الجمعة 2024-12-13 03:10 م
 

النجدة، أنا أوروبي! أدريان فان ديس

11:02 ص

الوكيل - أين يمكنني أن أصبح أوروبياً بشكل رسمي؟ هل هناك مكتب يمكنني فيه استبدال جنسيتي الهولندية؟ ليس لأنني لا أريد العيش في بلدي. أنا أعشق سماء هولندا وسواحلها، وأكتب باللغة الهولندية. لكنني أريد أن انتمي لعالم أوسع. وأن لا أشعر بالخوف من ذلك العالم. أريد أن أتحرر من القفص. وفي ظل عدم وجود هوية عالمية، أختار أوروبا على الاقل. الخطوة الأولى تحققت: العملة الموحدة ترنّ في محفظتي. والآن أريد ايضاً جواز سفر أوروبياَ، وبطاقة تأمين صحي أوروبية، وأريد أن أدفع ضرائب أوروبية.اضافة اعلان

عـُرفت هولندا منذ زمن طويل بأنها بلاد مفتوحة ومضياف. إنها كليشيه نصدقها بكل سرور. المؤرخ الهولندي الكبير يوهان فان هاوزينغا وصف بلادنا بأنها بيتٌ مفتوح يقدّر ‘قيمة الغريب’ (خصائص الروح الهولندية 1934). ويضيف ‘كلّ النوافذ في منزلنا مفتوحة، ندع رياح البرّ والبحر تهبّ بحرية’. العلاقات التجارية الممتدّة عبر القرون، مع الجيران أو عبر البحار، جعلتنا نألف الغريب. هولندا موجودة بفضل التنقّل الحرّ. العلاقة مع الغرباء أغنت حياتنا العقلية، والأهم: جلبت لنا الاموال الطائلة.
حتى وقت قريب لم تكن الروح القومية تحظى بالاحترام في بلادي. كان من علامات اللياقة لدينا أن تتحدث بسخرية خفيفة عن هذه ‘الدويلة الضفدعية’. وإن كان هناك بالتأكيد شيء من الافتخار يكمن خلف صيغة التصغير هذه. بعد فترة طويلة من السلام استطعنا أن نتخلى عن الثرثرة الوطنية. هولندا رأت في الفكرة الأوروبية مكسباً. (لا بدّ أن البولنديين الذين مزقت الحروب بلادهم، والذين استعادت بلادهم حريتها واستقلالها بفضل أوروبا الموحدة سياسياً، لديهم فكرة اخرى). كان بوسع عائلتي طوال قرون أن تذهب وتأتي أينما تشاء، أنا الذي أنحدر من سلالة فلاحين ومستعمرين. لم نعرف العبودية أبداً، لكننا امتلكنا عبيداً.
في البيت تعلمتُ أن أنظر إلى هولندا من مسافة بعيدة. كان بيننا وبينها مسافة حرب. أمي ابنة فلاح من برابانت (جنوب هولندا) تزوجت (عام 1932) وهي في الثانية والعشرين، من ضابط اندونيسي في الجيش الملكي الهولندي في الهند الشرقية (إندونيسيا). لم تكن كلمة ‘إندونيسي’ تستخدم آنذاك إلا نادراً، فلم تكن هناك بلاد مستقلة بهذا الاسم. كان زوج أمي الأول يسمى، بشيء من الاحتقار ‘محلياً’ (من الأهالي المحليين). لقد تزوجت أمي خارج خطوط الألوان المرسومة، خطوة فريدة إلى حدّ ما من امرأة. حتى بنظر الهولنديين القاطنين في المستعمرة. كانوا ينظرون إلى أمي نظرة ازدراء لأنها وضعت نفسها، عبر الزواج، خارج المجتمع الأوروبي. ولكن السكان المحليين كانوا هم أيضاً ينظرون لها بشكّ. كانت أمي في نظرهم تمثل السلطة الاستعمارية المحتلة.
امتدت الحرب العالمية الثانية لتشمل المستعمرة الهولندية الاستوائية. اجتاحتها القوات اليابانية، وتم وضع جميع الاوروبيين في معسكرات اعتقال (ما عدا الألمان فهم من دولة حليفة). قام زوج أمـّي بتأسيس مجموعة للمقاومة، واختار الولاء للملكة وللوطن الأم. مفردات تليق بوضعه الاستثنائي: الابن الأسمر لعائلة من جزر باندا، الذي تمّ اختياره ليتلقى في هولندا دورة عسكرية عليا، وليصبح واحداً من عشرة ضباط فقط من أصول ‘محلية’. وأخيراً اعتقله اليابانيون وقطعوا رأسه.
بعد ثلاث سنوات ونصف قضتها في معسكرات الاعتقال اليابانية في جزيرة سومطرة، عادت أمي إلى هولندا مع بناتها الثلاث السمراوات الجميلات. أرملة شابة، ولكن أيضاً حامل من عسكري آخر نجح في مواساتها فأحبته. هكذا أصبحتُ ‘ابن السلام’. كان أبي محسوباً على ‘البيض’ لكن الأسرة الاستعمارية التي انحدر منها كانت قد ‘تلوّنت’ بفعل قرون من الاستيطان.
كان على والدتي أن تكافح طوال خمس سنوات من اجل الاعتراف بزوجها الأول. كان من ابطال المقاومة ضد اليابانيين، ولكن هولندا ما بعد الحرب العالمية الثانية، ما كانت تتخيل أن واحداً من ‘السكان المحليين’ قد اختار الجانب الهولندي في المعركة. فبعد الحرب انتفض الإندونيسيون بشكل جماعي ضد المستعمر الهولندي، واعلنوا الاستقلال من طرف واحد. بالنسبة للهولنديين أصبحت البشرة السمراء لون الخيانة.
هذه المشكلة التي واجهتها أمي وتجاربها في الهند الشرقية، وكسرها لخطوط الألوان، جعلتها تنظر إلى هولندا بعيون مغايرة: هناك شعب واحد عانى في تلك الحرب: الهولنديون. وقد كانوا كلهم مقاومين (رغم أن الواقع يظهر ان عدد الذين انضموا إلى الميليشيا النازية في هولندا فاق عددهم في أي بلد أوروبي آخر). وكلهم شاركوا في حماية وإنقاذ اليهود (رغم أن عدد اليهود الذين تمّ نقلهم من هولندا إلى معسكرات الاعتقال لا مثيل له في أوربا الغربية بفضل تعاون الشرطة وعمال السكك الحديد الهولنديين). أجل ! الهولنديون! من يرضى بأن ينتمي لهذا الشعب؟ ليس أسرتنا في كل الأحوال. كان أبي يردد: ‘الهولنديون: أحذية خشبية، قبعات خشبية، وأخلاق خشبية’.. مقولة كانت تتردد بكثرة في بيتنا. هؤلاء الهولنديون انفسهم، وبعد أن استقال أبي من الجيش اثر ما تعرض له من عذاب في معسكر الاعتقال والاشغال الشاقة، طالبوه بقيمة بدلة عسكرية مفقودة. هو الذي غادر المعسكر وليس لديه إلا ما يستر عورته. الهولنديون!!
اخواتي الثلاث هاجرن في أقرب فرصة. كانت هولنداً بلداً غريباً بالنسبة لهن. والدي قضى ما تبقى له من سنوات جالساً قرب النافذة، محدقاً في اللاشيء، يقتله الشوق إلى مسقط رأسه، سورابيا. توفيّ كسير القلب، عندما بلغتُ العاشرة. وهكذا بقيت وحدي مع أمّ استمرت تشتم الهولنديين حتى بلغت من العمر عتياً. الهولنديون. أنا واحد منهم، تماماً، ولكن دون رغبة. والآن، وأنا في في هذه السنّ المتقدمة، أريد أن اصبح أوروبياً.
متى شعرت بنفسي للمرة الأولى بأنني أوروبي؟ ليس خلال رحلة عبر أوروبا، فهناك كنتُ أشعر دائما بهولنديتي. في إفريقيا؟ كلا، هناك كنتُ رجلاً أبيض. في الصين؟ هناك أنا محسوب على الغربيين. وعيي الأوروبي بدأ ينمو في عام 1984، حين حظيتُ برحلة لستة اسابيع عبر الولايات المتحدة الأمريكية، بصحبة نخبة من ‘المثقفين الأوروبيين الشباب’. فرنسيان، ألمانيان، دنماركية وأنا. الدنماركية كانت إعلامية مرموقة، معروفة في بلادها، حامل وعازبة باختيارها. الامريكان الذين كنا نبيت عندهم أثناء السفر في الغالب عوائل مضيافة خارج المدن الكبيرة- كانوا لا يملـّون من الحديث عن هذه ‘الحالة’: امرأة حامل دون زواج وهي شخصية عامة! هل يتقبل الجمهور هذا؟ نعم. ولكن في أمريكا آنذاك، ما كان هذا الامر ممكناً، يؤكد لنا مضيفونا. بل إن بعض السيدات الأمريكيات الحاضرات معنا في غداء عمل في ولاية أركنساس، وصفن الأمر بالفضيحة.
بالنسبة لي كانت الإعلامية الدنماركية تعيش حياة عادية تماماً. الألمانيان كان لهما الرأي نفسه. أما الفرنسيان، فقد اعتبرا الأمر لا يخلو من جرأة، لكنه مقبول. عدم الفهم الذي واجهنا به الأمريكيون أسقط الحدود بين فرنسا وألمانيا والدنمارك. في اركنساس شعرت للمرة الأولى بهويتي الاوروبية.
بعد عودتي إلى هولندا تراجعت لحظة الإدراك تلك إلى الخلف. في السنوات اللاحقة أكثرت من السفر، وكنتُ أبحث عن مادة لكتبي في جنوب إفريقيا، وموزمبيق ونيويورك. أصبحت مرة أخرى رجلاً أبيض، وبدرجة أو بأخرى هولندياً. إلى أن انتقلت للعيش في باريس عام 2003، ليس لأسباب سلبية. كان حلماً قديماً، كنت دائماً أتطلع للعيش في مدينة عالمية كبرى، لأكون فيها شخصاً غير مرئي. كان هذا بالنسبة لي شرطاً للكتابة.
في باريس أصبحتُ هولندياً أكثر من اي وقت سابق، بل باتافي (نسبة إلى جمهورية باتافيا التابعة لفرنسا في عهد نابليون والتي كانت تشتمل على القسم الأعظم من هولندا الحالية- المترجم). كان الباريسيون يذكرونني كلّ يوم بأنني لستُ منهم. الماراثون البيروقراطي الذي يتعين على كلّ أجنبي أن يقطعه لغرض الإقامة في باريس مليء بالعراقيل. أكوام من الأوراق عليّ أن أملأها للبنك، لاستئجار منزل، للغاز والكهرباء، للهاتف، للضرائب. (ليس عبثاً أن يطلق الفرنسيون على البيروقراطية تسمية ‘ميل فوي’ أي ألف ورقة). (في الاصل نوع من الكيك الفرنسي سمي بهذا الاسم لتعدد طبقاته ويسمى ايضاً كيكة نابليون- المترجم).
أوربا الموحدة بقوانينها الحالية المصنوعة في بروكسيل، ما زالت غير فاعلة على أرض الواقع. البنوك تفرض رسوماً بما يتعارض مع قوانين بروكسيل. شركة تأميني الصحي في هولندا لا تثق بالفواتير القادمة من فرنسا.
حين كنتُ أبذل قصارى جهدي لأصبح باريسياً، كانت فرنسا مشغولة بتأكيد خصوصيتها الوطنية. بعد عامين من إقامتي هناك، شهدت فرنسا استفتاءً حاسماً حول الدستور الأوروبي (2005). صوتت الأغلبية الفرنسية بالرفض. هولندا أيضاً. هكذا نشأت علاقة أخرى بين البلدين. بدا أن البلدين لديهما الكثير من القواسم المشتركة. ازداد الحديث في فرنسا عن ‘القيم الفرنسية’. ابتكر لوبين، زعيم حزب الجبهة الوطنية اليميني، مصطلح Fran’ais de souche ‘الفرنسي المتجذر’. فرنسا ستفقد ملامحها، بروكسيل تهدد استقلال فرنسا. تسابق السياسيون على جني ثمار الخوف، وتداعوا إلى فتح نقاش واسع حول الهوية الفرنسية. بعد انتخاب ساركوزي لمنصب الرئاسة، تم تنظيم الندوات في عشرات المدن حول السؤال: ‘ماذا يعني اليوم أن تكون فرنسياً؟’ بدا وكأن الفرنسيين يشعرون بالخوف على كيانهم. وتم تحديد مصادر التهديد: الهجرة والعولمة. ولكن ايضاً غوغل وهوليوود ومكدونالدز. (في فرنسا يوجد أكبر فرع لمطاعم ماكدونالد في أوروبا). أستمع ساركوزي جيداً إلى هذه النقاشات وطلب تسجيل المطبخ الفرنسي في قائمة اليونسكو للتراث المهدد بالاندثار.
في هولندا وجدوا حلاً أبسط: كل مشكلة تمّ ربطها بالإسلام والاسلمة. الجريمة، والأحياء المهمشة، وتدهور التعليم، كلها بسبب الإسلام. في وقت اسبق، وصف السياسي الهولندي الذي اغتيل عام 2002، بيم فورتاون، الإسلام بأنه ‘ديانة متخلفة’. اليسار ساهم طويلاً في تجميل الإسلام. المجتمع متعدد الثقافات ليس سوى أكذوبة. الهولنديون أيضاً كان عليهم أن يتعرفوا على أنفسهم من جديد. تم تكليف أكاديميين بوضع لوائح بالأسماء والمصطلحات الأدبية والتاريخية. كتب وحوادث تاريخية يجب أن تعرفها لتكون هولندياً. المدن والأقاليم فعلت ذلك أيضاً على المستوى المحلي. وتمت ترجمة الكتاب المقدس إلى لهجة توينته المحكية في شمال شرق البلاد. الحاجة أم الاختراع.
راقبت ذلك كله، من مسافة بعيدة، من غرفتي الصغيرة في الطابق الخامس في قلب باريس. مدينتي الجديدة حظرت غطاء الرأس الإسلامي في المباني العمومية. وحظرت النقاب بشكل كامل. وشاهدت في ظهيرة يوم جمعة مئات الرجال المسلمين يؤدون صلاتهم في شارع ريو دي لا بواسونيير، لأن البيروقراطية عرقلت بناء مسجد لهم.
بعد بيم فورتاون، شهدت هولندا ولادة حزب جديد لديه قضية سياسية واحدة: الإسلام. في الانتخابات أصبح هذا الحزب فجأة ثاني أكبر الأحزاب في البرلمان. كلا. لن اذكر اسم زعيم الحزب الذي يصبغ شعره باللون الاشقر.
ثمّ جاءت الأزمة الاقتصادية. البنوك بدأت تترنح. تبين أن الكثير من الدول الأعضاء لم تلتزم بالضوابط المالية للاتحاد الأوروبي. البرتغاليون، الإيطاليون، اليونانيون، الاسبان، ‘دول الثوم’. عملة اليورو بدأت تواجه الضغوط. معاشاتنا التقاعدية يمكن أن تتبخر. بروكسل، عاصمة الاتحاد، تطالب بلدان الشمال بالمال والتضامن. هولندا قدمت ضمانات، لكن شعبها يتذمر. الزعيم الاشقر الكبير وجد بعبعاً جديداً: بروكسيل. لا لدفع سنت واحد لآكلي الثوم. لنعد إلى عملتنا القديمة، الجلدر، لنغلق الحدود! (الإسلام تم إجلاسه على مقاعد الاحتياط).
ليس أقصى اليمين وحده، أقصى اليسار يكسب الاصوات ايضاً بمعاداة الوحدة الأوروبية. تشير استطلاعات الرأي إلى أن الحزبين المناهضين للوحدة الأوروبية، سيصبحان هما الأكبر في هولندا. هولندا تغلق نوافذها. شعبنا أولاً.
الآن فقط أدركتُ الحقيقة: ليست هولندا المفتوحة التي تكلم عنها المؤرخ فان هاوزينغا هي التي جعلتني أوروبياً، بل هولندا الخائفة، الخانقة. احتاج إلى هواء نقيّ. أوروبا أصبحت بالنسبة لي ضرورة للعيش. متى أستطيع استخراج جواز سفري الأوروبي؟

ترجمها عن الهولندية: شعلان شريف

تنشر مجلة كيكا في عددها الثاني، ملفا خاصا عن ‘أنطولوجية مهرجان برلين العالمي للأدب عن أوروبا’، ننشر هنا مقالة الكاتب الهولندي المعروف Adriaan Van Dis ، بالاتفاق مع مجلة كيكا.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة