السبت 2024-12-14 02:10 ص
 

ديوان ‘حصاة في كليتي اليسرى’ أنموذجاً تطبيقياً

07:26 م

الوكيل - لقد تمركزت قصيدة النثر في موقعها في المدار الشعري بسيرورة تمثّل شكلاً جديدا ًكان في بداية توهجها في المدار الشعري غير مألوف في الفضاء الثقافي العربي والذي كان يحتاج الى تفسيرات بطابع يقيني.اضافة اعلان

وليس كما فضاء الثقافة العالمية الذي ليس بمواصفات الفضاء العربي الذي عنوانه الأساس هو الشعر وتاريخه المجيد، وإن كان الفضاء العرب يتباهى بالنثر القرآني في جميع المواقع، وأيضاً حاول ذلك الفضاء ان يؤكد انتماء أنماط كتابة أخرى واعتمد رأياً تصورياً ان هناك ارتباطاً بذاكرته الجمعية لأشكال عدة منها النّثر الصوفي مثلا وغيره من أشكال الكتابة التراثية، لكن بحركة الانماط الشعرية توسع مدار النمط النثري، وذلك لمواكبته روح العصر وعلى الاخص في اطار الهم الوجودي، وسعى ذلك المدار الى الاستحداث الشعري، فتطورت اسس مثل اللغة الشعرية والصورة، وشكل الجملة ايضاً، الذي مرَّ بانفتاح كبير على بنى مجاورة، فشابه السرد في البناء احيانا، واستخدم لغة شعرية محكية تختلف عن سابقتها الوجدانية، وايضا تطورت الصورة الايروكية في النمط النثري، في ما أُسمِّيه السياق الأخلاقي لقصيدة النثر الذي يزيح الحياء عنها، على اعتبار ان الحياء هو عيب نمطي اعتدنا عليه في حياتنا الاجتماعية، فيما الفن الشعري اكثر رحابة، وهو على رأي رولان بارت في ان النص السيىء هو من يخلق الفعل السيىء، لكن بما ان الشعر في اصله حقيقة وجدانية وليست مادية، فليس هناك سوء فيه، ثم انه معنى جمالي وليس نشاطاً دينياً او انثروبولجياً. وقد أثار انتباهي ديوان الشاعر ماهر شرف الدين، الذي أصغيت له عبر التلقي العضوي بإخلاص، ووجدته نما نمواً عمودياً، فبلغ مرحلة عالية الأهمية والامتياز.
إن ديوان ‘حصاة في كليتي اليسرى’ يبدأ بقصيدة طويلة تحمل ذات عنوان الديوان المستمد من الواقع، حيث الشاعر عاش تجربة غريبة عليه كذات اجتماعية وايضا ذات شعرية، وهي تحفل بهم خفيف داخل كيان الجملة الشعرية في النمط النثري، لانها تجربة شخصية، وكانت هناك لعبة في اطار تسخير المعنى الشعري داخل المحكي الذي يصف حالة شخصية عاشها الشاعر، حيث ان سرعان ما تقف اللغة الوصفية على عتبة معنى حيوي، يضفي على الجملة النثرية قيمة جمالية اضافة الى بلاغة حسية، ففي استهلال يشترك فيه الحاضر بالماضي المستدرج شعرا، يقول الشاعر:
‘حصاة كبيرة في كليتي اليسرى
فجَّروها بالليزر مساء البارحة
حصاة سببها مياه الحسكة الكلسية
التي شربتها في طفولتي
يا أمي
لقد فجّروا لي آخر ذكرى
أحملها من مكان طفولتي’.
نلاحظ هنا تدرجاً في الزمن الشعري، الذي يمكن في النمط النثري ان يكون سائلا كما الزئبق، ويمكن ان يستعيد الماضي داخل اللحظة الشعرية الحاضرة، وطبعا لاوجود للحياء الاجتماعي، الا بصفة النقدية، حين اكد الشاعر مشيرا الى موطن السبب، حيث ان مياه منطقة طفولته مالحة، وطبعا في الجملة ايضا اعتراض انساني ولكن نسبيا هو سياسي.
ضمناً أجد قصائد ماهر شرف الدين متطورة وقد رسمت للسياق النثري معنى جديداً، قد يكون طريا وغير مكتمل الملامح، لكنه يشير الى مضمون ما، وطبيعي ان السياق النثري باتساع مساحته يخلق بسيرورته مضامين، قد تكون اساساً او تكون ثانوية، وحركة الشعر اوسع بكثير في التغيير المناسب من الاجناس الادبية الاخرى، وهناك رأي لنازك الملائكة فيه بُعد موضوعي وهو اشارة ضمنية غير معلنة لسمة التغيير الذي يمر به الشعر بمشتركات متعارضة في جوانبها الجديدة ومتفقة في الثوابت، ومن الطبعي هناك آلية ادت إلى تحقيق وجود قصيدة النثر بمساحة نسبية في البنية الشعرية إلى جوار قصيدة العمود والتفعيلة التي هي وسيط بين العمود النثر هو في الالية تمثل الجذب نحو المستقبل من جهة الدفع نحو الماضي من الجهة الاخرى، وهذا معنى مقصدنا في التغيير المشترك، وتقول نازك الملائكة في كتابها الممتاز / سايكولوجية الشعر (اضاف الشاعر العربي المعاصر ما في نفسه من ثقافة جديدة، وما لذهنه من سعة وادراك وما في حياته من تجارب معقدة لم يعرفها القدماء، واذا التقى هذا الجديد المعاصر بغنى هذه اللغة وخصوصيتها فلا بد إن ينشأ من ذلك شعر لايشبهه شيء من الشعر العربي السابق لأنه له خصائص متفرد )، ولا نقول ان هذا تجديد شعري ضمن التوصيف العام، لاننا امام شعر هو مضمون كتابي بوجهات نظر شعرية مختلفة ومتفقة، وماهر شرف الدين هو واحد من الذين يطرحون وجهة نظرهم الخاصة عبر المضمون الكتابي، وهو يؤكد في قصيدته التي حملت ذات عنوان الديوان او المجموعة الشعرية ان صح القول، حيث يقول كانسان وشاعر:
‘في السرير مستلقٍ
أفكِّر
- بعد هذه التجربة الفظيعة في الألم -
بأن عليَّ إعادة النظر
في قصائدي السابقة’.
هنا طبعا الشاعر بدأ من الذات البشرية، ومن ثم انطلق الى منطقة التفكير، فأكد بدء اشتغال الوعي والتفكير غير النمطي، ومن ثم بلغ وجهة نظر، راجع من خلالها اسلوبيته، ووجد أن الشاعر دائما برغم وجوده الحر متسق مع لحظته الوجودية، ولانه سامٍ فوق الفضاء الاجتماعي فلا بد من خطاب شعري يتوافق مع سموِّه، وفي رأي أفترضه بان الشاعر يحمل نبوته ليس بين ثناياه، بل داخل كيان مادته الشعرية، ومؤكد هو اكثر كيان يسعى الى احاطة الوجود بنظرة شاملة، وليس كما هو في داخل المتن البشري يكون بتلك النظرة الجزئية والقاصرة، وقد اكد الشاعر نفس الانطباع في ذات القصيدة الطويلة نسبياً اذا قورنت بباقي القصائد، حيث يقول متصدّيا لمن يعاكس مقصدنا:
‘جاري العجوز في الغرفة
فتح عينيه على النهاية
على خدعة الحياة
الخدعة التي
لا تساوي شيئاً
لولا تبجُّح الإنسان
والكلمات الكبيرة للفلاسفة والشعراء’.
النثر بروحيته يمكن الشعر من اختراق وحدة الزمن في الوجود العام، ويجعل غربة الشاعر هي غربة العالم والسؤال الشعري عند الشاعر في الروح النثرية يصبح موضوعة العالم ومن المؤكد هناك قوة متوازنة في رأي يراه ورد زورث، في أن الشعر هو نَفَسُ المعرفة وكما هو روحها المرهفة، وان المهم ادراك عنصر الزمن هنا وايقاعه ، حيث اليوم ليس عصر التشكيك بتلك الروح المرحة والحزينة في ذات الوقت، وان النثر بذلك التراكب يكون فيه ميزة المذاق الفردوسي وهو ما تتمناه الذائقة الشعرية، والمستوى الايروكي هو سمو في لذة شعرية، قد لا تجدها اجتماعيا بنفس المستوى، ومؤكد من الصعوبة وجودها لموانع عدة، وكما ان النثر نقي وروح القصيدة الايروكية بيضاء بلون طباشيري، وليست بغايات كما في الواقع الاحتماعي، حيث الرغبة غريزية، قد تكون بغير توافق روحي، وفي قصيدة فيها بعد فلسفي باطار ايروكي، قدَّم الشاعر ماهر شرف الدين تجربة ابداعية معتبرة وغنية وسمواً شعرياً على افتراضات ابتكرها، ومن ثم محاها بذلك السمو، يقول شرف الدين في قصيدة ‘الثقب’، منهياً استهلاله بسؤال شعري:
‘حين صنع الله حواء
أي اصبع من اصابع يده
استعمل يا ترى لصنع ذلك الثقب؟
البعض سيقول: السبابة… لانها اشارة الاتهام
والبعض سيقول: الوسطى… لأنها إشارة الفسق
والبعض الأقل كبتاً
والأقل اهتماماً بقضايا المرأة سيقول: الخنصر’.
نلاحظ أن هناك بناءً متميزاً فنياً في شكل القصيدة وفيه جدة لكسب ايقاع توافقي مع السؤال الشعري، والقصيدة تتقدّم نحو مفصل ايروكي، تدريجياً بعد ان تقدم مفترضات شعرية للحالة المثيرة في السؤال عنها، وربما خارج السياق الشعري يعاب الشاعر، وقد يتوضح تطرفه على المبنى العام للعرف الاجتماعي، لكن ليس العيب فيه اصلا، بل في تكويننا الثقافي، وعلى الاخص ازاء موضوعة الجنس اجتماعيا، لكن داخل كيان القصيدة هو احساس شعري نقي وسامٍ، ولا يؤاخذ في اعتبار، وكما انه ليس غريزيا، ولا بد ان نتوافق مع المادة الشعرية، بإطاريها: الفلسفي من جهة، ومن جهة اخرى الشعري ايروكيا، والشاعر له الحق، بعد ان يفقد السؤال اجابة مقنعة تماما، ينيب ويجيب بجملة شعرية تزيح الكثير من المحمولات الاجتماعية، ورغم مساحة القصيدة القصيرة نسبيا، لكنها واسعة الحضور والفاعلية كسياق نثر يواكب الى حد ما روح العصر ويتمثل له بجرأة شعرية لا تؤاخذ.
ثمة قصيدة ابتكارية وملهمة غير معتاد عليها السياق النثري بوضوح وتأشير، يتداخل فيها المحكي بمفترض سردي، وثمة حوار شعري بين شخصية الشاعر الظاهرة عبر ذاته الشعرية وشخصية ضامرة لكنها بادية من خلال تواصلها في الحوار الشعري، وقد ابتكر الشاعر ماهر شرف الدين بعداً قصصياً لكيان قصيدته لا يحيلها الى جنس سردي مجاور، وبدت ايقونة القصيدة وهي ذات الشاعر ترسم ملمح غير ثابت وتفترض حوار ايهامي، ومن ثم تعود الى ذات نقطة الابتداء، وفنيا القصيدة متميزة وقد وصلت في البعد الجمالي الى امكانية اعتبارية مهمة… يقول الشاعر في قصيدته ‘بطاقة ميت’، في حوار شعري بعد استهلال سردي:
- حسناً سأعدِّل الصيغة قليلاً:
‘وكان الشاعر الكبير الراحل ماهر شرف الدين…’
هل تغيّر إحساسك؟
- لا.
- هل زال خوفك.
- لا لا. كفي ايتها المرأة.
- طيب. سأعدل الصيغة إلى ما يطمح اليه أي شاعر:
‘وكان الشاعر العالمي وحائز جائزة نوبل الراحل ماهر شرف الدين…’.
لقد قدّم الشاعر تجربة في غاية الخصوصية، واستثمر مساحة النثر الواسعة لابتكار انموذج شعري في غاية الجدة، وهذا مهم بالنسبة للشاعر، فعليه تجاوز تجربته السابقة، وتحقيق حضور جديد حيوي وسامي قيميا وجماليا، واعتقد ان ماهر شرف الدين في ديوانه ‘حصاة في كليتي اليسرى’ قد تخطى مساحة كبيرة عنده وعند غيره ايضا، وما بقي يدور في المدار النثري، وانما تقدم به الى الامام بتجربة تحتمل موارد نثرية شتى، فمن سخرية في سياق نثري يتيح لها مساحة اوسع في المعنى، وابتكاراً جديداً في بناء كيان قصيدة هرميتها مستحدثة ودقيقة، الى لغة متراكبة بنيوياً داخل المضمون الشعري، ومعنى من جهة هو عضوي أي يكون جادا، لكنه لا يقف عند تلك الحدود، ومن جهة اخرى يكون ايقونياً، أي موضوعي، لكن يمكنه التجديد والاحالة الى معنى ضامر، وتوالي القصائد ايضا في التلقي العضوي كان غير نمطي، أي انك تستمتع بقصيدة قراءة، لكن في قراءة قصيدة اخرى، تشعر بمتعة جديدة وليست كسابقتها، والجودة الجمالية كانت قد بلغت اقصى مواضع القيمة الجمالية، لما في القصائد من ابتكار وجدة وقيمة شعرية.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة