الجمعة 2024-12-13 01:09 م
 

‘دفاعا عن التاريخ’ لمارك بلوخ باللغة العربية: عندما يصبح التاريخ علما جامعا للعلوم الانسانية

06:16 م

الوكيل - يتفق أغلب المثقفين والاختصاصيين والأكاديميين العرب على أن الكثير من الكتابات الغربية المؤسسة لأفكار ومدارس فلسفية وتاريخية واجتماعية لم تترجم بعد إلى اللغة العربية.اضافة اعلان

والعكس صحيح فالكثير من الكتابات العربية المرجعية هي أيضا غير مترجمة إلى لغة الآخر، فهذا حال مؤسساتنا النائمة في البيروقراطية، والتي تؤكد أغلب التقارير الدولية على تخلفها في هذا الميدان، وعلى رأسها تقارير اليونسكو و تقارير التنمية البشرية التي تدق جرس الإنذار منذ سنوات طويلة ولا مجيب، ينما تؤكد هذه التقارير بأن ما يترجم من وإلى اللغة العربية لا يتعدى 1 في المائة في حين ما يترجم من وإلى اللغة الألمانية يتجاوز 13 في المائة، أما من وإلى اللغة الانجليزية فيتجاوز 43 في المائة، ونحن ماذا نترجم؟ وكيف؟ هذه الأسئلة المحيرة وأخرى غيرها هي التي تدفع بأفراد لحمل العبء وتقديم ما يستطيعون في هذا المضمار بغية سد الفراغ.
وهكذا على سبيل المثال لا الحصر، وبعد سنوات طويلة من صدور كتاب مارك بلوخ ‘دفاعاً عن التاريخ، أو مهنة المؤرخ’، باللغة الفرنسية، ترجمه أخيرا إلى اللغة العربية الأستاذ أحمد الشيخ، ووجد إقبالا لافتا فصدرت منذ أيام الطبعة الثانية في القاهرة، عن المركز العربي للدراسات الغربية، إذ يرى المترجم بأن كتاب ‘دفاعاً عن التاريخ’ عنوان لقضية عامة، وعنوان لكتاب متخصص في ‘المنهج التاريخي’، القضية العامة هي: قضية الدفاع عن التاريخ في مواجهة من يشككون في أهميته ومشروعيته، وجدواه للمجتمعات المعاصرة، أما الكتاب المتخصص فيدافع عن التأريخ ــ بوصفه مبحثاً علميّاً في رصد، وتحليل وقائع الماضي وأحوال الإنسان المتغيرة عبر الزمان ــ ضد من يشككون أيضاً في جدوى ومشروعية التأريخ؛ ناهيك عن التاريخ’.
يقع هذا الكتاب في 244 صفحة، ويحتوي على خمسة فصول ومقدمة تحليلية طويلة للأكاديمي والمؤرخ الفرنسي جاك لوغوف، إذ يتطرق إلى المعطيات العلمية التي يتميز بها هذا الكتاب، رغم أن صاحبه وافته المنية قبل أن يتمّه، إلا أنه يعتبره من بين أهم ما كتبه مؤسس مدرسة ‘الحوليات الفرنسية’. إذا يؤكد جاك لوجوف على أن الأفكار المهمة في هذا الكتاب ‘قد استكملها وطورها فرنان بروديل، ولا سيما فيما يتصل بمفهوم الأمد الطويل والأمد القصير، أو الإيقاع البطيء والإيقاع السريع، الأمر الذي حقق شهرة عالمية، وإن من يقرأ الكتاب قراءة دقيقة سيجد بذور هذا المفهوم لدى مارك بلوخ، وإن كان في أسلوب أقل جاذبية من بروديل، لكنه أكثر قرباً من الوقائع التاريخية’.
يتفق أغلب المؤرخين والباحثين بأن مارك بلوخ يعتبر الأب الروحي لمنهج جديد في البحث التاريخي، ‘سمح للتاريخ بتجاوز الأصنام الثلاثة في الكتابة التاريخية وهى السياسة والحرب والدبلوماسية، وجعله يشمل مجمل الخبرة الإنسانية’. كما يتفق على أنه حطم الحدود التقليدية بين الفقرات التاريخية، وقدم إسهامات حقيقية في ‘تفسير ظواهر إنسانية كثيرة بالعصور الوسطى’.
أما قاموس العلوم التاريخية فيصف مارك بلوخ بأنه ‘واحد من ثلاثة من أكبر المؤرخين في هذا العصر، وربما كان تأثيره في تجديد العلم التاريخي هو الأكثر حسماً والأكثر استمرارية’.
هذا إضافة إلى أن الكاتب الفرنسي ريمون آرون يرى بأنه ‘ربما كان أعظم مؤرخ (فرنسي) في هذا القرن، وأعظم مؤرخ في العالم في هذا القرن’.
يرى مارك بلوخ أن مهمة المؤرخ تتمثل ‘في طرح أسئلة أكثر من تقديم إجابات غائمة، وأن المؤرخ ليس قاضياً، وليس رجل دين أو أخلاق، وأن دوره ليس إدانة أو تأييد لهذه المؤسسة أو تلك، وإنما فهم الظروف التي أدت إلى وجودها وماذا كانت عليه مخططاتها’..
أما المترجم الأستاذ أحمد الشيخ فقد قام هو الآخر بتقديم تحليلي للكتاب مصحوبا بهوامش وإضافات جديدة محاولا فهم ما غمض من الكتاب. وأنه يرى بأن الدوافع التي أدت به لترجمته هو أنه ‘لا يزال هذا الكتاب، وصاحبه، يشكلان، في نظري، إضافة راهنة، إن لم تكن مستقبلية للفكر التاريخي العربي. فمن يتابع تاريخ الكتابة التاريخية العربية في الفترة الحديثة سيجد أمامه تاريخاً مشوشاً لا تسير فيه المدارس التاريخية إلى اكتمالها، ولا تنتهي فيه مدرسة في حدود فاصلة لتعقبها مدرسة أخرى أكثر نضجاً وتطوراً، بل نشهد خلطاً منهجيّاً إذا جاز التعبير، فضلا عن ذيوع ظاهرة استملاك للمراجع المنهجية الكبرى في التاريخ دون توضيح أبعاد هذه العملية، وحتى المراجع الأساسية التي تمت ترجمتها إلى العربية كانت الترجمة حرفية وبدون نقد لهذه الكتب المرجعية، وحتى بدون وضعها في سياقاتها المعرفية المعاصرة’.
ثم يواصل المترجم مؤكدا بأن بلوخ قد ‘جعل من التاريخ علماً جامعاً للعلوم الإنسانية باستيلائه على برامجها’. كما يؤكد على ذلك المؤرخ الفرنسي فرانسوا دوس بقوله بأن الدفاع عن التاريخ لدى بلوخ هو ‘دفاع عن الحضارة الغربية التي يُرى تميزها عن الحضارات الأخرى في علاقتها المستمرة مع ماضيها.’.هذا بالإضافة إلى سعيه الحثيث في البحث عما يسميه بشروط المعرفة التاريخية الصحيحة.
الجدير بالذكر أن هذا الكتاب صدر باللغة الفرنسية أول مرة عام 1949، أعيدت طباعته عدة مرات كان آخرها عام 1993، حينما صدر مع ‘تقديم جديد لعميد المؤرخين الفرنسيين جاك لوجوف’. كما ترجم إلى لغات عدة، منها: الإنجليزية، الألمانية، الإيطالية، البرتغالية، التشيكية، البولندية، واليابانية’، كما يؤكد المترجم ،
أما الكاتب مارك بلوخ فقد نشأ في أسرة يهودية من منطقة الألزاس بفرنسا، بحيث أنه ‘ترعرع في ظل العصر الذهبي للجمهورية الثالثة’ وأنه لم يتلق ‘تعليماً دينياً أو مارس طقوساً عبرية’، لأنه يعتبر أن ‘اليهودية التقليدية هي بقية من بقايا الماضي وعلامة على الانفصال والظلامية’. وعرف عنه بأنه رفض بشدة أية عقيدة مؤسسة على أصول عنصرية، ‘كما رفض تفسير التاريخ من خلال أنظمة تاريخية كبرى، مثل تلك التي أعدها شبنجلر أو ويلز، وكذلك التفسيرات الشاملة كالماركسية’، كما يؤكد على ذلك الأستاذ أحمد الشيخ..
يأمل الأستاذ أحمد الشيخ بأن تفتح ترجمة كتاب مارك بلوخ إلى العربية ملف ‘مناهج الكتابة التاريخية العربية من جديد. وفى هذه الحالة يقول: ‘سنكون في أشد الحاجة إلى معرفة المدرسة التاريخية السابقة على إسهام مارك بلوخ وأعنى المدرسة المنهجية في كتابة التاريخ، لأنها هي التي تتواكب، في نظري، مع اللحظة الراهنة لواقع الكتابة التاريخية العربية’.
لا شك أن المترجم قد وجد صعوبات جمة في نقل هذا الكتاب إلى لغة الضاد، نظرا لصعوبة وكثافة لغة وأسلوب المؤلف الذي يرى بأنه يتكون ‘من جمل طويلة تتخللها جمل اعتراضية كثيرة إلى درجة أن الجملة الواحدة تستحق القراءة أكثر من مرة حتى يقبض القارئ على دلالتها ومراميها. كما واجه صعوبات كثيرة نظرا لكون معرفتنا بمارك بلوخ في الثقافة العربية محدودة وغير دقيقة وحتى اسمه عادة ما يكتب بطريقة خاطئة، فأغلب من يشيرون إليه في كتبهم ومراجعهم يكتبون اسمه بالكاف وليس بالخاء، أي بلوك وليس بلوخ، دون أن يقدموا تبريرا لذلك لأنهم يعتمدون النطق الفرنسي للاسم حيث لا توجد الخاء في الفرنسية، ومن قدم منهم تبريرا لذلك مثل الدكتور جورج الزناتي لم يحالفه الصواب حسب المترجم، لأنه يرى أنه مادام الألمان أو النازية هم الذين أعدموه لا يجوز أن ننطق اسمه على الطريقة الألمانية، ويتساءل المترجم ومنذ متى ونحن نحفظ أسماء الكتاب وفقا لقاتليهم؟ بينما يرى هو ــ أي المترجم ــ أن مارك بلوخ سُمّي بالخاء لأنه من أصول عبرية التي بها حرف الخاء، وكذلك العربية.
وتبقى في النهاية قيمة الكتاب التاريخية التي توضح كيف نشأ وتطور الفكر التاريخي الفرنسي بالنسبة للعالم العربي، وأنه ربما سيفتح وسيكشف عن وضع الكتابة التاريخية العربية، كما يفتح مجالا خصبا لكل الباحثين والمهتمين العرب بالتاريخ.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة