الأربعاء 2024-12-11 01:39 م
 

حورية الماء وبناتُها

02:42 م

الوكيل - ” العمل الروائي الجديد للشاعر والروائي السوري سليم بركات الذي يصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. هذا العمل هو الكتاب الأربعون في سلسلة الأعمال الشعرية والروائية التي أصدرها سليم بركات طيلة حياته الإبداعية التي بدأها قبل أكثر من أربعين عاماً ومازال مستمراً في هذا العطاء. اضافة اعلان

رواية ‘حورية الماء وبناتها’، ‘رحلة في سفينة سياحية. ركابٌ موعودون بمشاهدة رقصة فريدة تؤدِّيها حورياتٌ لدقيقتين، لاأكثر، في موضع من بحر تْرِيْتُونْفال. غير أنَّ الرعبَ صامتاً، وصاخباً، هو بناءُ هذه الرواية’، في الحدود بين الأسطوريِّ والرَّاهنِ المتوحش.
هنا الفصل الأول من هذا العمل الروائي الجديد.

الفصل الأول
(Dendrophyllia Ramea)

فقاعاتٌ متواصلةُ القذفِ تداخلت زوابعَ رقيقةً بلَّوراتٍ من الأجساد الستة للحوريات، في الدوران احداهنَّ من حول الأخرى، متلامساتٍ صَفْعاً ناعماً بزعانف أذيالهنَّ الطويلة. تقاربت وجوهُ خمسٍ منهن زُرْقِ الجلود. تبادلنَ نفْخاً بالفقاعات الصغيرة خيوطاً متعرِّجة في خروجها من الأفواه، فيما راقبتهنَّ السادسةُ الشديدة البياض وجهاً، مبتسمةً في تَحْنانٍ. تلوَّتْ زعنفةُ ذيلها البرتقالية، العريضة، خفْقاً قويًّا، فاندفعتْ جسداً زيتاً في ماء الأعماق، المرتَّقِ الفتوقِ بشعاعاتٍ ميساءَ من ذاكرة الشمس المائية. لحقتِ الأجسادُ الخمسة الأخرى بها في حركاتٍ زيتٍ من زعانفهن.
هي الأمُّ كاليْسْ، البيضاء، المرقَّطة بحراشف رمادية على كل جلدها إلاَّ الكتفين والصدر، ساقتْ بناتها، ذلك اليوم من مطلع أيلول، من مضيق بحر هِيْلاكرِيْتُوثِيْنِيْسْ إلى بحر تْرِيْتُونْفال، كعادتها كلَّ عام: رحلةُ لهوٍ بين الصدوع الحجرِ الأشدِّ ضيْقاً، في الأعماق هناك، وبين أعمدة البراكين متجمِّدةً بعد مَسيْل مصهور. رحلةُ استذكارٍ للموضع الأول اختمرتْ فيه الخليةُ الأولى لنوع كاليس الحورية، في صَدَفة الوجودِ منطبقةً على خيالِ البقاء نَسَقاً صُلْحاً أبرمتْهُ المصادفاتُ، وهدنةً من الضرورة تمتحن بها تردُّدَ العَدَمِ في تقدير المعقول. رغبةُ كُلِّ حورية، من نوع كاليس، تكفيها كي تحبل بخمس إناثٍ مثلها، من تلقاءِ رحمها بلا ذَكرٍ يُسافِدُها، وأن تلد في أيما مكانٍ من أقاليم المياه، ثم تصحَبَ نسلَها، بالحنين الموصوف للخلية المائية في طبعِ المائيين، إلى الموضع الأول لانبثاق النوعِ الحورياتِ؛ الموضعِ الثغرةِ الدائرية في عُرْضِ بحر تريتونفال، الظاهرة من سطح المياه طوقاً أصفرَ بالأنفاسِ اللونِ من بستان شقائق البحر البرتقالية، والمرجان الأصفر، أسفلَ، في الوَهْدَةِ العميقة أحدَثَها صَدْمُ نيزك للأرضِ أو أحدثتْها اللوعةُ قعَّرتِ المكانَ، هناك، بثقلٍ من خيبة الأرض أن يتخيَّرَها الوجودُ لقياسِ اتِّزانه.
من الكهف، أسفلَ الصخرة المستوية على الشاطئ انتصبَ عليها ثلاثةُ تماثيل بعيونٍ مَعْدَنٍ على أفق المياه، في مضيق بحر هيلاكريتوثينيس ـ المضيق الأوحد عبوراً صوب بحار الشمال، قادت كاليس بناتها الخمس، ذوات الشعور الصُّفر، إلى الغمر الأعظم في الشمال النهائي الأعظم. برزت جباههُنَّ حتى الأنوف من سطح الماء، قبل انطلاقتهن. ألقينَ نظرة من عيونهن ذوات الحدقات البرتقالية، والصفر، على التماثيلِ الثلاثة ـ المرأةِ البرونزِ، والرَّجُلين النحاسِ، التي اعتدْنَ سماعَ همسها، مرةً واحدةً كلَّ اكتمالٍ للقمر في شباط: هَمْسٌ مُخْتَلَسُ النَّبْر على ألسنتها المعدنِ كنداء حصاةٍ في سقوطها خافتاً على حصاة. كاليس، وبناتها، لم يفهمن الدَّالةَ من الهمس ذاك، لكنهنَّ دأبْنَ في الإصغاء إليه كلَّ اكتمالٍ للقمر بشباطَ . دأبْنَ في تأويل ذلك. دأبْنَ في تقليب ذلك بموجباتٍ من عللِ الخصائص المفقودة، وشوق الملغز إلى الملغز. ألقيْنَ نظرةً على التماثيل يوادعْنَها من مكامن عيونهن فوق شقِّ الجرحِ المائيِّ. غطسْنَ ثانيةً. تلامسْنَ بأذيالهنَّ الطويلة، وانطلقن غوْصاً متعرِّجاً باندفاعات أجسادهن السهامِ الزيت، في الأعماق.
كاليس البيضاء، المرقطة الجلد بحراشف رمادية، لم تكن تشبه بناتها بحظوظ الألوان من تكوينها حوريةً بزعنفة برتقالية، عريضة، في نهاية الذيل، وزعنفة خضراء، مخطَّطة بحزوزٍ سودٍ وقرمزيةٍ على طول ظهرها، من أصل عنقها بين الكتفين حتى العَجُز. عيناها بيضاوان بحدقتين برتقاليتين. بناتها زرقاواتُ الحراشف؛ زرقاوات الجلود الظاهرةِ برُقطٍ بيْضٍ. زعانفهن الذيلية، وزعانف ظهورهن، رمادية. عيونهنَّ سُوْدٌ بلا بياضٍ، تنتصِفها حدقاتٌ صُفْرٌ. وهنَّ لم يبلغن، بعدُ، طول أمهنَّ الأربعة الأمتار أو أقلَّ شبراً ربما. لكنهن ينزلقن في الماء تجذيفاً بزعانفهن مِثالَ أمهنَّ انزلاقاً، تتفتَّح لانسيابهنَّ الأعماقُ أغماداً طَوْعَ الزَّلْقِ فيها، طيِّعَةً إنْ تأوَّدْنَ سَبْحاً أو سرَّعْنَهُ. وهنَّ، كنوعهن الحوريات، يَغْتذيْنَ أعشابَ البحر ـ خسَّه الريحانيَّ، وجرجيرَه المحترق خُضرةً، وكذلك بعضَ محاره المُسهَّم من دون سائر مخلوقات البحر الأخرى أسماكاً، أو أصدافاً، أو رخوياتٍ نابتةً بجذورٍ كأخواتها السَّوابح بالتثنِّي انتقالاً كحركة الديدان.
مطلع أيلول، من كل عام، يحضُرُ كاليْسَ نازعُها النداءُ اللامدفوعُ إلى رحلتها، من مضيقِ بحرِ العقلِ المياهِ هيلاكريتوثينيس إلى بحر غَمْرِ الشمال النهائيِّ الأعظم تريتونفال. ايلولُ شهرِ المياهِ متأملةً ماضي يقينها، وحاضرَ شكِّها، وآتي وَحْيها المُلْهِم. لاأقدارَ للمياه في أيلول: نظامٌ طِبْقُ الظلال الأكثر ارتداداً إلى سِرِّها المُعْتَصَرِ من ثمرات النقائض. ايلولُ المياهِ إذِ المياهُ خادِرةٌ فَلَكٌ في فِيْلَجَتها قبل أن تنخرق الفِيْلَجَةُ عن فراشة الأبراج الزمنية، والأبراج الساكنة في الإهليلجِ العريقِ اللاَّزمنيِّ. المياهُ انخفاضٌ، في أيلول، عن مستوى معناها اشباراً فلا تُؤَّلُ احوالُها إلاَّ بانقضاء أيلول. والحوريةُ كاليس تتخيَّر هذا الشهرَ الحيرةَ بقَدَمٍ في ماضي الصيف، وقدم في آتي الخريف، لرحلتها إلى الثغرة الدائرية، ذات الطوق الأصفر ظاهراً في الغمر الكبير كقِلادةٍ ماءٍ. وهناك، وسط الثغرة المائية في الغَمْر المائيِّ، ستؤدي، وبناتها، رقصتهنَّ المُدرَّبةَ الفتنة بإلهامٍ من حنين الأصل اللاموصوف، لدقيقتين لاأكثر، تمام الساعة الثانية عشرة ظُهراً وأربع دقائق، المُصَادِفَةِ اليومَ الرابع والعشرين من الشهر المتشقِّق القدمين من غبار الصيف، وغيوم الخريف المتزلِّفة.
توقفت كاليس عن اندفاعتها الرشيقة. استدارت، منتصبةً، إلى بناتها المائسات الأجساد. حدَّقت إليهنَّ، راضيةً، من وجهها المتطاول، الشديد البياض، تُخاتلُهُ ذؤاباتٌ من شعرها الأزرق الكثيف متلوِّيةً من نفخ الماء عليها بأفواهه الثمانية. لم تتوقف بناتُها إذْ حاذيْنَها. عبرْنَها بعد دورتين من حولها أثارتا نشيداً موصولاً من الفقاعات سطَّرْنها بانفاسهُنَّ دائريةً، متقاطعةً، متجاذبةً بغُلمة الهواء الذَّكر فيها هوىً إلى الهواء الأنثى، والهواء الأنثى هوىً إلى الهواء الذَّكر؛ أو مااتَّفق لهُ جاذبُ الجنس إلى جنسهِ ـ ذكرٍ إلى ذكرٍ، وأنثى إلى أنثى؛ أو ماانبسطَ طمَعُه العذبُ فوزاً بالجنسيْنِ ـ الذَّكرِ إلى مثله وإلى أنثاه، والأنثى إلى مثلها وإلى ذكَرها معاً. فقاعاتٌ بهواء الغُلمة مِمْراحاً، في أنفاس البنات الحوريات، طوَّقت جسدَ أمهن، التي ألوت زعنفةَ ذيلها خَفْضاً ورفْعاً قويَّين فاندفعت سهماً زيتاً رشقتْ به الأعماقُ الأعاليَ. كادت تبلغ سطحَ البحر، لكنها ارتدَّت تاركةً لذيلها البرتقاليِّ، في الإرتداد، أن يطفو أشباراً فوق سطح الماء.صفعتِ الماءَ، من ثمَّ، صَفْعاً مُدوِّياً قبل الغوص. تفجَّرَ الماءُ حقائقَ من خصائصه رذاذاً، ونِصالاً، وكُراتٍ لِصَاقاً، وأقواساً مقطَّعةَ الأوتار، وأصابعَ تتحسَّس بها الحقائقُ وجودَها هواءً يُحْبَسُ ويُسَرَّحُ.
خمسة أذيال رمادية صفعت الماءَ، أيضاً، صَفْعاً حُبُوراً. زعانفهن المشقوقة، العريضة، المُخدَّدةُ طولاً كجريد النخلِ، لاحت، في الصَّفْع، خُلْسةً وَمْضاً، ثم غاصتْ. تقوَّسَ الماءُ حَدَباً حَضْناً على الصوت زَلَقتْ بهِ الزعانفُ القوية حلقاتٍ دوائرَ تلحق الضِّيقةُ منها، حول مراكز غَوْصِ الأذيال، بالأكثر سعةً فتتمادى مدًّا حتى امِّحائها في الذي مجثمُها من الماءِ المنسرح، الخامل، عائماً في فضَّتهِ، بنقوش الهواءِ المهذَّبِ ـ هواءِ أيلول.
مطالع أعماق بحر تريتونفال، بحرِ الشمال النهائي، رَصْفٌ من أنقاض التماثيل الغارقة في السَّبي الثاني لقبائل المخلوقاتِ الحجرِ الشرقية غزتْهُم شعوبُ المخلوقاتِ الحجرِ الجنوبية، من ممراتِ البرِّ، وممرَّات أعماق البحر مشياً تحت الماءِ مُذْ لارئات لها كي تتنفس. تماثيلُ محاربيْنَ سقطوا مهشَّمةً في قِراعِ المطارق، وتماثيل عاديِّينَ ـ معماريَّةِ مساكنَ نَحْتاً في الكهوفِ، وصنَّاع سلاحٍ، وكهنةٍ وكاهنات، ومعلِّميْنَ في حِيَلِ المنطق صادراً عن الألسنةِ الحجرِ في أفواه المخلوقاتِ الحجرِ، وقضاةٍ في الأحكام.
نازعت القبائلُ القبائلَ، والشعوبُ التماثيلُ الحيَّةُ مثيلاتِها، عن معتقداتٍ سعتْ إلى بَسْطِها حقائقَ لاتُدْفَعُ أو تُجْبَه. تبادلتِ السبيَ، والنهبَ، وتقويض هياكل الآلهة، التماساً للغَلَبة في توطيد الزعْمِ أنَّ السماءَ لم تكن هناك قبل جيل الآباء النحَّاتيْنَ الثالث؛ أو أنَّ الأرض ثلاثةُ أقسام مشطورة بمضيقيْنِ فراغٍ هما فردوسُ الكائنات الحجرِ؛ أو أنَّ الصوتَ شكلٌ نحْتٌ سيُنجزه جيلُ الآباء النحَّاتين الثامن؛ أو أنَّ الأصلَ الحجرَ الأول كان خاطراً نَحْتاً من خيال آخر مخلوقٍ حجرٍ في برهة احتضاره؛ أو أنَّ الوقتَ هو، أبداً، ماليس هو؛ وأنَّ المخلوقاتِ الحجرِ، الحيةَ، شأنٌ لازمنيٌّ. كلُّ خلافٍ، في مسألة من هذه، عضَّ على وجودة القبائل التماثيل، والشعوب التماثيل، بأسنان الغزوات نَهْباً، وسَبْياً، وتقويضاً لهياكل الآلهة.
رصْفٌ مديدٌ من أنقاضِ كائناتٍ تماثيلَ مهشمةٍ تكاثرت هناكَ منذ قديم لايعرف نوعُ الحورية كاليس تخمينَ مدخلٍ إليه. هي كائناتٌ حجرٌ تكاثرت تماثيلَ حيَّةً قامت على نحْتِها نخبةٌ من التماثيل النحَّاتة، موكلةٌ، بعريق خصائصها، أن تستعيد الحجرَ صورةً من داخل كتلته الحجابِ على ماهيَّته الأصلِ شكلاً متناظِرَ الجوارحِ والأبعاد. تماثيلُ أنجبتِ التماثيلَ نحْتاً حيًّا.
وهاهي، في مطالع أعماق بحر تريتونفال، أنقاضٌ مهشَّمة، غشيَها الطحلبُ، والأُشْنَةُ، والقواقعُ اللَّزَّاقةُ، والصَّدف؛ ونبت في صدوعِها العشبُ أخضرَ محترقاً، مُتراقصاً، أشعثَ كأغصان التَّنُّوب.
عاينت كاليس، وبناتُها، رؤوساً مقطوعة. قلَّبْنها يتأملَّن العيونَ محدِّقةً من أغشيتها الصُّلبة، الكتيمةِ، المُصْمَتَةِ، إلى سديم الخلائق، وخزائن النشآت. رفعت إحدى البنات رأساً بين يديها لفتاةٍ حجَرٍ بضفائرَ معقودةٍ عقيْصَةً فوق قَمَحْدوَتها. أشارت إلى أمها أنها تريد شعرَها ضفائِرَ أيضاً، على المثال ذاك. خلَّلتِ الأمُّ شعر ابنتَها الأصفرَ بأصابع يدها اليمنى، ثم أطلقتْهُ متماوجاً، راقصاً، منتشراً. هزَّت رأسها تستنكر فكرةَ الضفائر. استدارتْ. خفقت بزعنفة ذيلها العريضة، البرتقالية، القوية، خفْقاً أطلق جسدَهاً سهماً زَيتاً. تبعتها بناتُها خفْقاً بزعانف أذيالهنَّ سهاماً زيتاً، في الفراغ المائيِّ المُبتكَر فراغاً بالخيالِ المائيِّ.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة