السبت 2024-12-14 11:43 م
 

الهويات المجروحة:البحث عن معنى للإقامة في العالم

12:23 م

الوكيل - ما الذي يجعل الإنسان المعاصر أكثر غربة من السابق؟ لماذا يحفل متخيله الأدبي بالألم والغربة والخوف من المجهول؟ لماذا يجد الإنسان المعاصر، مبدعا وغير مبدع، نفسه تحت سماء عارية رغم كل هذه الأديان السماوية والوضعية والإيديولوجيات الكبرى والصغرى والعادات والتقاليد والآداب والفلسفات والعلوم الوضعية والتكنولوجيا التي اخترقت كل شيء حتى الحياة الخاصة والحميمة لمختلف الأعمار والأنواع والأجناس؟ لماذا لم يَعُدِ الإنسان المعاصر مطمئنا على مصيره وأصبح وجوده في كف عفريت، كما يقال؟اضافة اعلان

الأسئلة الحارقة لا تنتهي، ويزخر بها المتخيل الأدبي، الروائي خاصة، وهي جميعها تعبر عن الصدام القوي بين ما يحمله الإنسان من تصورات في ذهنه عن الواقع وكيف ينبغي أن تكون عليه حياته وما تحفل به مخيلته من مقولات فكرية حول ذاته والعالم؛ وجوده الآني ومصيره وحتى صورته في الماضي.
إن طبيعة العلاقة التي تم إنشاؤها تخييلا في ذهن الإنسان المعاصر بين ما ينبغي له وما هو عليه تعد سببا من أسباب الشرخ الحاصل في ‘المتخيل الأدبي’، لقد مر الإنسان بمرحلة كان فيها مركز الكون وقد مجدت الأديان والإيديولوجيات الكبرى ذلك فيه وأيضا الفلسفات الإنسانية التي جعلت منه محور الوجود ليكتشف في العصر الحالي نفسه وحيدا تحت سماء عارية، غريبا غربتين؛ غربة خارجية بأن تحول إلى مجرد أداة للإنتاج تصارع من أن أجل أن تبقى وأن تحافظ على الحد الأدني مما تحلم به ‘مركزيتها في الوجود’ وغربة داخلية أحدثت في النفس هوة واسعة بين وعيين متناقضين يتصارعان في داخله، أي الإنسان المعاصر، وعي يسعى إلى قبول الوضع الأدني للكائن وهو المتمثل في العيش ومقاومة الموت والفناء ووعي يسعى إلى تحقيق الأحلام الكبرى للإنسان الأول، بأن يسترد مكانته داخل مسار التاريخ وبأن يسترجع قدرته على تحريك دفة التاريخ لبناء مجتمع إنساني أقل وحشية وأقل عنفا وأقل تشييئا وتسليعا وأكثر نماء وتقدما لصالح بني جلدته، على الأقل، كما كان في سالف عصره، قبل انتشار أفكار التصادم الحضاري والصراع الثقافي وعودة الفكر العنصري اللاإنساني، وقبل هيمنة التكنولوجيا على كل أسباب الحياة واستغباء مهندسيها للعقل البشري الأدني الذي فقد كل ‘عقله’ المنتج للقيم لصالح العقلية ‘الآلية’ العلمية-التقنية.
في رواية دينا سليم ‘قلوب لمدن قلقة’ أحد تجليات هذه الوضعية الصعبة للإنسان المعاصر، ومحاولة كذلك للإجابة عن أسباب شعور هذا الإنسان بالحيرة والقلق والاقتلاع والإقامة في اللامكان واللازمان في آن.
بطلة الرواية -إذا صح اليوم الحديث عن بطل إيجابي كما في الأساطير والحكايات الشعبية والقصص التقليدية- اختارت لها الكاتبة اسم ‘داليا’، وهي صورة عن الألم يمشي بين الناس، ألم باطن وظاهر، ألم لم تسع إليه الذات بل وجدت نفسها في قلبه وعليها إما أن تتحمله وتتعايش معه بدون طرح أسئلة وجودية ومصيرية مقلقة أو أن ترفضه وهنا سيتدفق شلال الأسئلة التي تذهب بعيدا نحو المناطق الخطرة والحدود الممنوعة والمحظورة.
داليا، لن تختار الطريق السهل لتبني قصة تقليدية تحكي عن النعيم الذي تعيشه في بلد يحترم الاختلافات العرقية والدينية والفكرية والثقافية، بلد متعدد ومتنوع ومتقدم ومتحضر: كندا، بل اختارت الطريق الأصعب، طريق الأسئلة ومغامرة البحث عن أسباب الألم والتمزق والغربة الداخلية والخارجية ومحاولة رتق الصدوع من أجل بناء كيان متماسك ومنسجم قوي قادر على مواجهة التحديات. لكن هل الواقع يعترف بالأمنيات والرغبات والإرادات الفردية والشخصية، وإن كانت في الأصل أمنيات ورغبات جماعية، أمنيات ورغبات الجماعات الصامتة المضغوطة تحت نير الإكراهات الخارج ذاتية.
رحلة البحث عن الأسباب لترميم الشروخ ستنبثق عنها رحلة البحث في الهوية المجروحة المتألمة والمكلومة وعن الهوية الضائعة بين تعنت الإنسان وعنصرية السياسات والأفكار السائدة الموجِّهَة للإنسان المعاصر كما يقود الراعي أمامه القطيع، أي أن رحلة البحث هنا ستأخذ بعدين متقابلين أو ممتدين ومتصلين وثيقا فيما بينهما؛ البحث عن الذات ‘الهوية الشخصية’ والبحث في ‘الهوية التاريخية’ أي الحقيقة التاريخية والوجودية للإنسان المعاصر في منطقة جغرافية محددة هي ‘فلسطين’.
تجري الأحداث في ثلاثة أمكنة متمايزة الخصوصية، في بلد الإقامة ‘كندا’ وبلد العودة ‘فلسطين’ وفي الفضاء داخل طائرة العودة إلى الهجرة مجددا بعد ‘الفشل’.
خلف رحلة الفشل والألم يكمن سؤال ‘الهوية’ وأول مظهر من مظاهر جرح الهوية تقترحه دينا سليم في روايتها ‘قلوب لمدن قلقة’ حول ‘اسم العلم’ للشخصية الروائية الرئيسية: ‘داليا’ و’دودو محمد مونرو’، والسياق الآتي يبرز ذلك:
‘ (شميخ) اسمكِ؟
لم أجب، فاسمي مدون على الجواز فلم تسألني مجددا، أعادت علي السؤال:
(ما هو شميخ ببكاشا)؟
أيقنت أنها تريد التحقق من الاسم كما تحققت من تطابق الصورة، أجبتها:
دودو محمد مونرو’!
(ماه) ماذا، (ما هو شميخ) ما هو اسمكِ؟
دودو محمد مونرو
يا سيدتي، يا ست، أسألك عن اسمك وتقولين محمد.
محمد اسم والدي’!…’ (169)
دأبت الرواية التقليدية على الاهتمام بالاسم العلم لأنه يجعل من المحكي مادة واقعية تعكس الحياة في حقيقتها، وهو ما يوهم بواقعية الرواية، ولأنه يحدد إلى جانب ذلك الوضعية الاجتماعية للشخصية الروائية ليس داخل الحكاية بل خارجها في الواقع، ولأنه يمنح الشخصية الروائية هوية، أبعادا ثقافية واجتماعية وسياسية وعرقية وعقدية.
المقطع أعلاه من رواية دينا سليم يعرض جملة واحدة ثلاثة أوجه للهوية المجروحة لشخصية ‘داليا’، وهي:
الاسم العلم (داليا، دودو، دودو محمد مونرو)
الديانية (يهودية بحسب القوانين اليهودية التي تنسب المواليد لأمهاتهم)
اللغة (العبرية والعربية)
هذه الأعمدة والركائز الثلاث تقوم عليها ‘الهوية المجروحة’ وهي نتيجة لصدامات تاريخية وسياسية وثقافية شهدها العالم بعد الحركة التوسعية الاستعمارية التي غيرت خارطة العالم بحسب مفاهيم التقدم والتخلف، والعالم الجديد والعالم القديم، وأيضا تسترت على صراعات دينية وعرقية تحت غطاء التطور الصناعي ولاحقا التكنولوجي، ومن بين أهم المناطق التي تجسد حتى اليوم هذه الصادمات العنيفة ‘فلسطين’ وقد تعاقب عليها استعمار واستغلال مضاعف عثماني وإنجليزي ثم إسرائيلي مستوطن.
لا شك أن الاسم العلم المركب لـ’داليا’: ‘دودو محمد مونرو’ يعكس وضعية فئة اجتماعية كانت ضحية لتركيبٍ في بنية المجتمع، وزاد من تعقيدها ‘التركيب’ الثقافي والسياسي، فشخصية ‘داليا’ روائيا، نتيجة لزواج مختلط ومركب ومعقد، لأنه تم بين مكونين مختلفين ومتناقضين في كثير من الأحيان بالرغم من ‘الحب’ القوي والتفاهم على المستوى الشخصي والفردي بين طرفي ‘الزوج’: محمد وشوشانة، محمد الفلسطيني المسلم المناضل ضد احتلال وطنه وشوشانة اليهودية التي تنتمي إلى المحتلِ، أي أن ‘العلاقة خطرة’ لأنها تنهض على طرفي نقيض اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، فما يقبله المستوى العاطفي والشخصي يرفضه المستوى الاجتماعي والسياسي، وهذه صورة الصدام العنيف الذي سيؤدي إلى شتات المستوى الأول لهشاشته وصمود المستوى الثاني لصلابته وتصلبه.
روايات كثيرة غذت الفكرة ‘الشاعرية’ و’الرومانسية’ على حساب الحقيقة الواقعية، أي أن عددا من الروايات العربية غلبت ‘الحب’ وجعلته رابطة قوية يمكنها أن تنتصر على المواقف والأفكار والخلافات العرقية والدينية والسياسية والاجتماعية، ومنها بعض روايات سحر خليفة مثلا، لكن دينا سليم في روايتها ‘قلوب لمدن قلقة’ ظلت واقعية عندما اعتبرت ‘الحب’ مسألة شخصية وإنسانية يبقى معزولا وبلا أثر تقريبا أما ضغوط الاجتماعي والسياسي، والنتيجة أن المجتمع استطاع أن يفكك هذه الآصرة ويتدخل فيها بقوة: اعتقال الأب ‘محمد’ وتغييبه في السجن سنوات طويلة، إعادة تأهيل الزوجة ‘شوشانة’ دينيا، وكذلك بالنسبة ل’داليا’ وإخيها ‘نوئيل’، بحسب ما تقتضيه التعاليم الدينية اليهودية.
أين تتجلى خطورة هذه العلاقات الخطرة، والرقص على الحدود؟
تظهر آثارها على الأبناء، أكثر من غيرهم، لأن الأب سيتزوج مجددا بعد خروجه من السجن، ويبني حياة جديدة، والأم ستتزوج مجددا من اللبناني ‘جورج’ الذي يهتم بها ويمنحها الحب والمعاملة الحسنة،، رغم آثار الماضي الراسخة في الأعماق.
في هذا المجتزأ تختزل ‘داليا’ حقيقة الصراع التاريخي والثقافي والسياسي على الأفراد، تقول: ‘قلت في سري، ربما يكون هذا المجهول الآتي من البعيد صديقا لن يسأل عن ديني أو عن انتمائي، لكني عبست أمام فكرة شاردة وهي أني أعاني بالفعل من شيء أخطر من العرق أو الدين أو اللغة، هو أني فاقدة لهويتي، فإن سئلت، من أكون، فماذا سأقول؟ هل سأقول، أنا فلسطينية، أم فلسطينية من الضفة الغربية، أو أقول فلسطينية من الـ 48، هذا إن لم يسألوني إن كنت من حماس أو جهاد، وربما هناك من يحب أن يدعوني بالإسرائيلية، ثم وإن سئلت عن ديني، هل أقول أنا يهودية، أم مسلمة، أم مسيحية، وإن قلت أنا كندية، هل سأرتاح من كل هذا؟
خرجت من البيت وأنا أسأل نفسي هذا السؤال الذي دخل في أعماقي المنهارة، (مَنْ أكون)؟’ ص (155-156)
يتجلى التعقيد والإشكالات التي تعاني منها الذات الفردية قبل الجماعية جراء الآثار السياسية والتاريخية [الاستعمار والاستيطان] والاجتماعية والثقافية للمواطن الفلسطيني، خاصة بعد اتفاقيتي وادي عربا وأوسلو اللتين زادتا من تعقيد الوضع أكثر بإقامة حواجز وحدود جديدة لتقييد الهوية وتغريبها بانتماءات الحزبية وتوجهاتها الضيقة، بعدما كانتْ أطراف الصراع الكبرى محددة المعالم.
النتيجة أن ‘داليا’ مرفوضة داخل المجتمع الإسرائيلي لأن اسمها الثلاثي مختلف، ومرفوضة في المجتمع الفلسطيني [الجارات] لأنها يهودية، واليهودي هنا مختلف كونه يمثل الإسرائيلي المستوطن، أيضا ‘نوئيل’ يخشى أن يصطدم بوالده ومواجهته بعد خروج ‘محمد’ من السجن وتوظيف ‘نوئيل’ في حرس الحدود والعبور نحو القطاع.
لقد اختارت فعلا دينا سليم، روائيا، وتخييلا، موضوعا شائكا يحفل به الواقع الفلسطيني اليوم. لذلك كان ‘الألم’ عنوانا للمرحلة وانعكاسا على الفرد المواطن، كما كان ‘الفشل’ قرين الشخصية المحورية، وهما معا وجهان لعملة واحدة هي ‘المأساة’ التي تمثل ملحمة الإنسان الفلسطيني المعاصر وهو يقف تحت سماء عارية أعزل إلا من إرادته الذاتية ومرجعياته التاريخية والنضالية يحتمي بها ويتدفأ بنارها ويهتدي بنورها في ظلمة المرحلة والتباسها وضياع حدودها ومعالمها، إنها ‘مأساة’ العصر والإنسان المعاصر، يعاني أكثر أمام كثرة الموانع واختلافها: كثرة الأديان السماوية وتجاورها دون القدرة على التعايش واحترام الحدود الفاصلة التي هي في الآن ذاته حدود واصلة، وكثرة الإيديولوجيات والخيارات في المواقف والبرامج السياسية التي لا تتعايش بدورها بل تنهض على فكرة ‘الهيمنة’ والاحتواء وتذويب ‘الخصوصيات’ و’الهويات’ المائزة والفارقة التي تسمح بالتعايش، إنه عالم ‘الكارثة’ أو ينبئ بالكارثة ‘Chaos’ القادمة.
يعتبر محكي ‘داليا’ السردي مثالا على رحلة الألم الشخصي والجماعي، أما صورة ‘الفشل’ فهي محيطة ولازمة لرحلة الألم، وهنا أهم لحظات الفشل التي آلمت ‘داليا’ في الرواية:

الفشل في الزواج [الطلاق]
الفشل في الحب الافتراضي والواقعي [محمد (الفلسطيني) حبيب (العراقي)]
الفشل في ملاقاة الأب بعد خروجه من السجن [رسالة زوجة الأب الثانية (ريما)/ 284]
الفشل في احتضان الابن [ديفيد، بعدما تم حشو رأسه بالأفكار المتعصبة للنوع والعرق والدين في المعازل/ المدينة الدينية اليهودية]
الفشل في الإقامة داخل الوطن [رحلة العودة إلى بلد الإقامة والمهجر/ كندا] …

كل الأبواب موصدة أمام شخصية ‘داليا’، تدخل إلى وطنها بجواز سفر كندي وتجتاز الحدود والجدار الفاصل متنكرة، وهو ما يزيد من تعميق جرح ‘الهوية’ عندها، تقول:’… لكني أنا فلسطينية، أنا الجذر’!’ ص (290)، ويجيبها السائق:’ لكنك لا تحملين جواز سفر فلسطيني، أقصد، لا تبوتات فلسطينية لدلكِ’!’ ص (291).

إذن، محكي ‘داليا’ محكي تراجيدي لأنه رحلة ألم ومعاناة وجودية حقيقية تبوء بالفشل وتحاصر بالموانع الخارج ذاتية التي تحول حياة الشخصية إلى جحيم، وتلقي بها في أتون سؤال: من أنا؟ ومن أكون؟ لماذا لا يمكنني أن أعيش بعيدا عن الألم؟ ولماذا يلاحقني الفشل في كل خطوة أخطوها؟ لماذا لا تتحقق رغباتي وهي بسيطة: حب سعيد، وأسرة مستقرة آمنة، وسفر دون حواجز وجنود وتنكر ووثائق إثبات هوية، وعلاقات إنسانية بعيدا عن الحدود الدينية والسياسية والعرقية والثقافية والنوعية؟
أسئلة تتناسل دون أجوبة، إنها محور الألم في رحلة البحث عن الذات وعن الاتزان والاستقرار والاطمئنان، لكن دون جدوى، ولن تجد الشخصية الروائية المحورية ‘داليا’ الخلاص إلا في الصرخة الأخيرة، الصرخة اللغز بعد ‘حلم/كابوس′ منفتح على كل الاحتمالات وأقربها إلى التأويل الفاجعة:’ فصرخت بأعلى صوتي ولآخر مرة أصرخ باسم أعشقه… ا ل ق د س س س س′ ص (329)
يعتبر الألم والفشل من القوى الفاعلة التي تحرك الأحداث، أو بلغة النقد الأدبي أنها هي النواة التي يتدفق منها السرد وتنتج المعنى، كما أنها العقل الذي تفيض عنه باقي القضايا والأبعاد الاجتماعية والفكرية والسياسية والحضارية الحديثة والمحدثة في المرحلة التاريخية التي نعيشها اليوم، إلا أنهما نتيجة بدورهما للشعور بفقدان الهوية الذي بدوره سينتج الصورة الظاهرة للعمل الروائي وهي: رحلة البحث عن الهوية، وعن الجذور، لكن أية جذور؟
بالنسبة للسارد بالجذور المفتقدة ليست الهوية الدينية، لأن الشخصية المحورية ‘داليا’ عانت منها آلاما كثيرة وتسببت لها في تمايز ومفاضلة ثم رفض مزدوج، رفض من قبل النسب الأمومي (اليهودية) في إسرائيل ومن قبل نسب الأبوة (تمثله الجارات ومعيقات رحلة دخول الأراضي الفلسطينية العربية؛ رام الله ثم نابلس)، وليست الهوية الأمومية، لأنها عانت من جرائها الفشل والألم كذلك، من قِبَلِ الزوج المتعصب دينيا [الطليق لاحقا] ومن قبل الابن ‘ديفيد’ الذي تنكر لأمه بعدما تم مسح دماغه وشحنه بالحقد والكراهية ضدها، وهذا المجتزأ يجسم مشاعر الألم والخيبة في آن لدى شخصية ‘داليا’ الأم:’ جاء أحد أصدقائه وسأله:
-(مي زوت) من تكون؟
تردد قليلا ثم قال بثقة:
- امرأة عربية’!
- وماذا تفعل هنا هذه المرأة العربية، يجب أن ننادي رجال الأمن’! (قال له صديقه)
-لا داعي لذلك، فقد قمت بالمهمة، سوف تغادر الآن سريعا’!
عن أي مهمة تتحدث يا ابن رحمي وهل فجأة أصبحت مجرد امرأة عربية لا غير بالنسبة لك؟
طلب صديقه منه:
-اطردها حالا’!
-لقد طردتها’! (أجاب)
- لكنها ماتزال واقفة كالعمود هنا؟ (قال له)
- ستذهب حالا، قلت لك سوف تذهب حالا. (قال)
- أنا لا أفهم شيئا؟
- ماذا تفعل امرأة عربية في قرية يهودية، ربما تلبس حزاما ناسفا على وسطها؟
- لقد قلت لك انتهى الأمر’!
أجابه محتدا، ووجه لي الكلام، قال مجددا وهو ينظر إلي:
-سوف ترحل الآن وحالا’!’ ص (243-244)
إن هوية الأمومة باءت بالفشل والخيبة لدى ‘داليا’ بعد تدخل التعصب الديني والعنصرية العِرْقية، بنما الهوية الحق بالنسبة للشخصية المحورية تتمثل في الانتماء إلى الوطن، إلى الأرض، هنا فقط تتلاحم الهوية والجذور، أي أن الإنسان يمتلك هويته عندما تبقى ذاته متصلة بجذوره العميقة، وتنتفي الهوية أو تهتز إذا ما اجتثت جذوره.

فهل الهجرة سواء الإقامة في كندا أو العودة إليها بعد رحلة الألم والفشل والخيبة تعني فقدان الهوية؟ بحسب ما تقترحه الرواية وتشدد عليه، أن الهجرة اضطرارية أو اختيارية لا تفقد الهوية شيئا ولا تلطخ سمعتها ولا تطفئ بريقها ونصاعتها في الإنسان/ المواطن لكن الاقتلاع والحيلولة دون تحقيق الصلة بين المهاجر وموطنه الأصل بذرائع سياسية وفكرية مزيفة وادعاءات ترهيبية، هو ما يضع الذات المهاجرة في موقف الشك ويعمق داخله الشعور بالغربة والاقتلاع والتيه، كما تصرخ ‘داليا’ بألم مثلا، عندما فشلت كل محاولات ربط الصلة مجددا بوطنها، بذاتها، وبجذورها: الأرض، الأب، والابن والحبيب ‘محمد’: ‘ أنا… بلا كيان… ن… ن… ن.’ ص (322)

ماذا يبقى من الإنسان بعدما تجرح هويته؟
ستعذبه الذاكرة وتتحول إلى عقبة أمام استمراره بالحياة/ بالعيش، لذلك تقترح الساردة ‘النسيان’ بديلا للذاكرة، النسيان بدل التذكر، والعيش بدل الحياة. هكذا تختصر تجربة الإنسان الوجودية، كينونته إلى مجرد كائن يعيش ليستمر.

ترسم دينا سليم هنا رحلة الألم والفشل والخيبة، وترسم رحلة بحث الذات عن هويتها التاريخية والجمعية التي تدخلت فيها عوامل خارج ذاتية كثيرة، سياسية وثقافية وحضارية وعرقية وعقدية ودينية، فأحالتها إلى كيان ممزق. فماذا على الذات فعله كي ترتق التمزق وتلحم التصدع؟
عليها أن تبحث عن حلول خارج الذات، حلول تمكن من نزع الفروق بين بني الإنسان التي أحدثتها الخلافات السياسية والفكرية والثقافية والحضارية، أي العودة إلى جوهر الإنسان وهو حل غير ممكن، بل مستحيل في عالم يعج بالاختلاف في كل شيء أو بالعودة إلى ثقافة التعايش والتسامح بين كل المختلفات، وهو حل ممكن لكنه صعب كما يدل على ذلك الواقع التاريخي والمرحلي المعيش.
ترسم رواية ‘قلوب لمدن قلقة’ مأساة الإنسان المعاصر مهما اختلفت جنسيته وثقافته ووضعيته الاجتماعية؛ محمد المناضل والمعتقل الفلسطيني المسلم، وشوشانة الإسرائيلية اليهودية التي أحبت رجلا مختلفا عنها فأدت الثمن غاليا، وجورج المسيحي اللبناني الذي فقد ماله ومدخراته في الحرب اللبنانية الاسترائيلية فتحول إلى مهاجر بكندا [جورج الزوج الثاني لشوشانة]، نوئيل الذي سيضطر لمواجهة خوفه من الوقوف وجها لوجه ضد والده بعد تجنيده في الجيش الإسرائيلي، وداليا التي ستجسد كل تلك التناقضات والخيبات والآلام كما أوضحنا ها هنا.
بتدخل العوامل الخارج ذاتية سيظل الإنسان يعاني من آلام الوجود وتحقيق الذات، أي تحقيق سعادته على الأرض دون الاعتداء على سعادة الآخر الذي يعايشه ويتقاسم معه الأرض والماء والهواء.


سليم، دينا: قلوب لمدن قلقة. رواية. منشورات شمس، القاهرة. ط1. 2011م


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة