الجمعة 2024-12-13 09:58 ص
 

«الكذب ملح الرّجال»

09:36 ص

لم يعد 'الكذب' في هذا العصر صفة مرذولة وخلقاً ذميماً ينفر منه الساسة والصحفيون والتجار وأصحاب المهن والحرف المختلفة، بل أصبح 'ملحاً' في عرف بعضهم حيث لا يخلو من رواياتهم وأحاديثهم، إذ من دون الكذب القليل لا طعم للجلسة والسهر حسب ما يدّعون.اضافة اعلان

يبدو أنّ 'الكذب' لم يعد ملحاً فقط لتحسين طعم الرواية، بل أصبح عند بعض الصحفيين والساسة خيوطاً لنسج الرواية بشكلٍ كاملٍ متكامل، بحيث تخلو من طعم الصدق بتاتاً، وأصبحت بعض الصحف الصفراء تعتاش على الكذب واختلاق الروايات ونسج الأحاديث، وابتداع الحوارات الوهمية، التي لا حظّ لها من الواقع، ولا تقتـــــــرب من المنطـــــــق، ولا تحترم عقـــــــول القراء وتخاصم المصداقية بكـــــلّ إصرار وتعمّد.
لم يخطر على بال أحد حتى هذه اللحظة أن يصبح الكذب تجارة رابحة ووسيلة تكسُّب وثراء، إذ لم يعد أصحاب هذه التجارة يخافون من المبالغة والتهويل، ولم يعودوا يملكون قليلاً من الإحساس بعاقبة انكشاف الحقائق وبيانها ولو بعد وقتٍ قصير؛ لأنّ اختلاق الأحداث ونسج الروايات أصبح مهنة وفناً يمكن تدريسه وتدوينه وتطويره وتوارثه، ليصبح علماً كبقية العلوم الإنسانية، الذي يحتاج إلى أدوات وأساتذة ومحترفين.
لقد حارب الأنبياء والرسل والمصلحون هذه الصفة المرذولة عبر التاريخ حرباً ضروساً لا هوادة فيها ولا تهاون، وعدّوا الكذب أحد عوامل انهيار الشخصية الإنسانية، وأداة هدم لاستقرار المجتمعات، وقد ورد في الأثر عن الرسول العربي محمد صلى الله عليه وسلم بما معناه أن المؤمن قد يزني وقد يسرق ويرتكب المعاصي، ولكن المؤمن لا يكذب أبداً، كما ورد في أثر آخر، وأن المرء ليكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذاباً، وقد عدّ الكذب من أشد أنواع الظلم للنفس والمجتمع.
يقول بعض علماء النفس من الفقهاء المسلمين، إذا اعتاد المرء الكذب وتكرر منه، أصبح له سجيّة وطبعاً، وخلقاً مكتسباً وجزءاً من شخصيته ولوناً دائماً من سلوكه، لا يستطيع التخلص منه، ويصبح في وضع مريض يستعذب معه الكذب ولا يعود يشعر بشيء من الحـــــــياء حتى لو تم اكتشاف كذبه في الجلسة الواحدة.
الكذب بضاعة محرمة في كل المجتمعات، المؤمنة وغير المؤمنة، سواءً التي تدين بدين سماوي أو غير سماوي، وليس هناك ملة أو مذهب أو فلسفة تبيح الكذب أو تغض الطرف عنه، بل إن بعض المجتمعات تفرض أشد أنواع العقوبة على الكذب وخاصة في حضرة القضاء أو تحت القسم، لأن التهاون بهذه الصفة يعطل ويفسد التشريعات ويضيع الحقوق، مما يؤدي حتماً لانهيار المجتمع.
ينبغي التعاون على محاربة هذه الصفة على مستوى محلّي وإقليمي وعالمي، من أجل اجتثاثها من عالم السياسة وعالم الصحافة، وينبغي سن القوانين والتشريعات التي تفرض عقوبة مغلقة على من يتعمد الكذب، ولا يجوز التهاون بذلك تحت ذريعة منع احترام حرية الصحافة والصحفيين وتحت ذريعة التضييق على حرّية الرأي، لأنه من الأمور البدهية المتفق عليها عند كل البشر أن الكذب جريمة، ولا يمكن أن يكون الكذب صنفاً من أصناف الصحيفة أو لوناً من ألوان حريات الرأي، فلا يمكن أن يصبح الكذب حقاً، لأن الكذب لون من ألوان الباطل، والحق نقيض الباطل.
كما لا بد من السعي لإيجاد ميثاق اجتماعي، ينص على مقاطعة من يتعاطى الكذب من الساسة وأصحاب المسؤوليَّة وكل من يحتل موقعاً عاماً، ومقاطعة الصحيفة التي يجرّب عليها الكذب واختلاق الروايات واغتيال الشخصيات.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة