ‘الخطر’، وهو يجد مكاناً له في سياسات الدولة، وعند الناشرين، وفي اللقاءات الثقافية، والجمعيات الأهلية التي تهتم بالشأن الثقافي، والمكتبات، ومراكز الدراسة والبحت، والمهرجانات الثقافية المختلفة، وأيضاً في المدرسة والجامعة، رغم هذا الميل الوظيفي للشُّعَب العلمية والتقنية. أكيد أن مفهوم الأدب يحتاج لمراجعات، وأيضاً تدريس الأدب، وما يحتاجه دارس الأدب من علوم ومعارف أخرى موازية للأدب، أو تتجاور وتتحاور معه. لا ينبغي أن تقتصر المدرسة على الطرق التقليدية، في تدريس الأدب، حتى يخرج من عزلته، التي هي الخطر الذي يهدده. وهذا ينطبق على العالم العربي، وعلى المدرسة العربية التي لا زال فيها الأدب لا يحظى بتفكير الوزارات الوصية على قطاع التعليم، ولا باهتمام المختصين في التربية والتعليم، ولا باهتمام المدرسين الذين يفتقرون للتكوين الحديث، وللمعرفة بالنصوص، وبالمناهج، وبالعلاقة بين الأجناس الأدبية المختلفة، فهذا كله هو اليوم من االأمور التي لا يمكن نسيانُها، أو التهاون في تفكيرها، وفي العمل على وضعها في سياق الممارسة والتطبيق. ازدراء الأدب، أو اعتباره غير ذي جدوى، يعنى أننا ما زلنا نعيش خارج المعنى الحقيقي للإنسان، في حريته، في ابتداعاته، وفي ما يخلقة من أفكارٍ، كانت، دائماً، هي ما يضمن صيرورة الوجود، أو كينونته، بالأحرى.
الانحدار، هو انحدار في تقدير المسؤولين، في قطاعات الدولة المختلفة، فهؤلاء يأتون إلى الثقافة، والمدرسة من الحزب، ومن الدولة نفسها، أي من السلطة، وليس باعتبارهم مثقفين، أو مفكرين، أصحاب أفكار، وبالتالي، فهم يُعانون من قُصورٍ في النظر.
‘ الحداثة حداثات مشروطة بالسياقات وتعدد الرؤى . ولكنها تلتقي في التجاوز والتأسيس النسبي . ما هو التوازي الذي تطرحه بين حداثة الكتابة والحداثة الثقافية العربية المعطوبة ؟
‘ كانت الحداثة بين أكثر المفاهيم التي اشتغل عليه الشِّعر والفكر، ليس في الثقافة العربية، فقط، بل وفي الثقافة الغربية أيضاً. ما تزال الحداثة تحظى باهتمام الشُّعراء، وهي اليوم طريقة في التفكير، وتعبير عن كتابة خرجت عن النص الشعري التقليدي، وأصبحت أكثر تعقيداً، وأكثر إشكالاً من ذي قبل.
لم يعد الشاعر اليوم، في ما يكتبه، ويقوله، مُكتفياً بذاته، أو بمعرفة علوم البلاغة والنحو والعَروض، وحفظ الشعر القديم. هذه أمور، بقدر ما تفيد الشاعر، فهي تدعوه للخروج بها إلى أفق أوسع، فالشِّعر الذي لا يُحاور التاريخ، والفكر، والفن، والموسيقى، لا يمكنه أن يخرج من سياق الاستعادة، ولاجترار. النص الشعري اليوم تَوَسَّع، بما يفوق ما كان اعتقد ‘الرواد’ أنه أوج الحداثة. ما يُسَمِّيه الكثيرون اليوم، بـ ‘قصيدة النثر’، ليس، في مراجعتنا للنصوص نفسها، بهذا المعنى، فالنص أكبر من التسمية ذاتها، وهي لا تستطيع استيعابَه، أو تمثيله بالأحرى. وهذا ما حاولتُ دراستَه في ‘حداثة الكتابة في الشعر العربي المعاصر’، واقترحتُ مفهوما الكتابة، أو العودة لمفهوم الشِّعر، بدل مفهوم القصيدة، التي بقيت محكومة بوعيها الشفاهي، وبهذه البنية التي لم يخرج منها الشِّعر المعاصر نفسه.
يذهب بنا هذا إلى الحديث عن انتقالات الحداثة، التي أصبحت حداثات، بحكم هذه الصيرورة المتواصلة. النص انتقل إلى مستويات جديدة من الكتابة، والصفحة اليوم، أصبحت ذات أهمية خاصة، أو هي دالٌّ بين كثير من الدوال الأخرى، في النص، لم يعد الوزن هو مشكلة الشِّعر، فهذا نقاش بدائي، انتهى، ولا يستعمله سوى من لا زالوا يعتبرون الشِّعر هو القصيدة، بالمعنى التقليدي، الاستعادي.
ما يمكن ملاحظته، هو عجز النقد عن الخروج من ‘الشعر الحر’، ومن النص الشرقي، في بعض العواصم لعربية. فهذا لا يُفيد في معرفة ما يجري في الشِّعر العربي اليوم، وما تعنيه الحداثة العربية، في معناها الحقيقي. فثمة من لا زال يتحدَّث عن ‘القصيدة العصرية’، ويُناقش الحداثة، وهذا، في ذاته عطب في الرؤية. النصوص اليوم تشتغل في العراء، وهي تعمل خارج النقد، وهذا، ربما، لصالحها، لتعمل بهدوء، وتخرج من توجيهات النقاد، التي غالباً ما تكون من خارج النص. اليوم نحن بإزاء حداثة متقدمة، في الشِّعر، وفي الفكر، في ما النقد يعيش حداثة القصيدة، أي أنه لم يخرج بعد من زمن رواد الشعر الحر.
‘ في بداية كل موسم دراسي، بعد العودة من التراخي وتحنيط الأعضاء . يتحدثون عن دخول ثقافي في المغرب والأقطار العربية . والحال أن لا ملامح لنا لأي دخول أو خروج، وللأبواق شأنها طبعا . تعليقك الأستاذ بوسريف ؟
‘لا معنى للحديث عن دخول ثقافي، في المغرب، أو في العالم العربي، إذا كان الخروج غير مُتَحَقِّق أصلاً. ماذا قدَّمْنا للقتريء، وللعالم، في العام الثقافي المنصرم من إصدارات وترجمات، وما هي الأسئلة الكبرى التي خُضْنا فيها، وغيرها من الأمور التي يمكن اعتبارها حركية ثقافية، وإبداعية، هي التي نستند فيها للحكم على وجود فعل ثقافي كبير، مؤثر، وفاعل.
المدرسة عندنا، خارجَ الثقافة، وهي تعيش حالة انتكاس، واضمحلال، كونها لا نتج أفكاراً، ولا يخرج منها سوى العنف والتطرُّف، والمؤسسات الثقافية، ما تزال تصدر عن نفس الأفكار، وتعمل بنفس الأشخاص، وكأن لا شيء جديد حدث في الثقافة العربية منذ عقدين من الزمن. نحن نعيش وضعاً كارثياً، على جميع الأصعدة، والدول عندنا، هي دول مستحكمة، رغم ما تدعيه من ديمقراطية، وحرية تعبير. لا توجد دولة عربية تعتبر الثقافة ضرورة قصوى، الثقافة تُسْتَعْمَل لأغراض أخرى، فهي أداة تجميل فقط، ووزارات الثقافة في العالم العربي، لا علاقة لها بالثقافة، لأنها تعمل بدون سياسة ثقافية، وبرامجها تشبه برامج الجمعية الثقافية، الأهلية، أو المدنية، لكن بإمكانات مادية كبيرة نسبياً.
اسمح لي، لا أستطيع أن أستمر في الحديث في هذا لموضوع، فالجدوى من الوشوشة في آذان الموتى، فما لجرح ميِّت إيلام. هذا ما كان قاله المتنبي، قبلنا بقرون.
‘ أي صورة يقدمها الإعلام بأنواعه للثقافة في المغرب والأقطار العربية ؟
‘ الإعلام تحتله الدولة، وحتى الإعلام ‘المستقل’، لا يستطيع العمل بحرية، في ظل ضغوطات الأنظمة التي لا تقبل التنافس في مُخاطَبَة الناس، وتوجيه فكرهم، ورأيهم. عندما يتعلق الأمر بالإعلام الثقافي، سنعود، حتماً، لمشكلة الموقف من الثقافة والمثقفين، الدولة حاسمة في هذا الموضوع، لا مكان للمثقف في برامجها، وهي لها مثقفوها الذين تستعملهم عند الحاجة. الجرائد والمجلات، التي تهتم بالثقافة، تعمل وفق رؤية خاصة، وغالباً ما تكون محكومة بالسوق، أعني سوق القراءة. ليست لدينا برامج ثقافية واسعة الانتشار، وما يقدمه التلفزيون، يكون استهلاكياً، وسطحياً، لا يستطيع الدخول للمناطق المحظورة، وهذا ما يجعل من الجرائد، تكون، في هذا الوضع هي المكان الذي يمكن للمثقف أن يجد فيها فضاءاً للتعبير عن رأيه، وفكره، رغم ما قد يحدث من إكراهات، لا تعني الكاتب، أو المثقف، بقدر ما تعني الجريدة، وتعني خطَّها التحريري بشكل خاص.
الصورة التي يقدمها الإعلام، عموماً، هي صورة سطحية، لا تستطيع أن تكون في مستوى ما يرغب فيه المثقف الحر، الذي يقول رأيه، دون حساب الربح والخسارة. وهذا، عندنا، في المغرب، هو نفسه في العالم العربي، وربما، عندنا، أكثر، لأننا لا نتوفر على بنيات ثقافية، يمكن من خلالها تسويق كتاباتنا، بالشكل الذي تصل به كتابات المشرق العربي إلينا.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة