كأن الورودَ تظلُّ مرهونةً حتى غيبة الحاضرين. كأن نغمات الحبِّ، وتمرات المديح، ولذاذات الثناء، تبقى ملجومةً، لا ينثالُ شلالُها رقراقاً عذباً، إلا بعدما يحولُ الترابُ بيننا. ياااااااه ما أقسانا وأشقانا.
كيف كنّا نقبض على كلِّ هذا المشاعر الجيّاشة، دون أن يفوح شذاها؟ كيف لم يشِ بها عطرُها، ويفضحها، ويشيعها؟ كيف كتمناها عن أحبة كانوا يتمنونها، ويترقبونها. لكننا بخلنا بها، وخنقناها بصمت سقيم عقيم. فأيهما أرقُّ وأجملُّ. وردة نضعها بيدي حبيب؟، أم باقة نلقيها على تراب قبره الطازج؟
قبل سنوات طلب صديق منا، أن نقيم له حفل تأبين، وهو حيٌّ يرزق. يومها ضحكنا وسخرنا، وحسبنا الأمر عابر نزوة، لكنه أصرَّ. وفي اليوم الموعود لبس بياض القماش، وسكن في كرسيه، لا تتحرك منه إلا عيناه. وراح يسمع منا كلمات وقصائد ومصارحات واعترافات.
سأقول الساعة بصدق، إنني بخلت ببعض المشاعر، ولم أبدها عليه. نعم لم أقل كل ما في قلبي في ذلك الحفل. ربما يكون أنني أبقيت أصدق مشاعري للحظة غياب حقيقية. الصديق بعد كلامنا قال ضاحكا: أعرف أن لديكم كثيراً من الحلاوة، وقد بخلتم بها عليَّ، أيها الأبواش.
في حالة الحب الكبيرة، التي عانقنا بها راحلنا الجميل ياسر المصري رحمه الله، كتب فنان لزملائه كلاماً صادما على صفحته في فيسبوك، وهو قد مرّ بتجربة مرض كان فيها ببرزخ بين حضور وغياب. كتب: (كلكم كاذبون، منافقون. لم أر أحداً منكم يقترب حينما كنت أموت. ربما أجلتم كلامكم لغيابي الأكيد. ما أتعسنا).
نحن بخلاء أشحة في مشاعرنا الإيجابية. لكننا نجود بسخاء، بمشاعر السلبية والذم والكراهية. ولو لم نكن كذلك، لما كتمنا مشاعرنا تجاه أحبتنا، وهو بيننا. لماذا نؤخر ونؤجل كل جميل حتى لحظات التراب والغياب؟.
لا أعرف لماذا اختار المثل الشعبي (الأقدام)، ليقول أنها تطول، بعدما يموت الواحد منا. لربما أن الآخرين يهيلون علينا كثبان المديح، بعد هيلات التراب، ويقولون إن أقدامنا القصيرة، في مدارج الحياة كانت طويلة. ربما يقولون هذا بسخاء؛ لأننا لم نعد ننافسهم في خطواتهم نحو الحياة ومباهجها.
ما زال في بالي بيت عتابا رندحه جدي بحزن على أسماعي ذات طفولة: (حبيبي حبيبي اللي ما نفعني ونا حي، ما أريده عند هيلات الترايب). ودائماً سنعرف، أن ثمة من يمشون في الجنازات؛ ليتأكدوا أن الميت مات حقا؛ كي يغدو حبيبا طيبا.
نحن صناديق مقفلة. مقفلة في وجه المحبة، مفتوحة على غيرها. إن أحببنا إنسانا كتمنا مشاعرنا وخنقناها. وإن كرهناه أشعناها. وقد أدركت الآن، كم كان صديقي صادقاً، حينما طلب أن نؤبنه حيّاً. كان يريد الحب فقط. ونحن بخلنا به عليه.
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو