الوكيل - عنوان واحد عريض يتصدّر جريدة ‘صدى باريس′ ليوم الأحد السابع عشر من فبراير1901 ‘الكرنفال’، حيث تجوب شوارع المدينة مواكب احتفالية تتنافس في العروض والأزياء لتتوج ملكةً ليوم واحد.
خبر آخر عن زواج بول دوشانيل، الرئيس المستقبلي لفرنسا وضجة يُحدثها إضراب خياطي البدل النسائية وصانعي القبعات بينما ينتهي ‘المعرض الكوني’ الذي شاركت فيه بلدان كثيرة بأحدث تقدماتها العلمية والفنية وزاره ما يزيد عن خمسين مليون شخص.
أما زاوية العروض المتفرقة فتزدحم بالحفلات الموسيقية الراقصة والعروض المسرحية واجتماعات الفنانين في مونمارتر حول ساحة بيغال. هذه صورة فرنسا في بداية عصر توحي بالانفتاح والخفة، سوف يُعرف بعد ذلك بـ ‘العصر الجميل’ أو ‘ما قبل الحرب العظمى’. نفس اليوم في شارع كليشي في مقهى ‘لاروتوند’، سيوجه شاب مسدسه إلى امرأة تشاركه الطاولة مع جمع من الأصدقاء، تختبئ سريعاً وراء أحد الموجودين فيدير المسدّس إلى صدغه الأيمن وينتهي كل شيء بسرعة طلقة. هذا الخبر الذي لن يأخذ أكثر من بضعة أسطر في جريدة الغد سيعتبر بعد قرن حدثا بالغ الأهمية في تاريخ الفن. أغلقُ أرشيف الجريدة وأغادر المكتبة الوطنية التي تنفذ رائحتها مثل عناصر رقيقة داخل الثياب وتشحنها لوقت طويل.
دفاتر الرسام الإسباني بابلو بيكاسو لا تخلو من بورتريهات لكارلوس كاساجيماس (1881ـ 1901) صامتاً، وحيداً، بنظرة شاخصة ووجه تميّزه انفعالات قوية. وهو صديقه الحميم الذي رافقه من برشلونة إلى باريس سنة 1900 للمشاركة في ‘المعرض الكوني’ وتقاسما مرسما في مونمارتر. ولعدم نيله الاهتمام الكافي، يبتعد بيكاسو خائباً عن المعرض الذي يضمّ مبدعي العالم ليغرق في الحياة الليلية الباريسية، يجرّ كاساجيماس معه إلى أماكن اللهو وبيوت الدعارة التي يجد فيها على غرار تولوز لوتريك منطلقاً لبناء عالم بصري نافر محتشد بالأجساد العارية. في تلك الفترة يتعرف كاساجيماس على إحدى راقصات المولان روج، جيرمين غارغالو وبالاهتمام الذي يشبه الالتزام، بالسذاجة الكافية للحب، يستسلم الرسام الإسباني الشاب لجو الحياة الجديدة الملبدة بإحساس باللاّواقعية ـ حين يضيع التحديد وتتخلى الإرادة عن سيطرتهاـ وينجرفُ وراء الكحول والاكتئاب بين تهتّك جيرمين التي تبقى على علاقة بأحد الوزراء وتتركه بعد العرض لتغادر مع من ينال إعجابها من الزبائن وجنسانية بيكاسو الذي نظر دوماً إلى ‘المرأة بوصفها خليطاً من الأشكال والألوان’ ما دفع امرأتين في حياته إلى الجنون، وأخريين إلى الانتحار.
لم تبد على كاساجيماس أية ومضة توسّل أو مناشدة ولم يكن انتحاره سوى تحرر هادئ من الهنا والآن. جرى كل شيء بصمت من البداية وحتى النهاية، مثل نبتة تُنتزع من تربتها الأصلية وتُنقل إلى مقبرة. لذلك يبقى إعطاء تقرير ممهور بالحقائق والتواريخ عنه، إجراءً مُضلِلاً ولا معنى له على الإطلاق، فحين تتساءل إن كان من النوع الذي يُلمّع السلاح مرارا ليتدرب على لحظة الموت تلك، إن كانت الرغبة في الامتلاك أسوأ من الموت؟ إن كانت الغيرة هي التركيز العنيد على الجانب المظلم من حياة الإنسان الداخلية؟ تستطيع أن تركض إلى أرشيف الصحف في المكتبة الوطنية وإلى دفاتر بيكاسو الذي يصفه بأنه ‘حساس كالجحيم’ ولن تجد سوى نظرة كاساجيماس في إحدى الصور إلى آلة فلوت بيد عازف، مجرد نظرة إلى تناغم أزرارٍ ذهبيّةٍ ضعيفةٍ لآلة نفخِ . كاساجيماس واع لكل نقطة ضعف فيه وقرر أن يستغلّها، وهذا التحامل ضد العالم يذكّرنا بالرومانسية، باعتبارها خداعاً للذات ورغبة في مواجهة كل شيء إلا الوقائع.
قلة الصبر، الغيرة العمياء، التطرف الذي يصل حدّ قتل الحبيب وقتل النفس مواضيع تتداولها القصص في أغلب الأحيان بشكل فكاهي كأن الحب خطأ في توزيع وَرَق اللعب كان القصد منه مناورات من أجل الضحك وليس من أجل القتل، الأغاني الشعبية العاطفية التي تكثر فيها مفردة ‘موت’ تجعلنا نبتسم على غرار جرائم الشرف الهوليودية التي نتابع فيها (المخدوع) وهو يسعى إلى تصفية (الخائن) بسمّ الزهور ومسدس كاتم للصوت وسيف ساموراي. وعلى ضوء هذا، من المشكوك فيه أننا نعي هذا الشكل من العاطفة التي شغلت الصحافة والأدب والسينما رغم احتفاظ الذاكرة بقصة ديك الجن الحمصي وورد، أوريستس وبيروس، عطيل وديدمونة ، أو جي سيمبسون ونيكول براون وغيرهم.
بعد مرور أربعة شهور على حادثة الانتحار، يعود بيكاسو من مدريد إلى باريس ليجعل من جيرمين غارغالو عشيقة له، يعيشان على بعد خطوات من مقهى لاروتوند، في نفس المرسم. لا أصدّق قبل أن تصلني صور من الفوتوغرافي جويل فوغ لبيكاسو خلال تلك الفترة، من بينها واحدة كتب على ظهرها ‘بيكاسو المرح بين الرسام أنطونيو توريس وسمسار ألماني، هل ترين أثراً ولو ضئيلاً لحزن أو ندم هنا؟ ستكونين في مأزق بدون أدنى شك لو حاولتِ الإجابة على هذا السؤال’ ولم أجـد مفرَّاً من أن أرضخَ لاقتراحه وذلك بالتخلص من السؤال عبر تمريره إلى الأصدقاء وأحياناً باستفتاء في محطات المترو:
ـ كيف الحال مدام كيف تصفين هذه النظرة؟
ـ نظرة مُستخدَم لنتف الريش في مزرعةٍ لتربية أفراخ الحمام، تقول السيدة الخمسينية
ـ أريني (وأخطف منها الصورة التي لا تحمل أي أثر لدواجن) كيف تقولين ذلك؟ انظري إنه دجاج وليس حماماً!
لا شكّ أن لوحات بابلو بيكاسو اتخذت منذ البداية بعداً صدامياً مع السائد ومضت في مسارات اختبارية عدة، وأنه حتى آخر رمق جعل اللوحة مساحة اختبارية رديفة للحياة. وقد تميزت ‘المرحلة الزرقاء’ (1901ـ 1904) التي يُرجع النقاد بدايتها لموت كاساجيماس، بإيقاع لوني داكن، بالتقشف والاهتمام بأحادية اللون وهو خيار يشبه إلى حد كبير صراعاً ذاتياً مع الواقع. في الوقت الذي طوّر فيه لغة تصويرية معقدة، تشظت حادثة الانتحار خلف إيقاعات وتكوينات حرص بيكاسو على تركها جامحة وغير منضبطة في مساحات اللوحة الناهضة من إحساس حقيقي بالفقد كما في لوحته ‘الحياة’ (1903) حيث نجد كاساجيماس في فضاء ساكن ومجرّد، واضعاً يديه الاثنتين على عضوه في حركة توحي بالخجل والعجز، الزرقة الفجة المحيطة تفرض حالة من الضيق المباشر والتعاطف مع شخص بلا أرض، عالق في فضاء وهمي، غير قادر على التعايش مع الواقع. بعدئذ تتوالى المسودات ويلبسه خرقة قماشية ويضعه على يسار اللوحة رفقة جيرمين التي تتكئ عليه بوهن وتطلّ أشباح مشوهة ومعذبة لأشخاص آخرين يتكورون في الخلفية، ليكون العمل النهائي بنية بصرية بمستويات عدة تدفعنا إلى إعادة التأمل في الدلالات القاتمة للمكان بوصفه حالة مؤقتة وقابلة للزوال. يمكن للوحة ‘الحياة’ أن تكون نواة قراءة في مفهوم المرحلة الزرقاء بعد ربطها بأعمال أخرى مثل ‘دفن كاساجيماس′ (1901) التي تؤسس لمشهدية لا تبدو مألوفة كثيرا، فنجد كاساجيماس محلقاً إلى جنة مفترضة على ظهر حصان أبيض، عاجزاً ومجنّحاً، تاركاً مجموعة من المومسات على الأرض رغم جهود جيرمين للتشبث به. وهو تعبيرٌ آخر عن الافتقاد والخسارة وتراجعٌ للمكان ليحلّ محله تغريب وتحييد. لا ننسى أن بيكاسو كان يعاني من الفقر والتشرد في ذلك الوقت ما دفع البعض للقول إنه السبب الرئيسي وراء اختصار الباليت الخاصة به من الألوان. شخصيات المرحلة الزرقاء دلائل مؤكدة يستند إليها بيكاسو في رصد حالة النكران والضياع والتحولات النفسية العميقة التي يمر بها وكبديل لكل الألوان وكردة فعل على نهاية محزنة وغير متوقعة، يلتف الأزرق المتجمد مثل بحر من الرخام حول وسادة يرقد عليها كاساجيماس، تتبعه مومسات وشحاذون وسكيرون ضائعون متوعكون..
‘الحياة’ عنوان يصلح لصدّ صدمة الموت أمام البوابة الأسطورية لمقبرة سانت وان الباريسية التي يرقد فيها كاساجيماس بين براعم الزيزفون الحلو وساحات تطلّ على القطارات السريعة المتوقفة، مع كل خطوة يطير حمام بالعشرات، بالمئات، كما في حلم، كما في كابوس. وأتلقى تحذيراً متأخراً ‘خذي معك مظلة، سيكون سيئاً أن تمطر وأنت وحدك هناك بلا مظلة’.
ربما كانت جريمين دريئة لصدّ صدمة الموت أيضاً، وبعدها مادلين وبلانش وجان وفيرنند وإيفا وإيرين وأولغا وماري تريز وصولاً إلى الفوتوغرافية الفاتنة دورا مار التي عذبتها الغيرة وكان مصيرها الصعقات الكهربائية في مصح المجانين. الغيرة التي يعرّفها نيكولا غريمالدي في كتابه ‘محاولات عن الغيرة’ بأنها مرض نفسي حاد يجمع ثلاثة أعراض على الأقل ‘تظهر بشكل ذاتي مستقل مثل الخلايا السرطانية، تُحدث ألماً جسدياً لا يحتمل، الأفظع على الإطلاق وأخيرا تتسبب في الحكة على شاكلة الإكزيما التي تلتهب كلما حاولنا لمسها، إنها الألم الذي نزيد من حدّته إن حاولنا أن نسكّنه. كلما شككنا أكثر كلما بحثنا أكثر، كلّما وجدنا أكثر كلما شككنا أكثر، لا نهاية لاستفحال هذا الدّاء’. داء دورا مار التي نسي الجميع تجربتها الفوتوغرافية ومساعدتها لبيكاسو أثناء إنجازه للغورنيكا وخلّدتها لوحة ‘المرأة الباكية’ المشوهة التي قضت الأربعين سنة الأخيرة من حياتها منعزلة في بيت ريفي. وداء كارلوس كاساجيماس الذي اختار بيكاسو أن يتعامى عنه أيضا.
ثمة قسرية تُفرض على المقربين من بابلو بيكاسو ومحاولة ـ مؤسفة بوضوح في تأثيرهاـ لسلخهم من عالمهم ومبادئهم ووضعهم ضمن عالمه ونطاق فهمه الخاص، ولعلّ الدليل القوي على أن بيكاسو يتمركز فوق آخر قطعة معدن في برج إيفل ويخاف إذا نظر إلى البشر في الأسفل أن يُصاب بالدوار، أنه أخذ عشيقته الجديدة إلى دورا مار التي كانت تنتظره وسألها بخفة ‘قولي لهذه الحمقاء الصغيرة إننا لسنا معا يا دورا إنها ترفضني بسببكِ، وتعالي للغداء معنا ‘ كما أخذ عشيقة أخرى لرؤية جيرمين غارغالو وقال بنفس النبرة : ‘أتيتُ بك إلى هنا لتعرفي الحياة، انظري إلى هذه المرأة، اسمها جيرمين، إنها عجوز بلا أسنان وفقيرة الآن. لكنها في صباها كانت في غاية الجمال وقد تسببت في ألم عظيم لصديقي الرسام كارلوس دفعه إلى الانتحار. لقد أدارت الرؤوس حقاً والآن… انظري إليها! ‘
كاساجيماس من جهته، منهمكاً ومفتقراً إلى الصفاء والتوازن، على الرغم من بؤسه كله يبدو وكأنه غادر العالم وهو في أحسن حالاته.
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو