السبت 2024-12-14 02:49 م
 

"المشتبك" أبو باسل

06:50 ص

لا أعرف من علم الآخر ثقافة الاشتباك يا أبا باسل؛ الممدد مصابا جريحا حزينا على نقالة إسعاف، بعد أن داهمتَ قوات الأمن بحضورك الطاغي، فداهموك بهراوات تقلق من الحضور، المنبثق من قوة الغياب.

اضافة اعلان


أعتقد أنك من الرجال الذين يتعلمون من أولادهم دروسا في الحياة، قبل أن يظنوا أنه بموت المعلم تموت الدروس. كان بوسعك مثلا أن تضغط على باسلك قليلا بعد أن تخرج من كلية الصيدلة، فيجاري زملاءه العقلاء، ويعمل في صيدلية أو شركة دواء ويكفي خيره شره! كان بإمكانك أن تنصحه مرة أخرى بعد المائة أن يلتفت لصحته ومستقبله وعقله، قبل أن تهجم عليه الدهشة؛ تلك التي من النوع القادم من قربى الدم والسلاح.


ما أجرأك يا أباه حين كشفت عن وجهه الممزق بغلهم وتشفيهم، بالمطارد العنيد، وقلت للمرتجف على باب الثلاجة: هذا أحلى وجه رأيته في حياتي! ثم، ما أعندك وأنت تترك بيت العزاء لزغاريد النساء وأحاديثهن الطويلة عن تجارب مشتركة، وزيارات الأحباب لهن في الأحلام، وتقرر أن تشتبك مع محكمة مع الشرطة مع الغاز المسيل للدموع مع شتائم المستعجلين في الشارع، فقط لتثبت أن أبا باسل مثقف حقيقي، وهو صاحب الحكمة الأول؛ “أن تكون مثقفا وغير مشتبك فلا منك ولا من ثقافتك” !


لو كان ابنك ما يزال على قيد التنفس، ما رضي أن تترك أمه تحت خيمة شيدت على عجل، من أجل قضاء كان سيسقط التهم تلقائيا، بسبب موت المتهم! كان سيضحك كعادته على قصة الموت تلك التي أنقذت سنين عمره من سجن مؤكد. نعم، الموت في اعتبارات باسل وصحبه وشعبه، شعبه “ما غيره” الذي لم يتغير، أهون ألف مرة من المذلة، والموت في شقة مفروشة فوق بقايا الرصاص وكتب “غرامشي” ومجلة العربي الكويتية ورواية “المسكوبية”، أهيأ صراحة من موت القلب الذي توقف ست مرات في مستشقى الخدمات العسكرية الطبية، وإنقاذه هناك بعد التعذيب والشبح والتنكيل الذي مورس عليه وعلى رفاق السجن والحرية معه.


أول من أمس، كان الجميع على الرصيف مشتبكا مع ذاته قبل أي كان! كانوا يشاهدون الثورة الفلسطينية التي قرأوا عنها قبل أن تتدخل مديريات تربية أوسلو، على خط تأليف الكتب. شاهدوا بأمهات أعينهم أناسا من جلدتهم، من قراهم ومدنهم، من نفس ملامحهم وملابسهم وأصابعهم المتجمدة من البرد، لكنهم من الكوكب الذي كان يدعى “مقاومة”، من دائرة صار اسمها “اشتباك”، ينافحون عن آخر حقوقهم في الهواء غير القابل للذوبان، يمسخرون مسرحية محاكمة الموتى بأصواتهم ويافطاتهم، ودموعهم التي لم تنشف بعد على باسل.


أول من أمس، شاهدوا أيضا كيف يكون الحارس الأمين جنديا صنديدا يضرب بيد من حديد، كل من تسول له نفسه الوقوف على الرصيف!
صدقوا أنفسهم يا أبا الشهيد أعرف بماذا تفكر الآن. صدقوا أنهم دولة ومؤسسات وقوانين و”مصلحة الدولة العليا”، فأخذتهم الحمية ونقلوا للعالم كله صورتهم وهم صارمون جادون لا يعرفون المزح في الأمور الجادة. صدروا للدنيا التي كانت تظن أن الدولة تمخضت عن رحم ثورة، تحترم الغاضين المسالمين الواقفين فقط على الأرصفة، حقيقة سوف ترسخ في عقول الأشهاد أن لا صوت يعلو فوق صوت الدولة، المتحدثة باللغة العربية حتى لو كانت تحت الاحتلال، وأنهم في تلك الجزئية بالذات “آيدل” العرب!


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة