السبت 2024-12-14 08:15 م
 

تأملات عبر شاشات الدخان

11:44 ص

بالتزامن مع الاحتفال بحلول اليوم العالمي لمكافحة التدخين، ليس هناك من فرصة أمثل لتقييم وضعنا الحالي، أين نحن الآن، أو بالأحرى كم تبقى لنا لتحقيق الحلم الأكبر ...الحلم بأردن خالٍ من التبغ ومنتجاته بالفعل!اضافة اعلان

هواجسٌ عديدةٌ تتراودُ إلى أذهانِنا منذُ 'اليومَ العالميِ لمكافحة التبغ' في العامِ الماضي. والواقعُ أننا قد شهِدنا الكثيرَ من الأحداثِ في هذا الصدد، فقد قامَ الأردنُّ بتخفيضِ أسعارِ السجائرِ (وهوَ قرارٌ صدمَ العديدَ منا( ولكن والحمدُ لله ارتفعت بعدَها لتعودَ على الأقلِ كما كانت عليهِ في السابق. كذلكَ ما يزالُ الأردنُّ يرحبُ بإحدى أهمِ عمالقةِ شركاتِ السجائرِ العالميةِ لتقودَ السوقَ المحليَّ وتصطادَ شبابَنا. وبالرغمِ من آننا نثمّنُ محاولةَ حكومتَنا الرشيدةِ لتطبيقِ قانونِ الصحةِ العامةِ 2008 لحظرِ التدخينِ في الأماكنِ العامة، والتي كانت بادرةً مبشرةً بالخير. إلا أننا أُحبطنا عندما تراجعت تحتَ ضغوطاتِ فئاتٍ قليلةٍ عن هذهِ الخطوةِ الجريئةِ والمسؤولة.

وفي الوقتِ الراهن، ما زلنا نشهدُ (تسونامي) مدخني السجائر والأراجيل، حيث تصلُ نسبةَ انتشارِ استخدامِ التبغِ بين البالغين إلى 32% (أي أكثر من ثلثِ مجتمعنا)، بمعدلِ 55% بينَ الذكورِ (أي فوق النصف) و8% بينَ الإناث. وربعُ الطلبة في الفئةِ العمرية من 13إلى 15 عاماً يستخدمونَ منتجاً واحداً من منتجاتِ التبغِ على الأقل.

وتشيرُ الأرقامُ إلى أنَّ التدخينَ هو المسببُ الأولُ ل85% من سرطاناتِ الرئةِ بينَ الأردنيين و40% من مجملِ السرطاناتِ وهو مسؤولٌ عن 50% من الوفياتِ بسببِ السرطانِ وأمراضِ القلبِ، السكري وأمراضِ الرئة.

كما أنَّ مأساةَ الأرجيلةْ تتسببُ في خلقِ أُسرٍ كاملةٍ مُدمنة، (فنحنُ نعملُ الآنَ للأسف بالجُملة)، هذه الأسرُ التي لا يمكنُها أن تتصورَ أيَ جلسةٍ في مطعمٍ أو كوفي شوب أو حتى سهرةٍ عائليةٍ في البيتِ دونَ إمساكِ فنجانَ قهوةٍ بيدٍ وبربيشَ الأرجيلةِ بيدٍ أخرى.

ومنذُ تفجّرِ قضيةَ الأرجيلةِ مؤخراً، والجدالَ الحادَ الذي دارَ حولَها، طرأ أمرٌ جديدٌ شقّ أفقَ الدخان. في خِضَمِّ ذلكَ، عرفنا من خلالِ النقاشاتِ التي دارت، أينَ نحنُ اليومَ كمجتمعٍ فيما يخصُّ حظرَ التدخين؟ وتم رصدُ العديدَ من الملاحظات، حيث ذُهِلتُ بردودِ أفعالِ الذين عارضوا تطبيقَ القانون، متمسكينَ بآفةِ الأرجيلةِ التي تفشّت في مجتمعنا، وكأنها ماءُ حياتِنا، وكأننا نحاربُ أنفسَنا.

ولكن ما أثارَ دهشتي أيضاً هو مدى حدةِ وشَغَفِ المعارضينَ لتطبيقِ القانونِ في هذا النزاع. وذهلتُ أكثرَ لغيابِ صوتِ الأغلبيةِ الصامتةِ ومدى عدمِ إدراكِهم لأهميةِ أصواتِهم في تغييرِ مجرى الأحداث. وحتى المدخنين، لا نقللُ من أهميةِ أصواتِهم، فنحنُ نَعُدُّهم فعلاً ضحايا للتدخين، لأننا على يقينٍ بأنَّ الغالبيةَ العظمى من هؤلاءِ الضحايا لن يرغبوا بأن يكونَ أطفالُهم ضحايا للإدمانِ مثلَهم.

وتفاجأتُ أيضاً لعدمِ وصولِ مجتمعِنا لإدراكِ مفهومِ الحريةِ والمسؤوليةِ في موضوعِ التدخين. فعندما يُشعلُ أحدُهم سيجارةً في مكانٍ عام، فإنهُ بهذا لا يتخذُ قراراً شخصياً بالتنازلِ عن صحتهِ الخاصةِ فحسب، بل يتخذُ قراراً قسرياً بسلبِ حريةِ الآخرين من غيرِ المدخنينِ بتنفسِ هواءٍ نقيٍ خالٍ من الدخان. مع أن الكلَّ يعلمُ بأن حريتهُ تنتهي عندما تبدأُ حريةُ الشخصِ الآخر.

وأهمُ من ذلكَ كلِّه، نسيَ الناسُ أهمَّ حقيقتينِ تشكّلانِ إطاراً لأي نقاشٍ حولَ التدخين، فمن جهة لا ينكرُ أيُّ إنسانٍ ضررَ منتجاتِ التبغ، وأن العدوَ الأولَ والأخيرَ يبقى قطاعُ التبغِ. ومن جهة أخرى، تسطُعُ الحقيقةُ الثانيةُ كنورِ الشمس، وهي أن الضحايا هم دائماً 'نحن'، كباراً وصغاراً، ذكوراً وإناثاً، أغنياءَ وفقراءَ، مدخنينَ وغيرَ مدخنين. وانطلاقاً من هاتينِ الحقيقتينِ المثبتتينِ اللتينِ لا يمكنُ لأحدٍ نفيُهمُا، فأيُّ جدالٍ خارجٍ عن هذا الإطارِ فهو باطلٌ ولاغٍ.
وفي هذا السياق، فإنَّ تفضيلَ المصالحِ التجاريةِ والشخصيةِ على المصلحةِ العامةِ يُعدُ قراراً بمنتهى اللامسؤولية، وإن عدمَ تطبيقِ قانونِ الصحةِ العامةِ، هو أمرٌ منافٍ للعقلِ والمنطق! وفوق ذلك كلِّهِ، ما هي الرسالةُ التي نتركُها لأطفالِنا وشبابِنا حولَ أهميةِ التزامِ المواطنِ بتطبيقِ القوانين، في حينِ أننا –وعلى ما يبدو- نتمتعُ بحريةِ الاختيارِ بينَ ما نريدُ تطبيقَهُ من قوانينٍ وما نرفضُ الالتزامَ به؟ وهنا علينا أن نسألَ أنفسَنا ما هو الدورُ الذي نقومُ به كمجتمع؟ ولماذا نصرُّ على أن نفتكَ بصحتِنا. كلٌ منا مسؤول، من آباء وأمهات ومدارس ومؤسسات، فلا يمكنُ لوزارةِ الصحةِ أن تخوضَ هذه المعركةَ وحدَها.

ولكن، وعلى الرغمِ من أنَّ الوضعَ الراهنَ يبدو غيرَ مطمئنٍ أو مبشّرٍ على الإطلاق، بيدَ أنَّ هنالكَ بريقٌ من الأملِ يشقُ سحابةَ الدخان، فشهِدنا للمرةِ الأولى أنَّ 'الحوارَ حولَ التدخين' تمكنَ من أخذِ حيّزٍ كبيرٍ في ساحةِ الرأيِ العامِ وبينَ عامةِ الناسِ، الذينَ عادةً ما تستهويهِم أولوياتاً ومواضيعَ حساسةٍ وأزماتاً أخرى، وبِتنا نشهدُ ولادةَ حركةٍ جديدةٍ لمحاربةِ التدخينِ بشكلٍ مستمر، الأمرُ الذي يُعدُ إنجازاً بِحدِّ ذاته.
لم يَعُد الوضع يحتملُ يوماً آخَراً دونَ محاربةِ التدخين، فإذا استمرينا بتجاهلِ مسؤوليتِنا تجاهَ الأجيالِ القادمة، لن تتمكنَ أيُّ وزارةِ صحةٍ من تحمّلِ الأعدادِ المهولةِ من مرضى السرطانِ والقلبِ والرئة. فمرضُ السرطانِ وحدَهُ باتَ يهاجمُ 5000 مريضٍ جديدٍ سنوياً، وبحلولِ عام 2020 من المتوقعِ أن يتضاعفَ هذا العدد.

لذا فإنَّ تطبيقَ قانونَ الصحةِ 2008 يبقى أهمُّ وأسرعُ طريقةٍ لحمايةِ أهلِنا وأبنائِنا، لأننا ما زلنا نختنقُ تحتَ سحابةٍ هائلةٍ من الدخانِ رغماً عنا، سحابةٍ تحجبُ رؤيتَنا لما سيصيبُنا من عواقبٍ مميتةٍ غداً إذا لم نتصرف الآن.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة