السبت 2024-12-14 02:07 ص
 

المفرق وقراها: الذاكرة السمراء (3-3)

08:46 ص

الوكيل - دهشة تتملكني كلما استرجعت في الذاكرة تاريخ تشكيل تلك القرى في المفرق، ومع الدهشة يتنامى إعجابي بالمجتمعات هناك، وأنا أرصدها بعين العارف بها، المتشرب تفاصيلها، لا بروح المستشرق العابر منها، الغريب عنها.
نعم.. دهشة، وإعجاب، بقصص تكوين تلك القرى، بكل مراحل تسجيلها، وقسمتها، واستصلاحها، وبنائها، والاستقرار فيها، كلها حكايات نجاح، ونضال، بشكل تلقائي، وفطري، ولكن مع إصرار على التغير، والتقدم نحو الأفضل.
وهنا سأكمل ما بدأت من محاولة التأشير إلى حكايات بارزة، وعلامات تحتاج إلى تأمل وتدقيق فيها، كانت ساحة حضورها، تلك القرى في المفرق.

«صَدَق أبو مصطفى»
قرية أخرى.. ذاكرة أخرى.. هذه المرة في سما السرحان، والشهادة كانت من كبارها حول التطور الحديث لسما السرحان، بمعنى أخر، كيف وصلت الخدمات لها، بعد معاناة، كان الحل قادما بحديث شفوي، تلقائي، وصفي التل (أبو مصطفى)، هكذا يذكرونه، وهم يسردون الحكاية، حول أوائل الخدمات في سما السرحان، وكيف تحقق الحلم: (يتذكر أهل القرية أن الخدمات الحقيقية وصلت إلى قريتهم بعد زيارة شهيرة للمرحوم وصفي التل، أيام كان رئيسا للوزراء، ويعرج على تفاصيل هذه القصة الحاج أبو زعل بعد أن يتحدث عن المدرسة والعيادة في القرية، كمفتاح للتطور الذي حدث، وفي هذا السياق يقول: كانت أول مدرسة في «دار سلامه، وقمنا سَكّناه ببيت شعر، وحطينا المدرسة في هذيك الدار، وما كان فيها إلا صف أول.. وبالنسبة للصحة، كان يجينا من المفرق دكتور اسمه سليمان بقاعين، وكان يمر عندنا بالأسبوع مرة، وكان يعالج الناس من أهل البلد عندي بالدار، وبعد فترة قال لي والله تعب عليك انه نعالج الناس عندك بالدار، إيش رأيك تأجرنا غرفتين عندك بالحوش، وبالفعل استأجروا مني، وبعدين عمّرنا على الغرفتين وصار مركز صحي.
لكن الخدمات الصحيحة إجتنا مع زيارة دولة المرحوم (أبو مصطفى) القرية، وهذي إلها قصة يوم انه أجا وصفي التل واتغدى بمغير السرحان، بعدين أجا عندي المزرعة، وقال ودي تقول لي أي اشي تحتاجه سما، فكان ردي عليه انه أجونا حكومات قبلك وما عملوا إلنا اشي. لكنه قال لي احكي، وبعدين نشوف. فقلت له، أول حاجة الطريق يا أبو مصطفى.
قال : أنا شفته، ورح نزفته.
قلت: عندنا عيادة، ووضعها خربان، ومعششة فيها الحيايا والعقارب.
قال: بكره الساعة ثمانية الصبح يجيك امبلنص(سيارة إسعاف) وفيه أربع أسره، تشوف له مكان عندك.
قلت له: والجامع، عَمّرنا منه غرفتين وما كَمّلناه.
قال: الجامع، بعد أسبوع تراجع الأوقاف عشانه.
قلت: والمدرسة موجودة بالجهة الشرقية وصرنا بانيين شمعاتها، ومش قادرين نكملها.
قال:تراجع التربية بعد أسبوع وانشاء الله تكون محلولة مشكلة المدرسة.
وخلّص أبو مصطفى زيارته، ورحل.
ونمنا ليلتها، واحنا ناسيين الوعود، يعني كنا مفكرين انه وعده مثل غيره، وانه رح يتأخر علينا.
لكن ثاني يوم، ومن الصبح، وإنوا صوت الإمبلنص يدوّي بالقرية.. كمان اتفاجأنا انه بعد سبع أيام وانه الآليات تشتغل بالشارع للقرية، وزفتوه خلال هذه الفترة. وقمت أنا راجعت بعد أسبوع التربية وانهم مجهزين أربع آلاف دينار للمدرسة، وراجعت، كمان، الأوقاف وكان إلنا بيها ألفين دينار عشان الجامع، وبعيدها قلنا: (صدق أبو مصطفى).. وصارت سما، وكبرت من يومها».

قسمة الآثار
الذاكرة الشفوية تعطي بعدا آخر للتاريخ المكتوب، وتكشف نقوشا يعجز عنها الآثاريون رغم خبرتهم في تحليها، وهنا عندما أصل أم الجمال، تسحرني آثارها، لكني بعد بحث علمي مضني، أجدني أمام مواجهة الحقيقة المجتمعية، في أن تسميات الآثار، والحفريات والتنقيبات، تتلاشى، عندما يطفو فوق سطح الأحاديث كيف كان الوضع حتى منتصف القرن الماضي، وهذه شهادة مستلة من أهل قرية أم الجمال: «أما الوضع داخل حدود منطقة الآثار فقد كان متعارف عليه بأنه لكل صاحب بيت شعر، توجد منطقة حجرية، وبيت من الآثار، أو مساحة تعود لعائلة، تعرف بأنها تعود لها، حيث أنه كان هناك في الآثار منطقة «دار العويسة»، وهي الآثار المعروفة بالمحكمة، ودار العويسة هم أحد أفخاذ السرور من المساعيد. وكان هناك ما يعرف ب»تبابين الشيوخ»، وتعود لشيوخ القرية، حيث كانوا يضعون فيها التبن، وموقعها قريب من الكاتدرائية. كما أنه في الموروث الشعبي، ما زال أهل القرية يتذكرون منطقة «دار المعز»، التي كانوا يضعون فيها الماعز في الشتاء، و»دار أبو مرجي»، وهو فاعور اللاحم، و»بير الحاج مشوّح السحيم»، ومنطقة المدرسة، وهناك دائما تبابين في الآثار لمعظم العائلات في القرية، وهناك أيضا «دار الجلّة» (الجلة هي مخلفات فضلات الحيوانات، وتستخدم كوقود في الشتاء)، و»دار الغولة» أو «دار العويسي». وتلك المناطق التي تم استغلالها بهذا الشكل كلها معالم أثرية، وضمن منطقة الآثار، وتم استغلالها للسكن أو الخزين، أو جمع الماء، أو التعليم، وأخذت التسمية نسبة إلى من قطنها، أو الطريقة التي تم استغلالها بها».

صلح عشائري
قرية رحاب لا تقل أهمية عن قرية أم الجمال، وآثارها، وكنائسها، معروفة وعميقة في التاريخ، خاصة تلك الكنيسة الكهفية في تلك القرية، غير أنه عند الاستماع الى ذاكرتها الحديثة، تثيرني تلك النشوة الاجتماعية في رحاب، وكيف أنه بعد حديث التاريخ والآثار، يكون للحديث نكهة المحبة، في أن هذه القرية شهدت أهم صلح حافظ على الأمن المجتمعي، على مستوى الأردن بأكمله، بين عشائر الشمال، وبني صخر، وهنا أورده لأهمية الوثيقة والشهادة هنا:
«هذا حدث مهم وقديم يتوارد بوحه كبار قرية رحاب عندما يريدون تفصيل تاريخ القرية، حيث يشيرون في أحاديثهم بأنه قد عقد في رحاب، في عام 1920م، أكبر صلح عشائري تشهده المنطقة، إذ أنه في بيت الشيخ مكازي أخو ارشيده تم صلح الشمال مع بني صخر، بحضور الأمير شاكر بن زيد مستشار أمير الأردن لشؤون العشائر.
وقد تم توثيق هذا الصلح في (كتاب الرمثا ولوائها) لفاروق السريجين، كما أنها وردت في مذكرات محمد رسول الكيلاني سنة 1997م، ونورد هنا النص كما هو عند فاروق السريجين تحت عنوان اتفاقية الصلح:
« قامت عشيرة بني حسن بالتوسط بين الفرقاء المعنيين بزعامة امكازي اخو ارشيده لإجراء الصلح فيما بينهم، فقام بنو خالد بإجراء الصلح منفردا في الرمثا، وسمحوا فيه بكل شيء، أما الرماثنة وبنو صخر والسرحان فجرت مباحثات أولية بين الشيخ فواز البركات من جهة، وبين مندوب القبائل البدوية الشيخ منصور القاضي، وحضر المباحثات الشيخ سعد العلي البطاينة في قرية رحاب وذلك يوم الاثنين 20 محرم 1339ه/ 4 تشرين الأول 1920م.
اشترط الرماثنة خلال المباحثات أن تعود الخيل والعدولة مثاني، وكذلك تعود القرضة، وأن يكون الصلح حفار ودفار (أي إنهاء الخصومة بلا قيد ولا شرط)، كما اشترطت القبائل أن يكون الصلح من غباغب بحوران الى الرمثا، ومن جبل الدروز الى الشلالة، بالنسبة للرماثنة، أما بالنسبة لسعد باشا العلي، فاشترطوا عليه أن يكون صلحه عن جبل عجلون كاملا وليس عن نفسه.
وفي يوم الثلاثاء 6 صفر 1339ه/ 19 تشرين الأول 1920م اجتمعت الأطراف المعنية لإجراء الصلح في مضارب بني حسن في رحاب برئاسة مكازي أخو ارشيده».

الحجارة المنهوبة
كثير من القرى تشير بأصابع العتب الى أهلها، فقد غيّروا فيها، وبمعنى آخر فقد خلخلوا بنيتها التاريخية والأثرية، عندما كان استقرارهم قربها، إذ أن الملاحظ في تلك الآثار أنه قد سرقت كثير من تلك الحجارة السمراء فيها.. ولعل أكثر ما لاحظت هذه الظاهرة، عندما كنت في قرية «سبع اصير»، التي يقال بأنه
كان فيها سبع حظائر ضخمة فسمي المكان باسمها.. سبع صَير، أو سبع اصيَر بإضافة ألف المحبة في بداية المقطع الثاني من الاسم!!
كتبت حينها: «ما لا يعلمه الكثيرون أن تلك الخربة التي تكاد تكون امتدادا بكل التفاصيل لخربة صبحا تتداخل فيها الأبنية الحديثة فيكون للبناء لونان أحدهما الأسود، وهو لون حجر البازلت الذي ينتمي إلى آثار الخربة، ولون آخر يتشكل من الإسمنت الأخضر أو الحجر الأبيض الحديث، فتكون بعض الأبنية تشكيلا هجينا بين الأصالة والمعاصرة ولكن بشكل عشوائي.
والقرية شاهدة ايضا على حجارة كثيرة نقلت منها، وبنيت بها قصور وبيوت في قرى مجاورة، ولعل اضخمها ما كان يسمى بقصر اليهودي في الخربة الذي نقلت كل حجارته المُحَكّمة، وبَني بها قصر أحد شيوخ المنطقة الذي ما زال الناس هنا يشيرون إلى أن حجارته نقلت من خربة سبع اصير!!».

زملة الطرقي.. ومنشية القبلان
مرورا، قبل نهاية هذه الكتابة، حول المفرق وقراها، على قريتين، ارتبط اسميهما بمن اسسهما، وهما زملة الطرقي، ومنشية القبلان، واحدة اخذت اسم الشخص الذي سجل أراضيها باسم أهلها، والثاني مرتبطة بقبيلة الشخص الذي واطنها، واستقر فيها أول مرة، وهي قرية منشية القبلان.
عن تسمية زملة الطرقي، يتحدث الحاج «حمد العبيثة» عن القرية، ويسرد كيف كانت البداية، فيقول: «هذه الأرض كانت صحرا، وما كان فيها سكان، يعني كنا بدو، ونرحل ورا حلالنا، لكن كنا نتحرك بنفس الأماكن، ونعود إلها. وإحنا استلمنا هذه المنطقة بالستة وثلاثين(1936م)، على دور أبو حنيك(كلوب باشا)، واللي طلبها منه، بهذه المنطقة، هو «الطرقي عجيان»، ومنشان هيك أهل القرية سموا قريتهم باسمه.
أما القرية الثانية فهي منشية القبلان، وقد تأسست في مكان كان اسمه الخان، وحولها كانت الكتابة على هذا النحو: «تلك قرية الخان، بقيت حاملة هذا الاسم حتى بعد عام 1958م، حيث انتقل الشيخ سعود القبلان ومن معه في هذه السنة من الدفيانة ليجاوروا هذه الخربة القديمة، حيث شيّد الشيخ في البداية دارا، بناها وحيدا، ثم بدأ أقاربه يرتحلون وراءه إلى أن دشنوا المكان عائلات وأبناء وأحفاد، غير أن تغيير اسم القرية صار أمرا واقعا في عام 1963م حيث بات اسمها ملاصقا لاسم جد أول من واطن المكان وبث الحياة فيه، مشكلا منشية القبلان التي بدأت برجل ما زال يرى تزايد القرية حوله لتصبح معه أكثر من ثلاثمائة وخمسين شخصا هم تعدادها، وهو عقيدهم حتى الآن».

اضافة اعلان

كتابة وتصوير: مفلح العدوان

الراي


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة