الجمعة 2024-12-13 05:33 ص
 

رواية ‘إصرار’: رحلة في أعطاب الروح

12:28 م

الوكيل - إن المزاوجة بين الاشتغال على السرد إبداعا ونقدا يعني وعيا تقنيا ببنيات الخطاب السردي، وهو وعي نرى أنه ينبغي أن يتعطل، ظرفيا، أثناء الكتابة الإبداعية التي من مقوماتها تحقيق سفر تخييلي حر بعيدا عن إسقاط القواعد السردية التي هي، في عمقها، منافِحَة، بشكل ما، للتجربة التخييلية.اضافة اعلان

بحيث إن جاذبية العمل الروائي لا تتحقق إلا حين لا يلمس القارئ تنزيلا تقنيا لتلك القواعد تلافيا في أن يكون منفراَ على مستوى الاستجابة القرائية، ولعله ولهذا السبب تنجح كثير من الأعمال الإبداعية التي يكون كتابها بعيدين عن درس الأدب، إذ يكونون في غنى عن مجابهة هذا الرهان القاسي بالقياس إلى المبدع/ الناقد، ولا يعني هذا الكلام أن المزاوجة بين الاشتغال الأكاديمي والإبداع هي عامل سلبي يقوض إمكانية اندياح الأعمال التخييلية ويقلل من فرصة نجاحها، إذ قد يكون ذا أثر حاسم في إغناء المتن الثقافي للعمل ويعضد بنيته. وبوشعيب الساوري هو باحث أكاديمي حاصل على الدكتوراه في موضوع (الرحلة والنسق)، وعلى شهادة الأهلية (الأستاذية) لتدريس الفلسفة، وهما تخصصان توغلا في بنية عمله الروائي الجديد (إصرار) الصادر مؤخرا عن دار الألمعية بالجزائر، إذ يمكن اعتبارهما إبدالين خفيين سطرا الحبكة السردية ومتنها الثقافي.
إن الرحلة التي نقصدها، في هذا السياق، لا تقوم على السفر في الفضاء الخارجي بغية تسجيل التفاصيل التي تلتقطها عينا السارد وتوصلها، بأقصى قدر من الأمانة، إلى الملتقي، فحَدٌّ كهذا تعترضه تلك الإشارة التجنيسية البيضاء (رواية) التي تضيء عتمة الغلاف المتشح بسند في لون الظلام، مما يعني، لزاما، أن الرحلة المعنية مشوبة بقدر هائل من التخييل المشابه، يقينا، لإطاره المرجعي والواقعي، وهو واقع أليم قائم على المكابدة الممتدة والقاسية التي نجمت عن حب مكذوب بين الداخلة (أو خديجة) وبين مبارك (أو مبيريك)، إذ انتهى إلى مناقرة أبدية وإهمال متطرف (لهشومة) ابنتهما أو امتدادهما المنكسر التي هي الذات الساردة والإجرائية الرئيسة في الرواية، والمجسدة، بحق، للمعاني المستضمرة لسواد سند الغلاف ولحمرة العنوان القانية.
لقد اتخذت هشومة من الكتابة أداتها الحاسمة لتصفية حسابها مع أعطاب الروح ونزف الجسد التي تسبب فيه والداها، عن طريق تتبع تاريخ العلاقة بينهما حتى تصل إلى مصدر (الصدع) الذي أفرز كل هذا الألم الذي لم يكن إلا لينتج طفلة هشة ومهملة تتخذ من الزنقة بيتا فسيحا ومعلما أوحد، إنها طفلة تأكل الوحل وتتلذذ به وتُغتصب بوحشية دون أن يكون ذلك مدعاة لتتحرك مشاعر الأمومة أو أنفة الأب، لذلك كان توثيق قصتها هو خيارها الأسمى لتتطهر من درن طفولة بائسة، تقول هشومة (قبل الانتقال إلى مراكش لمتابعة دراستي في كلية الحقوق، قررت التخلص من عبء سردي ثقيل تحملته لسنوات طوال. لأقول كلامي قبل أن يهل صبحي. وقبل أن أفتح صفحة جديدة من حياتي قررت فتح دفتري للجميع) ص7. وهو دفتر حياتها المفعم بالسواد وبالظلام الذي ولدت فيه برفقة حكاية والديها التي تقدمت على وجودها بثلاث سنوات وحرصت بعد ذلك على توثيقها حينما صيّرتها دافعا قويا حتى تتسامى على الشرط البيولوجي الذي جعل منها فرعا لأصل توهم الحياة مثلما توهم الحب، فالحقيقة أن علاقة الحب الحارقة التي جمعت بين والديها في دوار (الكوارط) ضواحي مدينة (كنيخ) المغربية، كانت قصة بألوان زاهية تلهب حماس شابين شغفا بأصداء حكايتهما وهي تنتقل بين الأفواه وتحضر كفيلم السهرة في سمر الكنييخين دون أن ينتبها إلى أنهما صارا ممثلين رائعين يؤديان ما يصلهما ويصدقان كونه الحقيقة قبل أن تعريهما الحياة وتجبرهما على الرضوخ لناموسها الجبار، وهي نتيجة توصلت إليها هشومة بعد أن أنهت رحلتها المضنية في تاريخ والديها.
إن السفرة التي قامت بها هشومة في هذا التاريخ الخاص المقرون بفضاء قرية (الكوارط) كان بهدف كشف السر الكامن وراء تأبيدهما المناقرة، ومحاولة لتفسير كل هذا الحقد الشديد الذي يشتعل في صدرهما، هذا الحرص الدائم على عدم مغفرة كل زلة أو هفوة لبعضهما، مما يخالف ما سمعته من رواة عديدين عن قصة الحب الحارقة التي شهدتها قريتهما، منذ أن لمحت عينا مبيريك ولد القايد خديجةَ بنت البراني فدوخه قدها الممشوق الذي زينه قفطانها الأحمر المشدود بنطاق أسود جميل، لمحته بدورها فأحبته وأحبها من أول نظرة، أو هكذا شبه لهما، فاتخذا ابنة عمها (يزانة) وسيطا عبره كان ينمو الحب بينهما وتزداد جذوته، إلى أن قررا إعلان ذلك لذويهما؛ لكن المفاجأة كانت رفض والد خديجة تزويجها (لولد القايد) الذي يكن لهم عداوة غير مفهومة، ولأن هذا الرفض وقف ضدا على مشيئة القلب التي لا ترد فإن (خديجة)، كأي عاشقة حقيقية، ستهرب من بيت والدها إلى بيت (مبيريك) بعد أن خطبها، ضدا على رغبتها، لرجل لا تعرفه ولا تحبه، في محاولة لوضع الأب والعائلتين معاً أمام الحقيقة الواضحة التي لا تقبل المراجعة، وفي انتظار أن يلين جانب الأب فيرضخ لمشيئة القلب الجبار ويستسلم راضيا بالقسمة الإلهية النافذة؛ لكن (البراني) الذي اشتهر ببخله أظهر شحا إنسانيا صاعقا؛ بل إن صدمته في ابنته جعلته مُقعدا لا يقوى على الحراك، بقيت خديجة في دار الكبيرة (دار ولد القايد) لكن بعد أن طال أمد مكوثها قررت العودة إلى بيت والدها تكفيرا عن خطلها فاستقبلها بحب أكبر ولهفة أشد، لكن ذلك كان وبالا على (مبيريك) الذي وهن جسده وتضاءل حتى كاد يموت، ولأن وقع الألم في الروح واحد، فإن خديجة أيضا لم تستطع صبرا فذبلت وهرمت قبل الأوان وصارت أشبه بالجسد الذي ينتظر موته الوشيك، ألم مضاعف استشعره الحبيبان، كان حله تراجع الأب عن رفضه وقبوله بزواج ابنته من (ولد القايد). كانت هذه تفاصيل قصة والديها التي استقتها من مصادر مختلفة بدوار الكوارط وكنيخ، وهي قصة حقيقة ببطلين يتحذران من (بني عذرة) حيث العشق الحقيقي. لكن ما الذي جرى حتى استحالت هذه القصة الاستثنائية حقدا دفينا؟
تكتشف هشومة بعد استقراء جميع أحداث هذه القصة الوردية أن خللا ما اعترى حبكتها وأن الرواة فصلوا هذه القصة وفق ما يجعلها مسلية في سمرهم، وكانت هذه الأصداء تصل (خديجة ومبيريك) اللذين صدقاها، بسذاجة، فاستبد بهما الظن الواهم بالحب وعاشا، تخييلا، ما رأوه حقيقة ماثلة، فتماهيا معها كما تتماهى مراهقة حالمة مع قصة حب سينمائية تسقطها على واقع لجيّ عنيد فيغرقها، لقد كان الغريق، حتما، حياة أسرة بأكملها لأنها تشكلت في تربة فاسدة، فكانت تمرتها (هشومة) نتاجا هشًّا بسبب الإهمال تارة وبسبب التراشق الكثيف بين زوجين عنيدين انفجر بينهما كره قاتل تارة أخرى، ونتاج كل ذلك، كما هو رهان رواية إصرار، تساقط كل المسلمات التي أقرها علماء الاجتماع وعلماء النفس عن الأسرة وطبيعة العلاقات بينها، فحب الآباء للأبناء ليس غريزة طبيعية، فوالد هشومة (لم يأخذها يوما بين يديها ولا ربت على كتفها أو نظر إليها نظرة حنون) ص18، أما والدتها فكان كل همها أن تصفي حسابها الطويل مع (مبيريك) دون أن تلقي بالا لابنتها أو متطلباتها (لقد كبرت في غفلة منهما) ص38 تقول هشومة، ومنه فإن ما يستشفه القارئ مثلما توصلت إليه (هشومة) هو تداعي مفهوم الأسرة كما هو محدد في بطون الكتب العلمية الرصينة أمام امتحان الواقع العنيد، فهي مؤسسة انفرط عقدها وفقدت دورها لصالح (الزنقة) التي صارت المعلمة الأولى والحضن الدافئ الذي يُعلّم أبجديات الحياة التي يكون أولها التحلي بفائض من العنف لمجابهة الأخطار المحدقة (كنت أكره الأولاد وأعنف كل من اقترب مني بنظرة أو كلمة عنيفة، ومن تجرأ علي كنت أعنفه جسديا حتى صرت معروفة بهشومة العنيفة، أهشم كل من حاول الاقتراب مني) ص132.
إن عقيدة تكسير الأشياء وتهشيم الغير هي ترجمة للموقف السالب منه ونتيجة خالصة لتاريخ معقد مشوب بدوره بفائض العنف، ويمكننا في هذا الصدد الوقوف على العلاقات السيكولوجية المركبة التي تقترح الرواية، على نحو خفي، تفكيكها، فوالد هشومة (مبريك) ينحدر من أسرة مارس فيها أفرادها السلطة، واستعبدوا أهل قرية ( الكوارط)، واغتصبوا أراضيهم حتى التهديد والضغط الرهيب زمن الاستعمار الفرنسي للمغرب، أما والد خديجة (البراني) فهو مهاجر جاء القرية نفسها بعد معاناة مع القحط، لكنه تصرف بانتهازية قصوى مع أهلها ليجمع ثروة كبيرة، أما (الكراطيون) فكانوا يحسون بالغبن والظلم من قبل العائلتين، لذلك فمن المرجح أن حَبْك قصة حب مبيريك والداخلة كان بهدف تصفية حساب جماعية مع من استعبدهم واستغلهم، لقد كانت صناعة الوهم أهم آلياتهم ليحققوا مبتغاهم، وهذا يعني أن التخييل الذي برعوا في نسجه كان أقدر على تدمير خصمين تاريخين. بمعنى أن وهم الحب كان هو السبيل الحاسم لتحقيق تدمير ذاتي وناعم للخصوم. وإنه من الواضح، هنا، أن الرواية تضع اليد على عقيدة التدمير التي تسكن حياة الناس، حتى لو تعلق الأمر باستغلال المشاعر السامية والرقيقة، وهو أمر طبيعي بالنظر إلى التربة الفاسدة التي أنتجتهم. وهو سلوك يعد ضربا من فعل الأنساق الثقافية المعيبة التي تتسرب عن طريق اللاوعي الجمعي وتقوي فعل الإلغاء والفرح بمآسي الناس حتى لتصير علامة فارقة لشخصياتهم.
إن بنية الحكي في رحلة هشومة تقوم على تقنية إسناد أصوات الحكاية إلى ساردين متعددين، فكانت (أمي الزاهية) وهي شخصية لا تقدم الرواية كثيرا من المعلومات عن ملامحها وعن علاقتها بهشومة، باستثناء لفظة (أمي) التي تشير في الاصطلاح المغربي إلى الجدة مثلما تحيل على المرأة العجوز المربية أو التي تكون على علاقة وطيدة بالأسرة، ولكنها كانت المصدر الأول لمعلومات هشومة عن تاريخ العلاقة بين والديها، وعن علاقات جديها مع أهل القرية ومصدر ثروتهما، وهي تتموقع كسارد من درجة أولى يحمل معلومات متناهية الدقة وشديدة الخصوصية، ولا بد أن (أمي الزاهية) استقت تلك المعلومات من مصادرها الأصلية، أي قرية (الكوارط) مباشرة؛ لأنه من الجلي أنها كانت جزءا من هذا الفضاء، وباستثناء (أمي الزاهية) و( الحارس الليلي للسيارات) اللذين يحضران باسم وصفة صريحين فإن الساردين الآخرين جاؤوا على شاكلة سارد (الليالي) و(كليلة ودمنة) حيث ينسب الخبر إلى رواة مجهولين، هكذا نجد في الرواية هذه النوع من الأسانيد ( قال الرواة، قالوا والعهدة عليهم، قالوا، حسبما قال الرواة، حسبما استقيته من الجيران…)، أما (هشومة) فهي السارد الناظم المركزي الذي استمع إلى جميع المصادر واستقرأها وقوّم صدقيتها ليتأكد من أن حكاية الحب بين والديها كانت مكذوبة جعل الراوي نهايتها وفق ما يشتهي من نزعة تدمير خفية.
وعموما فلقد اتخذ بوشعيب الساوري في رواية (إصرار) من الاشتغال على المفاهيم وامتحانها في ضوء الواقع مادة لحبكته السردية، ولا بد أنه نجح في التخفيف من عقلانية تلك المفاهيم حين استدمجها في عالم الرواية التخييلي، وهي عملية استند فيها على اللغة التي اتسمت بانسيابية عالية وتدفق ثر أهل العمل ليوقع على تجربة أكثر عمقا تعضد ما حققته روايته البكر (غابت سعاد).

* كاتب وباحث من المغرب


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة