الجمعة 2024-12-13 07:11 ص
 

تأثير منظمة التجارة على أمن البلدان النامية

11:02 ص

د.محمد محي الدين عبيدات

يعتبر الحصول على الغذاء حقًا من حقوق الإنسان الأساسية. ولكن إذا كان الحصول على الغذاء حق أساسي، لماذا يعاني 870 مليون نسمة من الجوع؟ ولماذا يعيش 850 مليون منهم في البلدان النامية ؟ ولماذا يعيش هؤلاء في دول مصدرة للغذاء؟ ولماذا يعاني المزراعون وسكان الأرياف من سوء التغذية ؟ وإذا كانت قيمة الصادرات العالمية من المنتجات الزراعية تعادل 1660 بليون سنويا (حسب إحصائيات 2011) ، لماذا يحتل المزراعون مرتبة عالية في مستويات الفقر العالمية؟

هذه ليست أسئلة فلسفية ، بل هي تساؤلات أساسية تساعد على فهم النظام الغذائي العالمي وتفرض سؤالا آخر: إذا كان الفقر والجوع وسوء التغذية من أخطر المشاكل التي تواجه مئات الملايين من البشر، لماذا تفاقم منظمة التجارة العالمية من هذه الأخطار؟ فبدلا من التعامل مع هذه المشاكل، تناقش إجتماعات منظمة التجارة العالمية طرق 'الوصول إلى الأسواق' و تعزيز قوة الشركات العظمى.

اضافة اعلان

فقد أقرت منظمة التجارة العالمية في الدوحة مسألة تحرير التجارة الدولية, وكان المستفيد )وليس صدفة) من هذا التحرير الشركات العظمى التي تهيمن على الأسواق. فتمت عملية دمج وشراء الشركات الصغيرة من قبل الشركات الكبيرة وخير دليل على ذلك دمج شركات البذور مع شركات المبيدات والتكنولوجيا الزراعية فأعاد ذلك تشكيل سلسلة الإنتاج الغذائي, وحسب قول رئيس قسم البذور في شركة مونسانتو 'هذا الدمج ليس مجرد دمج شركات البذور، ولكنه في الحقيقة سيطرة على السلسلة الغذائية بأكملها '

ولكن يتم التطرق للجوع والفقر عند الحديث عن الإستثمار فقط. ففي الأشهر التي سبقت إجتماع منظمة التجارة العالمية في الدوحة، شجع رئيس إحدى الدول العظمى القطاع الزراعي والتصنيع الغذائي في بلده على ' إستغلال فرصة العوز الغذائي في العالم '.

و بهذا يتم استغلال أزمة عالمية إنسانية ممثلة بالجوع والنقص الغذائي كفرصة إستثمارية. ومن المحزن العلم بأن هذه الفرصة الإستثمارية تطعم صغار المزارعين الذين خسروا مزارعهم جراء المنافسة والتلاعب بالأسعار العالمية. كما طلب ذاك الرئيس علنا من حكومته ومن وزير زراعته 'العمل على التخلص من حواجز التجارة الدولية'.

وفي هذا السياق تلعب إتفاقيات منظمة التجارة العالمية المتعلقة بتجارة الأغذية والمنتجات الزراعية والغذائية
(Technical barriers to trade and Sanitary and phytosanitary Agreements)

دورا محوريا في كسر الحواجزالتجارية ، فتعامل هذه الإتفاقيات جميع الإجراءات المحلية والإقليمية لحماية صغار المزارعين ودعم قطاع إنتاج الغذاء والإجراءات الرامية لمنع إستيراد الأغذية كعائق للتجارة الدولية, حيث تعزز هذه الإتفاقيات شراء الأغذية من السوق العالمي بدلا من إنتاجه على المستوى المحلي.

وهذه الإتفاقيات ليست معنية بكسر الحواجز التجارية فقط, بل تحديد سياسات الإنتاج الغذائي والأهداف الرئيسية من الزراعة في الدول. فتقيد هذه الإتفاقيات قدرة الحكومات على إدخال السياسات الضرورية للتعامل مع مشاكل الأمن الغذائي والجوع من خلال تحديد خيارات ضيقة لدعم السوق المحلي؛ فتسمح منظمة التجارة العالمية استمرار أنواع معينة من الدعم، خاصة الدعم الموجه نحو التصدير, ولكن تعتمد البلدان النامية على إجراءات أقل تكلفة مثل التعريفات الجمركية للحد من إستيراد الأغذية. ولكن تطلب إتفاقيات منظمة التجارة العالمية إلغاء التعريفات الجمركية ، وتسمح بدعم التصدير فمثلا تدعم حكومة الولايات المتحدة الأمريكية ماليا وتوفر التأمين اللازم للشركات المصدرة من خلال The export credit agency وباستمرار دعم الصادرات وغيرها من أشكال دعم الزراعة في الدول المتقدمة يتم إغراق المنتجات الغذائية والزراعية في أسواق البلدان النامية.

ولهذا السبب، طالبت العديد من حكومات البلدان النامية إدراج 'صندوق التنمية' في إتفاقيات منظمة التجارة العالمية وكان الهدف من الصندوق هو إعطاء حكومات البلدان النامية بعض المرونة لحماية صغار المزارعين من خطر الأغذية المستوردة ولتقديم الدعم من أجل إنتاج محاصيل الأمن الغذائي كالقمح والذرة محليا وذلك عن طريق عدم إخضاع هذة المحاصيل لخطر تخفيض التعرفة الجمركية. وعللت هذه الدول موقفها بأن 60 - 90 % من سكانها هم من صغار المزارعين واستيراد الأغذية سيؤدي الى البطالة بسسبب عدم وجود فرص عمل بديلة لتشغيل هؤلاء المزارعين, إلا أن فكرة هذا الصندوق بائت بالفشل بسبب ممانعة الدول المتقدمة.


وأحد الانتقادات الأخرى لإتفاقيات منظمة التجارة العالمية هو أنها تؤدي إلى تفاقم عدم المساواة في العالم - عدم المساواة بين البلدان المتقدمة و البلدان النامية- وعدم المساواة داخل البلد الواحد بين الشركات الزراعية الكبرى والمزارع الصغيرة. والحقيقة الكامنة وراء عدم المساواة هي قوة الشركات العالمية والدعم السياسي الذي تتلقاه من النخب السياسية في العديد من الدول. وعلى سبيل الذكر لا الحصر تسيطر حاليا شركتان على 80 % من سوق الحبوب على مستوى العالم, وخمس شركات على 75% من تجارة الموز, وثلاث شركات على 85% من تجارة الكاكاو وثلاث أخرى على 85% من تجارة الشاي.


ولذلك وفقا لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة, شهدت الدول النامية عجزا في تصدير الحبوب بلغ 100 مليون طن - وترى المنظمة أن هذا العجز بإزدياد- في حين كانت هذه الدول في السابق تعتمد على الإنتاج المحلي لسد إحتياجاتها من الحبوب. وهذا ليس نتيجة تعليمات منظمة التجارة العالمية فقط ولكنها إستراتيجة إقتصادية تتبعها الشركات العالمية لتوسيع أسواقها و زيادة اعتماد البلدان النامية على واردات الحبوب. وتشمل إستراتيجة هذه الشركات تدمير الشركات المحلية والسيطرة على الأسواق الجديدة وتحويل استخدام الأراضي من إنتاج الحبوب لإنتاج منتجات زراعية غير تقليدية قصيرة الأمد وبالتالي خلق وضع زراعي متناقض يزيد من الإعتماد على الشركات العالمية من أجل الوصول إلى الأسواق العالمية و الوصول إلى الحاجات الأساسية للزراعة كالبذور.

فعلى سبيل المثال شجعت حكومة الفلبين مزارعي بلادها على تحويل خمسة ملايين هكتار من الأراضي المستخدمة لزراعة الأرز والذرة لإنتاج لحوم الأبقار دعما لخطة إحدى الشركات العالمية سابقة الذكر لتصبح الفلبين مستوردا دائما للذرة التي تعتبر غذاءً رئيسيا لإنتاج لحوم الأبقار, أي سيطرت هذه الشركة على أسعار الذرة مما أدى إلى إضعاف قطاع إنتاج لحوم الأبقار في الفلبين فلجأت الفلبين إلى إستيراد لحوم الدجاج -نعم لحوم الدجاج- إضافة لإستيرادها للذرة.

وفي الختام لا تعمل منظمة التجارة العالمية كمنظمة للدول الأعضاء بل كنظام يساعد الشركات العملاقة في الهيمنة على النظام الاقتصادي العالمي، حيث يوجد 480 شركة عالمية من أصل 500 شركة في الدول الكبرى. والتنمية التي تسمح بها المنظمة هي من النوع الذي يخدم مصالح هذه الشركات ويزيد نفوذها و أرباحها؛ فتقيدا بمنظمة التجارة العالمية لا تستطيع حكومات الدول رسم سياسات لتشجيع الصناعة المحلية أو وضع الحواجز أمام الإستثمار الأجنبي, وبهذه الطريقة تحافظ منظمة التجارة العالمية على الفجوة بين الدول المتقدمة والنامية وبالتالي استمرار عدم المساواة في الإقتصاد العالمي.


الدكتور محمد محي الدين عبيدات
• البورد الأمريكي في علم الوبائيات والإحصاء الحيوي ، الأمراض المعدية ، صحة الغذاء و الصحة العامة
• دكتوراه علم جراثيم الغذاء / جامعة ولاية جورجيا الأمريكية
• الإختصاص العالي في قوانين صحة الغذاء العالمية / جامعة ولاية ميشيغان الأمريكية
• اختصاص صحة الغذاء والأمراض المشتركة وقوانين صحة الغذاء العالمية – جامعة العلوم والكنولوجيا الأردنية (حاليا)
• إستشاري مؤسسة التطوير المدني الدولية/ واشنطن دي سي / أمريكا (حاليا)
• أستاذ صحة وقوانين الغذاء/جامعة جورج تاون/ واشنطن دي سي/ أمريكا (سابقا)
• إستشاري منظمة بيو الحقوقية/ واشنطن دي سي / أمريكا (سابقا)


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة