الجمعة 2024-12-13 12:18 م
 

تحقيق الدكتور جميل العطية: تهذيب ذهن الراعي في إصلاح الرعية

02:13 م

الوكيل - يشكل الفكر الإسلامي السياسي أحد أهم المواضيع التي شغلت المسلمين حكاما ورعية، ولنا في تاريخنا الفكري والثقافي العديد من الممارسات والأمثلة، مثل حادثة السقيفة ،أو بلورة الأفكار النقدية والتشجيع على الحوار وتقييم الحكم.اضافة اعلان

إذ يعود هاجس الاهتمام بالرعية أو بالجمهور الواسع في ثقافتنا العربية الإسلامية إلى قرون خلت، لضرورة الحرص على انتشار السلم والمساواة والمحبة والعدل والتشاور بين الناس، وهذه الأمور كلها هي من صلاحية المسؤول، أي الحاكم، لذا فالمطلوب منه أن يسيّر الأمور بالعدل ويخدم مصالح الناس، ويسهر على ترقيتهم وتعليمهم، وأن يكون هو مزودا بالعلم والأخلاق وبنظرة ثاقبة يعمل من خلالها على بلورة برنامج يحمل أهدافا تخدم الأغلبية، وفي هذا المجال حقق الدكتور جميل العطية ــ المعروف باهتمامه بالبحث والتدقيق في تراثنا الفكري والحضاري ــ مؤلفا لشيت بن إبراهيم ابن الحاج القناوي بعنوان ‘تهذيب ذهن الراعي في إصلاح الرعية والراعي’، الصادر في بيروت، عن منشورات دار البراق، يتكون من 162 صفحة ويحتوي على مقدمة وثلاثة أبواب.
يؤكّد الدكتور جليل العطية على أن هذه المخطوطة يتيمة ولم يجد لها أخرى في المكتبات العربية والغربية، وأنها مذكورة في كتب القدماء، مثل الفهرست لابن النديم وفي كتاب وفيات الأعيان وغيرها، وهي ‘مخطوطة فريدة مبتورة وهي محفوظة في مكتبة العلامة الإيراني السيد علي الروضاني في داره بأصبهان’ (ص.13)، أما مؤلفها فهو لم يحظ بالعناية والدرس من الكتاب والمؤرخين القدماء والمحدثين ولد ‘شيت في صعيد مصر، مارس التعليم والعلوم الدينية- وفق المذهب المالكي- في عدة مدن من إقليم الصعيد’ (ص.12). كتب في الفقه والنحو والأدب والسياسة، ومؤلفه ‘تهذيب الراعي’ يدخل ضمن الفكر السياسي الإسلامي، موضحا موقف كاتبها الذي لم يكن يختلط بالحكام وعرف عنه الابتعاد عنهم، والرجل الوحيد الذي نال إعجابه ومدحه هو صلاح الدين الأيوبي . أما المنهجية التي اتبعها في تأليف كتابه فهي مجموعة نصائح أثبتها ضمن أبواب تكمل بعضها وتبيّن فراسة ملاحظ مدقّق ملم بحياة الملوك والسلاطين وبممارساتهم مع رعيتهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يبيّن قدرته واطّلاعه ومدى حفظه للأشعار والحكم والأحاديث والآثار التي وظفها في تأليف كتابه الاستشرافي الذي تطرق فيه إلى ما ينبغي ‘للسلطان أن يحفظه من عيون الشعر’، وهي مجموعة أبيات تظهر حكمة المؤلف في دغدغته لوعي السلطان ولعل بيت الحارث بن نمر التنوخي يفسّر مقصد ومرمى المؤلف:
وقد تقلب الأيام حالات أهلها وتعدو على أسد الرجال الثعالب
وعلى هذا المنوال اختار الأبيات الأخرى التي ضمنها بعض الحكم مثل:
- ما شيء واحد يعزّ به السلطان
- فقال ‘الطاعة
قال: فما سبب الطاعة؟
قل: التودد إلى الخاصّة، والعدل في العامة
قال: فما سلاح الملك؟
قال: الرفق بالرعية، وأخذ الحق منهم في غير مشقة، وأداؤه إليهم عند أوانه، وسدّ الفروج، وأمن السّبل، وإنصاف المظلوم من الظالم، وألاّ يحرّض القوي على الضعيف.
قال: فما صلاح الملك؟
قال: وزراؤه وأعوانه، فإنهم إن صلحوا صلح، وإن فسدوا فسد.
قال: فأية خلة تكون في الملك أنفع له؟
قال: صدق النية.
هذه الحكمة هي واحدة من العشرات التي جمعها المؤلف وأثرى بها كتابه، وهي صالحة لكل زمان ومكان، لأنها تلمس مناطق الضعف ومناطق القوة في تسيير أمور الناس، أما الفصل الذي يليه فخصصه للسلطان ليصلح نفسه قائلا: ‘ينبغي للسلطان أن يتأمل أحوال الناس ؛ أعمالهم ومتصرفاتهم مما يشهدها، وما غلب عنها مما يسمعه، ويتناهي إليه منها وإن لم ينعم النظر فيها ويميز محاسنها من مساوئها ويفكر في النافع منها والضار، ثم يجتهد في التمسك بمحاسنها، لينال من منافعها مثل الذي نالوا، ويسلم من غوائلها مثل الذي سلموا’ (ص.24). ثم يليه فصل في العلم، يحث فيه السلطان أن يتأدب بفنون العلم ويحترم أهله ويشجعهم على المضي قدما من أجل نشر المعرفة، أما الفصل الذي يتبعه فقد جاء بعنوان: ‘فيما ينبغي للسلطان أن يتخلّق به ويليه فصل فيما ينبغي للسلطان أن يستعمله مع الأكفاء، وتليه فصول أخرى مثل في منتخبات كلام الحكماء، واختيارات الأدباء: مما ينبغي للملوك الوقوف عليها والتأدب بها، حيث يقول ‘ ينبغي للملك أن يبتدئ بتقويم نفسه قبل أن يشرع في تقويم رعاياه، وإلا كان بمنزلة من رام استقامة ظلّ معوّج من قبل تقويم عوده الذي هو ظل له، وينبغي أيضا للملك أن يتحرر من أن يظهر في وجهه أثر سرور أو حزن أو رضا أو غضب، فإن ذلك من أسراره التي لو أظهرها غيره لوجبت عقوبته’ ويواصل المؤلف مؤكدا ‘وقال بعض الحكماء أعجب من هؤلاء الذين يروّضون السباع على قبول أوامرهم كيف لا يروّضون نفوسهم على قبول الأدب، وهم منه أقرب، وبنيله أشرف وأمجد’ (ص.53). وفي هذا الفصل يحلّل نفسية السلطان ومسؤوليته الكبيرة في نشر العدل بين الناس ‘أحق الناس بإجبار نفسه على العدل: السلطان، فإن بعدله يعدل دونه، وإذا قال أو فعل كان أمرا نافذا غير مردود’ (ص.59(.
تجدر الإشارة إلى أن المؤلف ركّز كثيرا على العدل والإحسان والقيم التي يجب أن يتحلّى بها الحاكم، وأن يمارسها مع نفسه وحاشيته قبل أن يمارسها مع الرعية. لأن العدل أمر جوهري يجب على السلطان أن يحرص عليه في حكمه.
جاءت هذه الفصول تحت باب في إصلاح الرعية والراعي، أما الباب الثاني فهو بعنوان: ‘ في الحروب والمكر بالخصوم والتحرر من الأعداء، يسير فيه على نفس النهج بدأها قائلا: ‘الفكر في الخدعة، وانتهاز الفرصة، والتماس الغرّة، وإرسال العيون ليأتي بأخبار الخصم، وإرسال الطلائع، واجتناب المضايق والتحرّز منها، والتحفّظ من لبسة الليل، هذا بعد إحكام معرفته، وطول تجربته لمقاساة الحروب ومعاناة الجيوش وعمله: أن لا درع كالصبر ولا حصن كاليقين’ (ص.62)، هذه الوصية الحكمة تلخص الفصول الخمسة التي احتوى عليها هذا الباب، أما الباب الثالث فأتى تحت عنوان: ‘فيما يجب للسلطان أن يتخلّق من الخلال الحميدة والمزايا الرشيدة، إذ يحتوي على ثمانية فصول، قال في الصفحة 106 عن المروءة ‘والمروءة هي مراعاة الأحوال التي تكون على أفضلها حتى لا يظهر منها قبيح، ولا يتوجّه إليها ذم باستحقاق’ أو الحكمة التي تقول: ‘العقل يأمرك بالأنفع، والمروءة تأمرك بالأجمل’ أو ما جاء في المشورة حيث قال ‘ ‘ينبغي (للملك) أن لا يبرم أمرا، ولا يمضي عزما، إلا بمشورة ذي الرأي الناصح، ومطالعة ذي العقل الراجح، فإن الله- عز وجل- أمر بالمشورة نبيه (ص) مع ما تكفّل به من إرشاده’ ( ص.119(.
نخلص بالقول ان هذا الكتاب يعكس تجربة إنسان متأمل للحياة السياسية والاجتماعية، حيث ‘عاش ابن الحاج 88 عاما، عاصر خلالها عددا كبيرا من الملوك والسلاطين، وكان ملوك مصر يجلّون قدره ويرفعون ذكره (على كثرة طعنه عليهم، وعدم مبالاته بهم) كما قال الصفدي’ ثم يواصل المحقق مؤكدا على أن هذا الكتاب ألفه ‘ابن الحاج لفاتح القدس وداحر الصليبيين قبل 589 هجرية، سنة وفاة صلاح الدين’ ( ص.15). لا شك أن هذا الكتاب يبيّن خبرة الرجل الواسعة وملاحظاته الدقيقة في تسيير أحوال الناس، وهو تعبير عميق ورسالة قوية أرسلها إلى صلاح الدين وكأنه يطلب منه أخذ حذره من المطبات التي وقع فيها غيره، ويقدم له عصارة تجربته لمعايشة الناس وممارسة السلاطين لحكمهم فأنتج هذا المؤلف الحداثي الذي يمكن تحويله إلى فكر سياسي معاصر مع الاخذ بعين الاعتبار مجمل التغيّرات الحاصلة في المجتمعات، إذ أن الكثير من المصطلحات الواردة في الكتاب هي عين الدلالة لبعض المفاهيم المتداولة اليوم، فالتراوح بين الشريعة والواقع هي المسافة التي يعبرها هذا المؤلف يبتغي ما يسمى اليوم بالحكم الراشد .


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة