السبت 2024-12-14 12:33 م
 

رواية ‘رعاة الريح’ وعودة القرية الفلسطينية

10:44 ص

الوكيل - حين تفرغ من قراءة رواية رعاة الريح للروائي الفلسطيني إبراهيم زعرور، تنثال عليك أسئلة ممضية لأمر تعرف سلفا كيف أنجز. فمن منا لم يسمع ويشاهد ويقرأ في روزنامة أخبار العرب عن تدمير القرى والبلدات الفلسطينية منذ النكبة وحتى اليوم، وكيف أزيحت حياة ليحل مكانها خلقٌ آخر؟ اضافة اعلان

ولكن أن تسمع وتشاهد وتحصي أحداث التقويم شيء وأن تقر بما حدث عبر معايشة حثيثة لتلك الحياة (قبل أن يتم الإجهاز عليها) شيء آخر. معايشة منسوجة بلغة واقعية صرف، تدب على الأرض وتحتك بالصخر وتمتح من صلب الحياة الغائبة، ما يوّلد آصرة قربى ومؤاخاة مع قرية العيون (وهي قرية الراوي). وتغدو تلك القرية صورة حية وحالة صريحة لكل النجوع والقرى والبلدات الفلسطينية المنكوبة.
تبدأ الرواية بكلمة ‘عشت’ بمعنى شكرا وأحسنت. كلمة واحدة من دارجة الريف الفلسطيني تستدعي الحياة الغائبة وتشكل لبنة أولى لإعادة بناء القرية وبنية الرواية. يقول الراوي: ‘عشت … سمعتها، فانثالت ذاكرتي الحزينة بصور ظلت مختزنة طوال خمسين عاما: جدي بهيكله الضخم، وطايل الصياد الذي يشبه بجذعه الضخم شجرة الخروب، وكلبي ‘شير’. وعشرات الوجوه الأخرى، التي ظلت تهيم كالأرواح، تتجول في فيافي الذاكرة…’. ثم تمضي الرواية في هندسة الماضي المطمور وإنارة ليل القرية الغائبة وإيقاظ ساكنيها من العدم.
ترتوي لغة الرواية بمفردات النجع العربي الفلسطيني، ويتأثث فضاء النص بأنواع الحيوات: الطيور الآهلة والمهاجرة، العشبُ يتخلل المفازات، الأشجار بأسمائها الوقورة وهي تعزز جذور الناس في الأرض، ثم الناس وتدابيرهم في نهارهم وليلهم، سرائهم وضرائهم، يتولون حاجاتهم الروحية بما تيسر من تعاليم الإسلام ويفسرون الطلاسم بتمائم متوارثة ويقاسمون الحجر عزلته.
على الرغم من السياق التاريخي المبتور بفعل النكبة واندثار الحياة التي نسجت على منوالها رواية رعاة الريح، إلا أن الكاتب لم يغمط حكايته حقها في الوجود الكامل والطبيعي، ولم يحرم شخوص الرواية من التواجد في حبكة ملتزمة ومشروطة بتقنيات السرد الروائي والتي من توصيفاتها وحدة الزمان والمكان. ولكن الأمر الأخطر، هو أن الكاتب حين هيئا لنا أرضية الحكاية ودعانا لارتيادها، أناط بنا – إلى جانب مشاهدة حكايته وقريته – الشهادة على ما آلت إليه حال الريف الفلسطيني بعد النكبة. إنه وضع نادر هذا الذي نذرنا له الكاتب، وهو نارد بمقدار ما أن النكبة نادرة. وكما لو أن لسان حال الرواية يقول: هاكم أيها القراء الأعزاء قريتي العيون، كل أسمائها وماء عيونها، إليكم طيورها وصيادوها، انظروا كيف تبنى البيوت وتبذر الحقول وتطهى الحبوب. كيف تدفع النساء الضرر عن أطفالهن وكيف يختلف الأخوة ويتفقوا. تنفسوا من هوائها وسيروا في دروبها وتكلموا مع ناسها. هاكم قريتي يا أصدقاء، إنها قرية تشبه آلاف القرى، عشرات آلاف القرى في الدنيا. الفرق بين قريتي وبين قرى الأرض، يا من تشاركونني الأرض، أن قريتي ما عادت موجودة على وجه الأرض، كما لم تعد موجودة أكثر من خمسمئة قرية وبلدة فلسطينية بعد ظهور الإسرائيليين.
إن استحضار القرية الفلسطينية سرديا من غيابها المادي يؤكد ثبوتها المعنوي ويُبقي على الجرح طريا. فإن قلنا إن التصوير الفوتوغرافي وتسجيلات الفيديو تجعل الحدث صادقا أو قابلا للتصديق، فالسرد الروائي بما يملكه من أساليب جمة وطرائق إنسانية تستخدم أعز وأصدق أداة لدى الإنسان: اللغة، لا يفضي إلى تمثيل الحقيقة التاريخية الأصلية فحسب وإنما أيضا في إلغاء ما سواها من شواهد، ولو كانت مؤيدة بالخرسانات الحديدية والإسمنت المسلح.

*كاتب عماني
[email protected]


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة