السبت 2024-12-14 01:09 ص
 

الكتابة من ذاكرة مفقودة د.شهلا العُجيلي

08:57 ص

الوكيل - كان لرجل ابنتان زوّجهما في بلدته. وبعد مرور وقت على زيجتيهما، طلبت منه امرأته أن يزور ابنتيه، فيطمئنّ على أحوالهما. ذهب الرجل إلى ابنته الأولى، والتي زوّجها لفاخوريّ، يرتزق من صناعة أواني الفخّار وبيعها. سألها الأب عن أحوالها، فقالت إنّهما في ضيق عيش، وأنّ الأمر كلّه يتعلّق بالسماء، فإن احتبس المطر وما يحمله من هواء رطب، جفّ الفخّار، وصمد، واستطاعوا بيعه، وتوفير ما يقوتهم، وإن نزل المطر، خرب بيتهم.اضافة اعلان

ذهب الرجل لزيارة ابنته الثانية، والتي زوّجهالفلاّح، وحينما سألها عن أحوالها، شكت له ضيق العيش هي الأخرى، وأنّ الأمر يتعلّق بالسماء، فإن أمطرت، نبت الزرع، وإن احتبس المطر، مات زرعهم، وجاعوا معه.
عاد الرجل إلى زوجته، وحينما سألته عن حال ابنتيهما قال: يا امرأة! إن أمطرت ابكي، وإن لم تمطر ابكي!
تلك هي الحكاية، أمّا ما وراءها فهو يخصّ المتلقّي، الذي سيرسمسيناريوهات مختلفة،، لكنّها كلّها ستفضي إلى البكاء، مع ابتهال إلى الله تعالى، يحار العقل في ابتداعه، فهل يقول الداعي: اللهمّ اسقنا الغيث!أم يقول: اللهمّ احبس ماء السماء. ليس له إلاّ أن يقول: اللهمّ افرجها، وطريقة الفرج المناسبة يقرّرها الله وحده، ممّا يشكّل هروباً من التبعات، وانهزاماً أم المسؤوليّة.
هذا تماماً ما يقوله السوريوّن: اللهمّ افرجها! فالحلول كلّها بعد الخطيئة الأولى مبكية ومؤلمة، تحوّل معها الناس إلى بكّائيين، وجلاّدين لذواتهم وللآخرين، ليس لهم إلاّ رثاء مكانهم، في الشعر، والقصّة، وربّما، بعد قليل، فيالرواية، وهم في كلّ حين يعلنون حنينهم إلى زمانهم الأوّل، وندمهم على الفرقة والشتات، وذلك في اختيار الأغاني التي يسمعونها ويحمّلونها على صفحات تواصلهم الاجتماعيّة، وفي العبارات التي يبتدعونها أو يقتبسونها، وفي المقالات التي ينشرونها، نافرين من كلّ من ساهم في صناعة هذه الحال التي وصلوا إليها، من غير الاعتراف أو الوعي بأنّهم جزء منهم، ولاعنين القراصنة والأباطرة على حدّ سواء.
لقد انقلب السحر على السحرة جميعاً، ولم يبق سوى الحنين، الحنين إلى البيت، والمدرسة، والعمل، والقتلى… الحنين إلى ليل خلوٍ من أصوات الموت. ولم يخرج السوريّون، في ذلك، على ما يفعله البشر عادة:أليسوا يخطئون، فيندمون، فيحنّون، فيكابدون!وأليس للتراجيديّ دور في كونه تراجيديّاً!
استعار السوريّون التعبيرات الثقافيّة التي ابتدعها من سبقهم إلى النكبات، ولعلّ ‘حنظلة ناجي العلي’، وصوت محمود درويش التعبيران الثقافيّان الأكثر تداولاً، بوصفهما أيقونتين ثقافيّتين رئيستين في درب الآلام الفلسطينيّ منذ 1948، ولم تبد أيّ بوادر لمنتج ثقافيّ سوريّ قد يوازي أيّاً منهما! فصار نصّ محمود درويش ‘لماذا تركت الحصان وحيداً’ معادلاً موضوعيّاً لتحوّل السوريّين عن بيوتهم بسبب أعمال العنف المتزايدة، وسواء أكان انتقالهم داخل سورية أم خارجها، دخلوا حالة الحنين إلى المكان، ومحاولة الصمود للعودة إليه:
ومن يسكن البيت من بعدنا يا أبي؟
سيبقى على حاله مثلما كان يا ولدي!
تحسّس مفتاحه، مثلما يتحسّس أعضاءه، واطمأنّ…
لماذا تركت الحصان وحيداً؟
لكي يؤنس البيت، فالبيوت تموت إذا غاب سكّانها…
كن قويّاً كجدّك! واصعد معي تلّة السنديان الأخيرة.
يا ابني تذكّر: هنا وقع الانكشاريّ عن بغلة الحرب،
فاصمد معي لنعود…

لقد دخل السوريّون هذا النفق، نفق القضيّة التي ستسيطر طويلاً على الإبداع، كما فعلت الحرب الأهليّة بالكتابة في لبنان، فالوضع الراهن فجائعيّ، يحاصر كلّ شيء: أدمغتنا، ومشاعرنا، ومستقبلنا، وسيكون محور الكتابة، الذي إن فكّر أحد في الخروج عليه لن ينجو من حكم قيمة نقديّ إقصائيّ.
لن ينسى السوريّ أنّ الجميع اشترك في قتل الجميع، وسيُكتب التاريخ من جديد على شكل عمل أدبيّ وآخر مضادّ، وستصير الكتابة انتقاماً مباشراً، وذلك أردأ أشكالها، وربّما ستصير الكتابة عن وردة أو عن فرس، ضرباً من الشجاعة، أوحالة ترف مستهجنة.
هل أستبق الأمور؟ ربّما، فأدب النكبة السوريّة مازال يتخلّق، لكنّ مرارته تسبقه، ورائحة الدم تسبقه، وعفن الأحقاد يسبقه. وهل سنتمكّن من إنتاج نصوص من مثل: قلب الظلام، والمريض الإنكليزيّ، وعدّاء الطائرة الورقيّة؟
أخشى أن نعود لإنتاج نصوص مؤدلجة وإقصائيّة، وحينها ستكون أكثر نبلاً وجمالاً، لكن ما هو طعم ؟ أليس مربكاً ومؤلماً، ومخيفاً؟! وقد يكون أخفّ وألذّ!
إذن، إن كتبت من ذاكرتك ابكِ، وإذا كتبت من ذاكرة مفقودة إبك أيضاً، فحالك كحال الرجل الذي زوّج ابنتيه لفاخوريّ وفلاّح.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة