السبت 2024-12-14 09:27 م
 

القدس في الرحلة المغربية: التأرجح بين القدسيّ والأرضيّ

12:18 م

الوكيل - يتأرجح المقدس، عادة، بين الثابت والمتغير. الثابت يتجسد في المتلقي، بناء أو كائنا حيا أوتقليدا متوارثا، والمتغير يتجسد في المرسل الذي يظل عرضة للتبدل، زمانا ومكانا، دون أن تتغير طبيعة العلاقة، بين المرسل والمرسل إليه، ما دام جوهرها يقوم على هذه الثنائية الدائمة بين الطرفين. فالعبرة بالمرئي وليس بالرائي. وهذا يؤدي إلى انتقال المقدس إلى منتهاه، متحولا إلى أيقون يقترب- ويقاربه أيضا- من مواقع مختلفة لا تتنكر لطبيعة الأيقون، بل إنها تسهم في ترميمه وتطعيمه وانتشاره واستمراره.اضافة اعلان

والقدس الشريف لا يخرج عن هذا الإطار، فضلا عن دلالاته العميقة التي تزداد نصاعة وسموّا في العقل و الذاكرة والوجدان، الماضي والحاضر والمستقبل، نشيد الحجر،وغرغرة الدم،نشيد السماء ونحيب الأرض.
والرحلة المغربية خاصة ، والعربية عامة، بحكم طبيعتها النصية المتعددة الأنظمة،اقتربت، على مر العصور، من القدس في قدسيتها، وقاربتها ، أيضا، في تحولات الليل والنهار، وتعاقب الدول ،وتنوع الغزاة والمغامرين والدهاة والمجانين…وظلت القدس قدس الأقداس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

تاريخ المعمار/معمار التاريخ

’1 ـ فائدة: بيت المقدس بناه داوود وسليمان عليهما السلام.أمرهما الله ببناء مسجد ونصب هياكله ودفن كثير من الأنبياء 1
من ولد إسحاق عليه السلام حواليه. وأما المسجد الحرام فهو أول بيت وضع للناس (…). معلوم أن سليمان بن داوودهو الذي بنى المسجد الأفصى، وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام (….) فإن سليمان إنما كان له من المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه، والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا المقدار (….) وفي مقدمة ابن خلدون أن ا لمدة بين بناء مكة وبين بناء بيت المقدس بمقدار ما بين إبراهيم وسليمان لأن سليمان بانيه وهو ينيف على الألف بكثير. واعلم أن المراد بالوضع في الحديث ليس البناء وإنما المراد أول بيت عين للعبادة ولايبعد أن يكون بيت المقدس عين للعبادة قبل بناء سليمان بمثل هذه المدة(…).
وبداخل المسجد الأفضل مجلس به دربوز من حديد وبه محرابان أحدهما مصلى سيدنا موسى عليه السلام والآخر مصلى سيدنا عيسى عليه السلام(…). ووصلنا ببراح المسجد إلى موضع قيل كان سيدنا سليمان عليه السلام يسجن به الجن(…). ثم صلينا بمحراب ملاصق بها يقال إن بعض الأنبياء كان يتعبد به وقيل هو محل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء ليلة الإسراء.
وهذا المحراب يسمونه بقبلة الأنبياء(…) ووصلنا إلى محراب بجانبه أثر قدم بطرف الصخرة وكل منهما ينسب لسيدنا إدريس عليه السلام، ثم إلى محراب هناك ينسب لسيدنا حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم(…) فوجدنا عن يمين النازل محرابا منسوبا لسيدنا سليمان عليه السلام، وعن شماله محرابا منسوبا لسيدنا داوود عليه السلام(…) ثم هناك محراب آخر ينسب للخضر، وقد صلينا بجميع تلك المواطن بقصد التبرك وأكثرنا من الدعاء بها… ووصلنا بالقدس زاوية المغاربة وزرناها وهي زاوية كبيرة بها بيوت يسكنها غرباء المغاربة وتنسب للشيخ أبي مدين الغوث، رضي الله عنه، قيل هو الذي حبسها’.
محمد بن علي بن أحمد دينية الرباطي (القرن19م ): نشر الأعلام بإتمام المرام في ذكر مراحلنا إلى مصر والحجاز والشام.( مخطوط خاص) من الورقة182إلى الورقة185

يعيد الخطاب الرحلي صياغة مسار الرحلة بواسطة (علامات التشوير) التي تضيء المكان في بعديه:الزمني والفضائي.
ومن بين أهم هذه العلامات نجد مصطلح( فائدة)، فضلا عن مصطلحات أخرى زخرت بها الرحلة العربية عامة، والمغربية خاصة، مثل ( رجع)/( تتميم) /(عجيبة) /(فصل) /( تكميل)/( تنبيه)/ (نادرة)…الخ.وهذه العلامات ، أو المحطات، لاتنفصل
عن السرد الرحلي، بل إنها خرجت من صلبه لتقدم المرئي، من جهة ، والغائب، معرفة وتاريخا، من جهة ثانية. في النص أعلاه قد يشترك الرحالة مع الرحالين الزائرين بيت المقدس في تقديس ـ عبر المرجعية الدينية المشتركة- المقدس ،غير أن رحّالتنا لايكتفي بذلك ، بل يحول الفضاء المقدس إلى عتبات ، أو مراق، تاريخية تذلل لحظة التواصل بمعمارية المقدس.
ومن ثم تصبح عناصر المكان، ومكوناته المختلفة، طبقات نصية من سفر- بكسر السين- تاريخي يتسع لكل الزائرين من رحالين وحجاج وسواح. وبالإضافة إلى هذا وذاك، فالرحالة لايتردد في ترميم رحلته بنصوص موازية (ابن خلدون/ العياشي…الخ) بهدف ترسيخ عناصر المقدس في السيرورة التاريخية.
2


الجوهر والعرض

‘ثم وصلنا إلى بيت المقدس زادهالله تعظيما ،وألحفه مبرة دائمة وتكريما.مسجد الأنبياء وقبلتنا قديما.ومطلع الأولياء يطلعهم عظيما فعظيما .أحد المساجد التي إليها تحمل المطي.وتضاعف بها الحسنات لكل بر تقي. مصعد نبينا عليه السلام، إلى مستوى يسمع فيه صرير الأقلام. ومعراجه حين عسعس الظلام إلى مناجاة الملك العلام. والقدس المقدس المنفي من الآثام . نجعة من راد وري من حام .خفق برقه فوفق من شام، وتدفق ودقه فأفرق ذو الهيام. لو نطق محتجا بفضيلته الشام لأفحم به العراق أي إقحام.
والبلد مدينة كبيرة منيعة محكمة كلها من صخر منحوت على نشز غليظ مقطوع بجهات الأودية. وسورها مهدوم هدمه الملك الظاهر خوفا من استيلاء الروم عليها وامتناعهم بها والخراب فيها فاش وليس لها نهر ولا بستان.
وأما المسجد المقدس فهو من المساجد الرائقة العجيبة المنشرحة الفسيحة. وهو متسع جدا طولا وعرضا(…) وفي وسط فضاء المسجد قبة الصخرة. وهي من أعجب المباني الموضوعة في الأرض وأتقنها وأغربها قد نالتا من كل حسن بديع أوفر حصة ونا لت من الإتقان ظاهره ونصه’.
رحلة العبدري .ق13م.تحقيق، محمد الفاسي.1988 ص228 229 –

في رحلة العبدري يتم التقابل بين خراب الحاضر (والخراب فيها فاش ليس لها نهر ولابستان)، وبين زهوالمقدس مجسدا في مسجد قبة الصخرة. فالقدس لا تأتمر بأوامر العرض ـ بفتح الراء- الزائل، بل هي الجوهر المقدس لكل القيم الثابتة التي تتسامى فيها القدس على كل البلدان.وإذا مس الخراب ما يمس البلدان عادة، فالإستثناء يظل حاضرا من خلال مسجد قبة الصخرة ـ عجيبة العجائب- التي عرج منها النبي عليه السلام نحوالسماء، وناجى ربه.
- 3المدينة -الدليل
‘إذا خرجت من باب الأسباط سرت في حدود مقدار رمية سهم، فتجد كنيسة كبيرة حسنة جدا على اسم السيدة مريم ويعرف المكان بالجسمانية، وهناك قبرها يبصر جبل الزيتون، وبينه وبين الأسباط نحو ميل.
وفي طريق الصعود إلى هذا الجبل كنيسة أخرى عظيمة حسنة متقنة البناء.
وعلى أعلى الجبل كنيسة أخرى حسنة معظمة وفيها رجال ونساء محبوسون يبتغون بذلك أجر الله سبحانه، وفي شرقي هذا الجبل المذكور منحرفا قليلا إلى الجنوب قبر’ألعازر ‘الذي أحياه السيد المسيح . وعلى ميلين من جبل الزيتون القرية التي جلب منها الأتان لركوب السيد المسيح عند دخوله إلى أورشليم وهي الآن خراب لا ساكن فيها .
وعلى قبر ‘ألعازر’يؤخذ طريق وادي الأردن وبين وادي الأردن وبيت المقدس مسافة يوم واحد، ومن قبل أن تصل إلى وادي الأردن مدينة أريحا السابق ذكرها وبينها وبين الوادي ثلاثة أميال. وعلى الوادي المسمى الأردن كنيسة عظيمة على اسم شنت يوحنا يسكنها رهبان الإغريق’.
الشريف الإدريسي (ق12 م). نزهة المشتاق في اختراق الآفاق.
المجلد الأول.1994.ص.361.

على عادة الإدريسي، والجغرافيين العرب عامة، تصبح الكتابة الرحلية مزيجا من معاجم البلدان وكتب الأطوال والعروض ومواد (الكارتوغرافيا) ومجاهل (الكوزموغرافيا)، وبعض عناصر (الإثنوغرافيا). وعلى هذا الأساس يصبح النص الرحلي عند الإدريسي بمثابة دليل- التدقيق في طبيعة المسافة بين أجزاء المقدس- مفصل لمكان لا يشبه باقي الأمكنة. والدليل يقتضي طوبوغرافية ما قبل الوصول (الطريق المؤدي إلى المكان)، ثم طوبوغرافية الوصول القائمة على التفصيل والشرح والتأويل، وصولا إلى طوبوغرافية ما بعد الوصول المستندة إلى استقطار رحيق الأمكنة من خلال الرمزي الذي تفيض به المواقع المقدسة.
المدينة- البلسم

4 ـ ‘وللقدس السور الحصين مبني بالحجارة في غاية الكمال والإتقان، والأبواب الحصينة الغلق فعدد أبوابه ستة (…).
وباب المغاربة سمي بذلك لمجاورته لباب جامع المغاربة الذي تقام فيه الصلاة أو لأنه ينتهي إلى حارة المغاربة، وهذا الباب في اخر الجهة الغربية من المسجد مما يلي القبلة ويسمى باب النبي صلى الله عليه وسلم(…)
ومن جبل الطور يظهر بيت المقدس في غاية البهاء والانبهاج وحسن المنظر وكذا من جهة القبلة(…)
وزرنا أيضا القبة التي عرج منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وهي في شمال قبة الصخرة قريبة منها، وصلينا هنا ك ركعتين ودعونا الله يرجى قبوله، وتبركنا ايضا بالدخول إلى المسجد الأقصى القديم الذي من فوقه المسجد الذي يسمى اليوم بالأقصى، فانحدرنا إليه بمدارج وهو الذي فيه محرابان : محراب إلى صوب الصخرة القبلة َالأولى، ومحراب إلى جهة الكعبة المشرفة. وبناؤه قديم من بناء سليمان عليه السلام بالحجارة الهائلة’.
ابن عثمان المكناسي (ق،18م(:
إحراز المعلى والرقيب في حج بيت الله الحرام وزيارة القدس الشريف والخليل والتبرك بقبر الحبيب.تحقيق، محمد بوكبوط (2003) ص،292/296./300./301.
في رحلة المكناسي،يحرص الرحالة على التبرك بالأماكن المقدسة، في كل خطوة يخطوها.فالعبرة الآن بـ(التمسح بالإركان) التي تشحذ الهمم ، خاصة أن عطفه على حارة المغاربة ببا بها وجامعها الشهير، يسمح له بالتماهي في عمق قوافل الحجيج الذين فضل بعضهم البقاء بهذا المكان، وأصبحوا جزءا من تاريخ المقدس. استحضار مرجعية الرحالة- المغرب والمغاربة- في الفضاء المقدس، تنسيب للزائر الذي- كما سبقت الإشارة- لايترد د في تجديد روابط الدم وروابط القداسة.
5 ـ المقدس والهوية
‘قال المؤلف:طول بيت المقدس سبعمائة خطوة من الخطوات الطوال وعرضه ثلاثماءة وخمسون خطوة، وفي داخله مقامات ومحاريب وقباب .وقبة الصخرةالقبلة المنسوخة صلى إليها جميع النبيين حتى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى جنة من جنات الأرض تحت السماء والماء والهواء وكثرة الطعام والخضرة والعمارة الياسرة عليه من قبلية وشرقية وشماله ثلاثة الاف قرية عامرة كلها جبال حرث ونسل وأشجار وزيتون وشجر عنب وعمارة عظيمة . ومدينه القدس مدينة مانعة(…).
قال المؤلف: أيها القارئ : فضائل بيت المقدس وبيوت الله في أرضه المشهورة المذكورة بالفضل العميم والخطر الجسيم .كفى بها من مواطن قوله عليه السلام: ‘لاتشد الرحال إلا لثلاث:إلى مسجد الله البيت الحرام، وفي لفظ بيت الله الحرام، وإلى مسجدي هذا وضرب بكفه الأرض.وقال :الصلاة فيه بألف صلاة فيما سواه من المساجد دون المسجد الحرام، وإلى المسجد الأقصى . وكفى بهذا اللفظ إذا اختارهاعلى بقاع الأرض كلها(…)
البيت المقدس لو نصف فيه، وفي خصائصه، ألف عام لانبلغ خصائصه وفضائله، وكفى من فضله أنه لم يبق ملك من ملوك الدنيا إلا قاتل عليه وطمع في امتلاكه.وحرمته وعزة شأنه عند الملوك من عرب وعجم معروفة وقبلته باب من أبواب السماء الذي عرج منه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، ولم يبق نبي ولارسول إلا وصلى فيه. ‘
الحاج عبد الله الصباح(ق،14م): أنساب الأخبار وتذكرة الأخيار.
تحقيق وتهذيب: محمد بنشريفة.(2008(
ص،187/189/194/195

يصبح المقدس عند (الموريسكي) عبد الله الصباح-وهو المعلق بين السماء والأرض- مرادفا للهوية الإنسانية (وكفى بهذا اللفظ إذا اختارها على بقاع الأرض) المستمدة من قيم الرسالة السماوية التي جعلت من المكان (جنة عدن) تمنعت على الغازي، عبر التاريخ، وامتلكت، من جهة أخرى، جمال العين والروح، جمال القيم المتواترة عبر مسيرة الأنبياء، ومصارعة الغزاة، ونشر قيم السلام في الماضي والحاضر والمستقبل. فهيلا تأتمر بأوامر الزمن، بحكم انشدادها إلى منبع لاينضب من الفضائل (البيت المقدس لو نصف فيه، وفي خصائصه،ألف عام لا نبلغ خصائصه وفضائله). هو (بقعة من الجنة) التي تحولت فيه هذه الصياغة صورة ملازمة للمقدس ، سواء تعلق الأمر بالمسجد الحرام (رحلة العلمي الحجازية في القرن 19.مخطوط.خ.ع.10125) أو المسجد النبوي، أو بيت المقدس.في القدس ينتمي هذا الموريسكي المحارب في دينه ولغته ووطنه، إلى الإنسان قبل المكان. فالخروج إلى القدس، بحث عن الوطن في نقائه بعيدا عن كل تعصب أو تسلط أو احتثات.
القدس- العلامة
6 ـ ‘وكنت استأذنت في التقدم إلى مصر بين يدي السلطان ‘فرج ابن برقوق’لزيارة بيت المقدس فأذن لي بذلك، ووصلت إلى القدس ودخلت المسجد، وتبركت بزيارته والصلاة فيه، وتعففت عن الدخول إلى القمامة (كنيسة القيامة) لما فيها من الإشادة بتكذيب القرآن، إذ هو بناءأمم النصرانية على مكان الصليب بزعمهم، فنكرته نفسي ونكرت الدخول إليه، وقضيت من سنن الزيارة ونافلتها ما يجب، وانصرفت إلى مدفن الخليل عليه السلام، ومررت في طريقي إليه ببيت لحم، وهو بناء عظيم على موضع ميلاد المسيح، شيدت القياصرة عليه بناء بسماطين من العمد الصخور، منجدة مصطفة مرقوما على رؤوسها صور ملوك القياصرة، وتواريخ دولهم ميسرة لمن ينبغي تحقيق نقلها بالتراجمة العارفين لأوضاعها، ولقد يشهد المصنع بعظم ملك القياصرة وضخامة دولتهم’.
رحلة ابن خلدون (ق14 م). تحقيق، محمد بنتاويت الطنجي
274.2004′

يبرز المقدس ـ بموضوعية المؤرخ- من ثنايا الوصف التاريخي، بل إن ابن خلدون يقدم (تاريخا شخصيا) لا يتنكر للمرئي والمسموع بالرغم من تعارض مظاهر معينة مع القناعة الدينية والفكرية للرحالة المؤرخ.فواجب المؤرخ (الحكي الأمين لما رأى ولما سمع ويجب عليه ألا يضيف شيئا). ومن هنا حرص المؤرخ الرحالة على هاجس التوثيق مازجا بين السرد- على قلته- بالوصف علة كثرته. فالرحلة- على حد تعبير عبد الفتاح كيليطو-(وصف والتاريخ سرد). في (التعريف بابن خلدون شرقا وغربا، انتشاء بحركية الذات التي تتقرى مواقع المقدس برزانة المؤرخ، وحصافة العالم،وعطش الباحث.

القدس: عجيبة العجائب
7 ـ ‘ومن أعجب المباني وأتقنها وأغربها شكلا.قد توفر حظها من المحاسن، وأخذت من كل بديعة بطرف، وهي قائمة على نشز في وسط المسجد، يصعد إليها في درج رخام. ولها أربعة أبواب. والدائر بها مفروش بالرخام أيضا محكم الصنعة، وكذلك داخلها وفي ظاهرها وباطنها من أنواع الزواقة ورائق الصنعة ما يعجز الواصف. وأكثر ذلك مغشى بالذهب فهي تتلألأ أنوارا، أو تلمع لمعان البرق.يحار بصر متأملها في محاسنها، ويقصر لسان رائيها عن تمثيلها. وفي وسط القبة الصخرة الكريمةالتي جاء ذكرها في الآثار. فإن النبي صلى الله عليه وسلم، عرج منها إلى السماء. وهي صخرة صماء ارتفاعها نحو قامة. وتحتها مغارة مقدار بيت صغير. ارتفاعها نحو قامة أيضا ينزل إليها على درج. وهنا لك شكل محراب . وعلى الصخر شباكان اثنان محكما العمل يغلقان عليهما. أحدهما، وهو الذي يلي الصخرة من حديد بديع الصنعة، والثاني من خشب. وفي القبة درقة كبيرة من حديد معلقة هنالك.والناس يزعمون أنها درقة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه’.
ابن بطوطة.(ق14 م).تحفة النظار في غرائب الأمصاروعجائب الأسفار.ط،3..
..1996
ص،76/ 77

يفصل ابن بطوطة القول في قبة الصخرة من موقع الزائر لبلاد الشام بلاد الأنبياء- التي زخرت بالمقدس إنسانا ومكانا وتاريخا.. وابن بطوطة يحرص على تقديم جزئيات المكان، عناصره المعمارية والجمالية بدلالاتها المادية (الخشب/ الحديد) او الرمزية (درقة حمزة بن عبد المطلب)، مما جعل منه عجيبة من العجائب التي تزداد بهاء على مر العصور. المعمار المقدس، عند ابن بطوطة، يمتح من المادي والرمزي. فأنوار الذهب تعود إلى طبيعته المادية التي تزداد لمعانا بما تحتوي عليه من أنوار قدسية تزيدها لمعانا وتخطف الأبصار مثل لمعان البرق- لتصل البصائر المضاءة بأضواء (يقصر لسان رائيها عن تمثيلها).

القدس- النص
8 ـ ‘ثم قصدت الحرم الشريف، والمسجد العظيم المنيف، الذي بارك الله حوله، وعرفت كل أمة فضله، المسجد الأقصي موضع المعراج والإسراء، وكفى بهذا شرفا وفخرا، فرأيت بقعة لها نور، وفضل مأثور، وشرف معلوم مذكور، ومسجد له حرمات، ومقام تخطر فيه خطرات، وتعرض مقامات ،ومحل تفيض عليه بركات.
كأنه من حسنه لم يزل
يستخدم التوفيق والأسعدا
رست بجناه وعلا سمكه
فطاول الجوزاء والفرقدا
وهذا المسجد الشريف هو أعظم مساجد الدنيا، طوله سبعمائة وثمانون ذراعا، وعرضه أربعمائة وخمسون ذراعا فيكون تكسيره في المراجع المغربية مائة مرجع، وسواريه أربعمائة وأربع عشرة سارية، وأبوابه خمسون بابا يطيف به سور سعته ثلاث خطوات قد أسس بالحجارة العظيمة وألواحه الكبار المنحوتة الهائلة، بنته الجن لسليمان عليه السلام، والمفتوحة الآن من أبوابه اثنا عشر بابا.(…) وبه عن أنس رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم’قال: من زار بيت المقدس محتسبا لله عز وجل حرم الله لحمه وجسمه على النار’
خالد بن عيسى البلوي (ق14 م تاج المفرق في تحلية علماء المشرق.تحقيق. الحسن السائح.ج،1
د،ت.ص،25

تلخص رحلة البلوي معظم ما قيل عن بيت المقدس من سمو وعظمة وإِشعاع ديني وإنساني.ولايتردد الرحالة في التأكيد على ذلك ، شعرا ونثرا، إلى الحد الذي تحولت فيه الرحلة إلى نص يسمح بالتفتح الإبداعي، ونسج الصورة البلاغية التي حفز بها المكان المقدس الرحالة لتقديم شعوره وأحاسيسه،بعد أن تحول المقدس إلى موضوع من موضوعات الكتابة الأدبية. والنص يجمع بين النمطي المجسد في ماروي عن القدس من مظاهر محتلفة، وبين الذاتي الذي حاول، من خلاله الرحالة،التعامل مع المقدس بلسانه الخاص.
القدس:
في الإسم والمسمى:
القدس، بيت المقدس، ‘إيلياء” روي عن كعب أنه قال: لا تسموا بيت المقدس ‘إيلياء’ولكن سموه باسمه’،’أورشليم’أولى القبلتين ‘ المسجد الأقصى،’ثالث المسجدين الشريفين في رتبة الفضل’( ابن بطوطة)، ( مصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما معرجه إلى السماء’( ابن بطوطة). قال تعالى’ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى’. وهي (أقرب بقعة في الأرض من السماء) ‘ياقوت الحموي في معجم البلدان’ ‘وفي الخبر: من صلى في بيت المقدس فكأنما صلى في السماء ورفع الله عيسى بن مريم إلى السماء من بيت المقدس. وفيه مهبطه إذا هبط وتزف الكعبة بحميع حجاجها إلى البيت المقدس يقال لها مرحبا بالزائر والمزور، وتزف جميع مساجد الأرض إلى البيت المقدس”نفسه’، وهي أرض الأنبياء ( .. وعن ابن عباس قال: البيت المقدس بنته الأنبياء ،ما فيه موضع شبر إلا وقد صلى فيه النبي ..)’نفسه.’
وهي مركز الأرض، فالقدس ‘مدينة مرتفعة على جبال يصعد إليها من كل مكان يقصدها القاصد من فلسطين’ ‘صورة الأرض لـ’ا بن حوقل.’
وهي قطعة من أرض الجنة ( … لا شديدة البرد، وليس بها حر(….) قال: هذا صفة الجنة)’المقدسي:أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ‘. وهي التي تسع كل العالمين( .. وأما الفضل فلأنها عرصة القيامة ومنها ا لمحشروإليها المنشر، وإنما فضلت مكة والمدينة بالكعبة والنبي ‘صلعم’ويوم القيامة تزفان إليها فتحوي الفضل كله، وأما الكبر فالخلائق كلهم يحشرون إليها .فأي أرض أوسع منها ؟).’نفسه.
وظلت القدس هدفا للطامعين والمحتلين منذ أيام الحثيين ،
مرورا بالإحتلال الروماني والهجمات الصليبية وصولا إلى الإحتلال الصهيوني السادر في تشويه معالمها، خاصة الإسلامية منها، ومظاهرها الحضارية التي ساهمت فيها الإنسانية جمعاء.

من هنا كانت القدس مدينة الإنسان في كل زمان ومكان. ويكفي الرجوع إلى تاريخها المادى، والرمزي، دينا ومحكيات وأدبيات متعددة، لنلمس هذا الإجماع البشري حول القدس من زوايا نظر مختلفة.فالمسيحيون يجددون طريق الآلام الذي عبره المسيح، وهو يردد ‘أورشليم اورشليم، ياقاتلة الأنبياء، وراجمة المرسلينة إليها، كم مرة أردت أن أجمع أبناءك مثلما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها’ إنجيل متى.الإصحاح الثالث والعشرون،37( نقلا عن، عبد العزيز شهبر: القدس كما رآها الرحالون الإسبان.(1999.ص،17. وهي عند المسلمين مسرى الرسول عليه السلام،وبها أولى القبلتين وثالث الحرمين .وعند اليهود إعادة إنتاج حكاية هيكل النبي سليمان وقبور آل داوود. يوضح المقطع التالي من رحلة ‘ابن يونة الأندلسي’إلى القدس هذا الجانب المعتقدي والمغلف بالعجيب والغريب من أساطير ومرويات متوارثة إلى الأن.’وبالقرب من هذا المعبد يوجد الحائط الغربي. وهو من حيطان قدس الأقداس في الهيكل القديم . ويسميه اليهود باب الرحمة، وهم يحجون لإقامة الصلاة في ساحته. وبالقدس بقايا الإصطبلات التي عمرها الملك سليمان بجوار قصره. وقد استعمل في بنائها الصخر الجسيم المنحوت مما لانظير له في بناء اخر وتوجد كذلك بقايا المذابح التى كانت تقرب فيها القربات . وعلى الحجاج اليهود أن يكتبوا أسماءهم على تلك الحيطان.”نفسه.ص،8′.
وفي كل الأحوال حظيت القدس في التراث الإنساني،عامة، بأهمية خاصة تبعا لوضعها الديني والتاريخي والجغرافي عبر القرون والحقب التي مر بها الإنسان.كما أن هذا الوضع المميز خلق دلالات عديدة جعلت منها فضاء قبل أن تكون مكانا- يتسع (فضا معجميا: اتسع) للعديد من الوقائع والتواريخ والمحكيات، فضلا عن القيم والأبعاد، كتابة ورسما ونحتا، جعل منها ‘أيقونا ‘متجددا في اللغة العالمية المتداولة، والتي تجاوزت الكلمات نحو لغة أثيرية يتداولها ـ دون معرفة سابقة- الزائرون والمقيمون، الظاعنون والعائدون، المهجرون- لاوجود للمهاجر في القاموس القدسي-والحالمون بالعودة إليها أناء الليل وأطراف النهار.
وبفضل ذلك استطاعت القدس أ،ن تتعالى على الإختلاف الديني والعرقي واللغوي واللوني. وبالإضافة إلى هذا وذاك، فـ’القدس′نموذج معماري فريد، بني من حجر نقي بالرغم من أن كل حجر من أحجارها يحمل ـ وما يزال- آثارالدم المسفوح على أرض الأنبياء والشهداء والموحدين والزائرين، على اختلاف دوافعهم، وسير الذين وقفوا ضد كل انواع التشويه المادي والتاريخي والرمزي لمعالمها المختلفة التي لم تكن وقفا على دين، او ملة، او على جنس بشري دون آخر..والإسلام وهو اخر هذه الأديان لم يتنكر لتعاليم الديانات السابقة، من جهة ولا للمنجز الإنساني، من جهة ثانية، بل جاء بمكارم الأ خلاق محترما المواثيق والعهود (الوثيقة العمرية) وحرية التدين والتعبد، واحترام الفضاء المقدس، كنيسة وديرا وبيعة، وممارسات الناس الحياتية عند ساكنيها وزوارها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
والرحلة العربية عامة، والمغربية خاصة، رصدت في سردها الحيوى وسرد الرحلة عادة ملتقى لكل الخطابات تحت هيمنة بنية السفر-العديد من الصور المقدسية، والعديد من المحكيات والسرود من مواقع مختلفة توزعت بين الثوابت الدينية( أحد المساجد الثلاثة المقدسة في الإسلام بعد المسجد الحرام والمسجد النبوي/مسرى الرسول عليه السلام/قبة الصخرة/مولد المسيح عليه السلام بـ’بيت لحم’…الخ) وبين المتغيرات لأسباب مختلفة (المساحة أو المكان في الجهات الأربع طولا وعرضا/الطبيعة الجغرافية من ماء وهواء ونبات وحيوان/ الأحوال المعيشية/التحولات التاريخية..الخ)
ولما كانت الرحلة، تجربة إنسانية تخضع لما تخضع له هذه التجربة من انفعال وتفاعل مع المرئيات والوقائع والمحكيات، فإن الرحلة إلى القدس الشريف لم تشذ عن ذلك، بل إنها استفادت من الحس الوجداني المترع برصيد التراكم المنجز من قبل الرحالين والمغامرين والموحدين والمتعاقبين على حكمها منذ أيام الرومان إلى زمن المحتل الصهيونى السادر في تشويه ما تركته الإنسانية ملكا للناس كافة، ووقفت الرحلة، منناحية أخرى، ضد أشكال ا لقرصنة وأنواع الاستنزاف من قبل المحتل ضدا على الإرادة الإنسانية.فالقدس ملك للسماء التي لاتفرق بين من، وما، يوجد تحت فضائها.
من كائنات مختلفة.
واتخذت القدس مكانة خاصة لدى المغاربة ‘ولهذا فقد شدتهم إليها نفس الوشائج التي شدتهم إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة. فكان جلهم يمر بالشام عند مقفله من الحج حتى ينعم برؤية مسرى النبي العربي ويحقق الأجر في الرحلة إلى المساجد الثلاثة’ ‘عبد الهادي التازي : أوقاف المغاربة في القدس.
1981
وتروي مصادر تاريخية عديدة عن دور المغاربة في الدفا ع عن القدس، ودعم الأسطول المغربي لـ’صلاح الدين الأيوبي’في معركته ضد الصليبيين.( عبد الهادي التازي.
نفسه). ويذكر ابن جبير(ق13م) في رحلته ، حرص المغاربة على افتداء القدس بكل غال ونفيس، من خلال دعمهم لإخوانهم بالشام ضد الصليبيين (ووقع منهم عدد كبير في أسر أعدائهم ، وقد حرص بعض أثرياء التجار المسلمين على أن يفكوا اسرهم وكذلك كان موقف القيادة الإسلامية متمثلة في الملك العادل نورالدين محمود…ولاشك في أن اشتراكهم في المعارك ضد الصليبيين قد جر عليهم عداوتهم، ولدا وجدنا أن الصلييبين قد عملوا على فرض ضريبة زائدة على المغاربة على نحو خاص، عقابا لهم على تلك المشاركة في تلك القضية المقدسة) (الجغرافيون- الرحالة المسلمون في بلاد الشام في عصر الحروب الصليبية.إعداد: محمد مؤنس أحمد عوض,1995.ص.295.
ولايمكن إغفال دور المغاربة في تشكيل المكان المقدسي من خلال، كما أثبثت الوثائق، أوقاف المغاربة ،فضلا عن حيهم الشهير ‘الذي يحده شرقا، كما سبق أن قلنا، (حائط البراق)’الذي أطلق عليه الصهاينة ‘حائط المبكى’، (نفسه). وما أحاط بذلك من دسائس ومؤامرات إلى اليوم.
يمكن إجمال الصور المقدسية في الرحلة المغربية في الصور التالية:
1ـ ترسيخ جانب المقدس المنتشر في الفضاء المقدسي بحكم تجسيده لهوية المدينة . والتركيز على مظاهر المقدس المادي وعلاماته (المساجد / الكنائس/ البيع/ القبور والمدافن/ الممرات والطرق والعتبات المختلفة/…الخ) هو ،في جوهره، محطات دالة على تطور المقدس وتحولاته في المكان والزمان عبر مراحل تاريخية مختلفة.
2 ـ وتبعا لذلك ينتقل المقدس المادي إلى مستواه الرمزي ليصبح أيقونا متداولا بأبعاده المختلفة.فالحج إلى القدس رحلتان:
رحلة الزائر للمكان المقدس وهي محدودة في الزمان والمكان- عبر محطاته الشهيرة ( قبة الصخرة/ حائط والبراق الشريف/ كنيسة القيامة/ بيت لحم وميلاد المسيح عليه السلام أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال…الخ)
3- رحلة الهوية القائمة على بعث المقدس – في كل زمان ومكان- وهي رحلة لاتنفصل عن لحظات التهديد (الصهيونية مثلا)، بشكل مباشر أو غير مباشر، في سياق أسئلة الحاضر، حاضر الرحالة.
4ـ الوصف المفصل للمعمار المقدس وغير المقدس، أيضا، في القدس الشريف.ولم تخرج معظم الرحلات عن ذلك، بل اشترك معظمها في موضوعات مشتركة (قبة الصخرة/كنيسة القيامة/الإسراء والمعراج…الخ)
مع تميز بعضها بموضوعات خاصة كما ورد عند ‘الإدريسي’أثناء تتبعه لرحلة المسيح عليه السلام وعلاقته بـ’ألعازر’.
زخر هذا الوصف، إذن، بالاستقصاء الدقيق للكنائس والمساجد خاصة المسجد الأقصى- والمحاريب، ومدافن الأنبياء وقبورهم، والأبواب الحاملة لصدى القداسة (الأسباط)، فضلا عن تضاريس طبيعية (جبل الزيتون) ومعمار ما زال يحمل رائحة التاريخ (سور القدس).
وتجدر الإشارة إلى أن الفضاء غير المقدس يشتعل بالقداسة، ولو لم تمسسه نارها الرمزية. فهواؤها من هواء الجنة، وفواكهها هي فواكه كل الفصول، سهلا وجبلا، صيفا وشتاء، حرارة وبردا،خصوبة وجفافا.
5 ـ وإذا كان المقدس،عادة، لا يخضع لمقولات الزمان والمكان ،فإن ما عداه ،في القدس، يصبح تابعا، بالضرورة، لهذا المقدس. ويصبح اليومي المرتبط بالنزوة والهوى والمصلحة الآنية، حاملا للقليل أو الكثير من المقدس الذي جسدته أحداث التاريخ،و وما زالت تجسده إلى الآن.
هكذا تصبح القدس منتمية إلى الفصل الخامس، عوض الفصل الرابع، وإلى الشهر الثالث عشر عوض الثاني عشر، وإلى الساعة الخامسة والعشرين عوض الرابعة والعشرين .
إنه زمن ‘عرصة القيامة، ومنها المحشر والمنشر’ على حد تعبير ‘المقدسي’ في ‘أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم’.
ولعل هذا ما يفسر طبيعة بناء بيت المقدس ( بناه داوود وسليمان كما جاء في رحلة محمد بن علي دينية الرباطي) ويفسر ، ايضا،معجزة الإسراء والمعراج من ‘الأقصى، ويفسر، مرة ثالثة، تاريخه المقدس من محطاته الذائعة الصيت( مريم العذراء/ولادة المسيح عليه السلام/ألعازر الذي أحياه المسيح عليه السلام..الخ). إنه تاريخ المعجزة التي لاتاريخ لها.
6ـ قدمنا بعض النماذج من الرحلة الأندلسية (رحلة الصباح ورحلة البلوي) لاعتبارات كثيرة أهمها الرباط الوثيق بين الأندلس والمغرب، دينيا وفكريا وحضاريا، خاصة أن القرن الذي ينتسب إليه كل من الكاتبين (ق14م) ‘كان قرنا خصب الفكر، كثير الإنتاج، عميق البحث’( الحسن السائح م.م ص.5 ) مغربيا وأندلسيا، كما أن كلا منها عاش باامغرب مدة قد تطول أوتقصر، متتلمذا على شيوخهه علمائه ومصادره المتعددة. وبالإضافة إلى ذلك لم يشذ منهج التأليف الرحلي عند هؤلاء الرحالين الذين حافظوا على سنن التأليف الرحلي افتتاحا واختتاما، وما بينهما من محطات بنائية قامت على السرد المفصل والتوصيف الدقيق والإ ستطراد المفيدوالتوظيف المتعددة الأبعاد للشعر وعلوم اللغة
والمحكيات المختلفة التى توزعت بين الجد والهزل.
7ـ الوصف الدقيق لمعماره الحضري، والحضاري أيضا، بحكم دور القدس في التاريخ الإنساني، فكراوإشعاعا حضاريا عبر الأزمنة والحقب. ولذلك انكب الرحالون على تحديد مساحنها، طولا وعرضا، خاصة أن الرحلة العربية ،عامة، ما زالت ،إلى الآن، تحمل وشم علم الأطوال والعروض- بالرفع- وعلم الخطط، فضلا عن معاجم البلدان، و’فضائل المدن’.
فـ(البكري) لايتردد في رسم المسجد الأقصى (القرن16) بحهاته وأبوابه وقببه ومحاريبه..
8ـ مزجت هذه النماذج الرحلية بين تقاليد ‘الخطط’ وكتب الأطوال والعروض3 وبين الأسلوب الرحلى القائم على ‘الترميم النصي’ من خلال نسج المعرفة المشتركة حول القدس، بأسلوب الرحالة. وفي مستوى اخر كان الهاجس المعرفي هو الذي يقود الرحالة أثناء تجواله بالقدس إلى الحد الذي تحولت فيه الموصوفات المقدسية إلى’مسكوكات’يتعمد الرحالة تكرارها حفاظا على هوية المدينة المقدسة.وانفردت بعض الرحلات( رحلة البلوي) بمستوى متميز من الأدبية، خاصة على المستوى الأسلوبي،جعلت منها قطعا نثرية ذات إيقاع خاص، وعكست تجربة شعورية خاصة أيضا، مختلفة بذلك عن الرحلات السابقة التي استندت إلى طوبوغرافية المكان، في حين جمعت رحلة البلوي بين جغرافية المكان وجغرافية الروح.
9ـ تميز الوصف عند الرحالين المغاربة الزائرين للقدس ، بالوصف الدقيق لمختلف مستوياتها الحضرية،والحضارية ، التي لم يحظ بها موقع معين في التاريخ الإنساني. ولم تبق جغرافية بيت المقدس- وهذا وارد في معظم النصوص- حبيسة الخطط وعلم الأطوال والعروض، فضلا عن معاجم البلدان…بل امتدت الجغرافية إلى الماضي والحاضر،البشر والحجر،المعاش اليومي للساكنة المتعددة الأديان،الأعمال والمهن، التقاليد والعادات والأعراف…
والموقف ذاته عبرت عنه الر حلة العربية الإسلامية عامة ( أسامة بن منقذ/ السمعاني في القرن 12//ابن جبير في القرن13م/القزويني في القرن13/…)مستفيدة من الرؤية البصرية، والوثيقة التاريخية، والإستقصاء العلمي،والتأويل النابع من الصراع الدائر حول بيت المقدس منذ أقدم العصور، مجسدا في الحرب الصليبية المستمرة.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة