الجمعة 2024-12-13 07:18 م
 

‘شهد القلعة’ لابراهيم عبد المجيد: تحولات شهرزاد تحولات الحكاية!

10:43 ص

الوكيل - بالرغم من صعوبة تلخيص النص الابداعي، فانني سأحاول تقديم محتوى الرواية من خلال حوار جرى بين شخصيتي الرواية الرئيسيتين ـ شهد واسماعيل ـ بحكم قدرتهما على تمثيل ذلك أكثر من غيرهما.اضافة اعلان

‘قالت بصوت هادئ: في قلعة مهجورة، في مسقط، في عمان. جنوب جزيرة العرب. يلتقي مصريان. من زمنين مختلفين ليتحابا وأمامهما جرت جريمة قتل.يا لها من حكاية!!’
رفع رأسه اليها في دهشة، وفي غيظ صرخ: ها أنت تهرفين. لقد أتيت بي هنا لأنام معك. فلماذا تتحدثين عن هذه الأوهام؟ لماذا تتمنعين الى هذا الحد؟
قالت بهدوء، وهي تعيد نهديها داخل فستانها، وتغلق أزراره على أسرارها:
قم معي. سترى بنفسك القتيلة وآثار القتل. (الرواية.ص ص 46،47 ).المتأمل لهذا المقطع الحواري سيكتشف أقانيم الرواية الثلاثة – شهرزاد وشهريار والحكاية- المتحكمة في النص الروائي.وسيلمس ،من خلال التحليل اللاحق ،تفاعل هذه الأقانيم الثلاثة فيما بينها، مجسدة بناء روائيا يقوم على الحكاية الاطار، أي حكاية ألف ليلة وليلة، مرممة بتقنيات أخرى مستوحاة من الرواية البوليسية، أو على الأصح الرواية اللغز، فضلا عن جوانب أخرى، سيتم التعرض لها في حينها.

تحولات شهرزاد:

تبرز هذه التحولات،عبر قرائن سردية ولغوية مختلفة،جسدتها شخصية (شهد)، بطلة
الرواية بواسطة أسلوب التسويف ،أو الارجاء المقصود، كما فعلت شهرزاد في الحكاية – الأصل ،بهدف الإفلات من موتها المحسوم من قبل شهريار.
أما بالنسبة لـ(شهد)، أوشهرزاد الجديدة، فانها تمارس الأسلوب ذاته عن طريق التمنع والممانعة. والأمثلة التالية توضح ذلك:

أـ ‘قالت: ألاتنتظرحتى أحكي لك حكاية الحصن؟’ ص،26
ب ـ سكتت وتنمّرت عيناها ثم قالت:
لا. القصة لم تنته. سأصب لك أنا الكأس هذه المرة. ص27
ج- شهد، أرجوك.
ألا أسليك؟
- شهد.
خلاص. انتظر حتى أقول كل شيء بسرعة.ص31
قالت من جديد:
نحن نصارع الزمن. لابد أن نجد القاتل قبل الصباح…بعدهاأحدثك عن هذا الباب. ص53
وفي النص حكايات عديدة لا تنتهي ترسلها شهرزاد الجديدة، أو شهد، إمعانا في حرمان شهريار الجديد،أو إسماعيل،من تحقيق رغبته خلال تلك الليلة الملعونة. هكذا استمر تناسل الحكايات المستمر، وكل حكاية تصب في الأخرى، وكل محكي ينفتح على محكي آخر كما برز ذلك في محكي ألف ليلة وليلة الأصل. والفارق بين الليالي القديمة والليلة الحالية، يتجسد في كون شهرزاد الجديدة، ليست مجرد حاكية فقط-وهذا قاسم مشترك بين الحكايتين- بل إنها موضوع للحكي وشخصية أساسية من شخصياته. ومن ثمة، فحكايتها في هذه الليلة، مع إسماعيل استدعت، بهدف تجاوز الوضع الصعب لكل منهما، حكايات عديدة تناسلت عبر النص، وشكلت، من ناحية أخرى، بنيته المركزية المتماهية مع العالم الألف ليلي، والمتقاطعة معها في آن واحد.
هكذا توالت الحكايات بدون توقف: حكاية شهرزاد الجديدة (شهد) مع المغربي الميلودي بفرنسا وهذه استدعت ،وفي فرنسا أيضا،حكايتها مع اسماعيل الرسام المصري، ثم جاءت حكاية ثالثة مارست فيها (شهد) االسحاق مع (فاتيما) المغربية بـ’مراكش’.
وهذه الحكايات المتناسلة بقدر ما تسهم في نمو النص، تسهم أيضا، من ناحية أخرى، في تعميق أزمة إسماعيل في علاقته ب(شهد) متحولة إلى كمائن حكائية تمنع (إسماعيل) من الوصول إلى اللذة المشتهاة.
2 ـ تحولات شهريار:

تتأسس شخصية شهريار، طوال الرواية، على التماهي المقصود بينه وبين شهريار ألف ليلة وليلة.
فعلى امتداد الرواية لاهم له إلا التحايل على المرأة عامة، وشهد خاصة/شهرزاد الجديدة، مصرحا بهوسه الجنسي بالفتيات الصغيرات، مترسما خطوات شهريار القديم المهووس، بدوره، بافتضاض الأبكار. والقرائن الدالة تجسده ممارسات عديدة تمحورت حول تمجيده للجسد، قاهرا ومقهورا، ورفضه العنيف لكل ما يعرقل اجتياح الشهوة المتفجرة باللذة والألم في الوقت ذاته.
ومن ثم، فهو يرفض خريف الجسد ،أو مواته، ويبحث عن العنفوان والتفجر والشبق. وإذا كانت عقدة شهريار القديم، مجسدة في خيانة المرأة (في الحكاية الأصل ضبطت الزوجة متلبسة بالخيانة مع أحد عبيد القصر) مما ولد لديه حسا انتقاميا برز في ليالي المتعة والقتل، اذا كان الأمر كذلك،فإن شهريار الجديد لايتردد في الانتقام، أيضا، من عدو قاهر مجسدا في الزمن الذي حول جسد زوجته الى جسد شائخ. وسيتحول هو بدوره، يوما ما،إلى وضع مشابه يعاني العجز والعطل.
ولعل هذا ما يفسر إعجابه الشديد بالفتيات، في لحظات الحوار الدالة:
أ- …(سألته،
ـ هل تعرف سر الحياة؟
اندهش للحظة
ـ لا أحد يعرف سر الحياة.
أجاب بصوت كسول ،ثم ناولها كأسها.
ـ طيب. هل تعرف سر الخلود؟
هل تعرف ما هي حكاية البنتين الصغيرتين؟ هل يمكن؟ إذن لماذا تسأله؟
لم يشأ أن يعطي السؤال اهتماما أكثر.قال، وهو يتناول كأسه من فوق الأرض:
ـ ربما تكون الحياة نفسها سر الخلود.
ـ إذن لا خلود للموتى.
ـ تقريبا) ص25 . الرواية.
ب- في النص مواقع عديدة،تكشف عن بحث اسماعيل، أو(شهريار الجديد) عن الخلود بأي ثمن، خاصة أنه ‘يدرك منذ زمان أنه يمكن بلوغ النيرفانا بالمجاهدة الصوفية وبالجنس معا’ .ص41
ج ـ وفي ذروة النشوة، مع إحدى الفتاتين، ينخرط في تجربة العشق بكل حواسه (….وبالفعل سكنت شفتاها تحت شفتيه، وأغمض عينيه على سر الوجود، وهو يرتشف من كل شفة على حدة. ص98.

3 ـ تحولات الحكاية:
لا يمكن فصل تحولات الحكاية عن تحولات الأقنومين السابقين ـ شهرزاد وشهريارـ انطلاقا من تحولات شهرزاد، التي تبدأ باسم العلم، مرورا بتجاربها الجنسية المتعددة ،وصولا الى أعلى مراحل اللذة عند سقوطها في شباك اسماعيل أو شهريار الجديد .ف(شهرزاد) هي: فيروز ـ هنا- مروة بالياء – مروة بالتاء مروة الثالثة التي تجمع بين الأولى والثانية… وهي قبل هذا، أو ذاك، (شهد)، شهد القلعة، التي فاضت بالعسل المر. إنها دائمة التحول في تاريخها القريب أو البعيد. إنها المتحول الثابت.
أما شهريار، أو إسماعيل، فهو الثابت المتحول، أو التحول في الثبات. ذلك أن عشقه للنساء، وعلى رأسهن شهد، مجرد وسيلة لاكتشاف وضعه الانساني، من حيث كونه كاتبا يمارس كتابة الرواية متماهيا مع شخصياتها الى الحد الذي يتداخل فيه الوهم منتجا سردا يشبه الحقيقة، بل انه يعيش ندم (بافل) في رواية (تورجنيف)-الآباء والبنون- بعد أن دخل مرحلة الشيخوخة، ولاذ الشباب بالفرار.. لكنه سرعان ما يتجاوز هذا الوضع نحو طهرانية الشيخ (عفرة زيدان) في حرافيش (نجيب محفوظ) محتضنا تيهه، كما احتضن يوما (عاشور الناجي)- في الرواية – شريطة أن ينهل من المتع دون أن يسأل، مهتديا بآخر جملة قالها الشيخ: ‘إذا نسيت فلتتذكر’ ص43 . ولكن، قبل هذا أو ذاك، يظل اسماعيل حريصا على التماهي مع (شهريار) الفاتح الأكبر لحصون العذارى.
هكذا تنخرط الكتابة، بدورها، في لحظات التحول المتواصلة على مستوى الشخصية، في سياق تحول اخر، على مستوى الأجناس والصيغ الادبية، مما أنتج سردا يشبه الرمال المتحركة، تفاعل فيه أسلوب الرواية البوليسية – أو على الأصح الرواية اللغز كما سبقت الإشارة- بالأسلوب المسرحي عبر تبادل المواقع بين اسماعيل وشهد، مواقع المحقق والمتهم. ففي لحظة معينة يصبح فيها اسماعيل محققا وشهد متهمة. وفي لحظة أخرى، يصبح فيها اسماعيل متهما وشهد محققة.
وبتوالي تساقط الجثت، تتوالى أيضا، الاتهامات المتبادلة بين الطرفين. غير أن البنية البوليسية، أو بنية الرواية اللغز، تستفيد ـ كما سبقت الاشارة ـ من الصيغة المسرحية الكلاسيكية من خلال وحدة الزمان (ليلة واحدة) ووحدة المكان (القلعة) ووحدة الموضوع ‘الجريمة) .وقد ساعدت هذه المكونات الثلاثة على الرفع من الإيقاع الدرامي للرواية، عبر معاناة الشخصيتين من آثار جريمة لم يرتكبها أي أحد منهما، ولكنهما ـ في الوقت ذاته ـ يوجدان ـ دون غيرهما ـ في هذا الفضاء المشبع برائحة الدم والقتل.
ولا شك أن نسبة الحوار الطاغية ،في النص، سمحت بتشخيص المكونات الفكرية والنفسية والاجتماعية لكل من الشخصيتين، فضلا عن توسيع دائرة السؤال حول وجود الجثة، أوعدم وجودها، وبالتالي حول وجود مجرم يسمح بإبعاد التهمة عن اسماعيل وشهد.
استفادة السرد من هذين الاسلوبين ـ أسلوب الرواية البوليسية وأسلوب المسرح ـ تحكمت فيه مفاتيح أساسية سمحت ببناء الحكاية من خلال المحطات التالية :
أ ـ التضمين الحكائي ـ كما ورد عند تودوروف(2 ) ـ المستند الى الحكاية الاطار ـ حكاية شهد واسماعيل ـ وما اندرج تحتها من حكايات متناسلة سبقت الاشارة اليها في البداية.
إنها محكيات صغرى تدعم المحكي الأكبر بخلاف محكي الليالي القديمة التي تستقل فيها المحكيات الصغرى بحكاياتها الخاصة، وشخصياتها المستقلة داخل الحكاية الاطارالصادرة عن شهرزاد.
المحكيات الصغري في الرواية، اذن، تخدم لحظات التوتر المهيمنة على فضاء القلعة من جهة، وهواجس الشخصيتين من جهة ثانية. والتضمين، بالاضافة الى هذا وذاك، سمح بخلق إيقاع سريع للسيرورة ـ والصيرورة أيضا ـ الحكائية فرضته أجواء المطاردة الدائمة داخل القلعة.
ب ـ الفصل والوصل: وأقصد بـ (الفصل) استنبات محكيات معينة، أثناء جريان السرد، تفصل بين مرحلة وأخرى، ثم يعاد لحمها، لاحقا، بالرجوع اليها حسب ما يقتضيه السياق.
والمحكيات التي تفصل بين مقاطع الحكي مستوحاة من :
ـ مقاطع نصية من نصوص سردية مختلفة (الآباء والبنون لتورجنيف ـ حرافيش نجيب محفوظ ـ حوريات أودسيوس….). وتجدر الملاحظة الى أن استدعاء هذه النصوص يتم في لحظات نفسية محددة يتداخل فيها الزمان والمكان، وبالتالي يصبح المجال فسيحا للتداعي والتذكر، والإيهام بحقيقة ماجري ويجري في لحظات محددة.
ـ والعزف على التذكر والتداعي سمح أيضا بتبئير ماتعلق بالوضع الخاص ل(اسماعيل)، مثل علاقته بالزوجة والأبناء، بالحب الأول، بالقبلة الأولى….الخ أو تعلق ذلك بوضع عام يخدم سياق التداعي نحو أهداف محددة عن طريق تحيين السرد بلحظات فارقة. (احتراق قطار الصعيد ـ محرقة الفنانين والمسرحيين باحدى المحافظات…الخ)
ـ عن طريق اللمسات العجائبية (الفانتاستيكية) التي تسمح بالغاء التراتبية الزمانية، او النظام الفضائي المنطقي، والانتقال الى أزمنة متداخلة في لحظة واحدة، تمزج بين ما رآه في الحلم وأصبح حقيقة، أو لعلها حقيقة أصبحت حلما. وقد لاتكون هذا أو ذاك، ما دامت المرئيات من أحداث وشخصيات هي مجرد مواد عمل روائي ـ واسماعيل كاتب روائي داخل النص ـ انتهى من كتابته وهو يعيش وقائعه في الوقت ذاته. ألم يقم باهداء روايته الأخيرة الى (مروة) التي رافقته الى غرفته بالفندق، وبمجرد أن قبلها، تذكر قبلته الأولى، وانهالت التداعيات الى الحد الذي نتساءل فيه عن (مروة) ـ بالتاء ـ أو (مروة) بالياء؟ أو لعلها (مروة) النص؟
هكذا يتحول إسماعيل الكاتب الى إسماعيل الشخصية. هل الأمر يتعلق، إذن بالوهم أم الحقيقة؟ هل الطبعات المتعددة لشخصية ‘مروة’ تعكس تحولات الشخصية في الواقع، أم تحولاتها في الكتابة؟
ج ـ جدلية الكتابة والجسد: تقوم الرواية،عادة، على ثنائية الكلام ـ ملفوظ الشخصية ـ والسرد (ملفوظ السارد). غير أن هذه الثنائية تمتد الى ملفوظ أخر مجسدا في لغة الجسد. وفي الرواية مقاطع عديدة ترتفع فيها لغة الجسد عند كل من الشخصيتين ـ اسماعيل وشهد ـ الى أعلى مراحل النشوة والانتشاء، خاصة في المشهد الأخير الممتد من الصفحة 104 الى الصفحة107. وقد يتبادر الى الذهن، خاصة بالنسبة للقارئ الساذج، أن الرواية تحفل بمقاطع ‘بورنوغرافية’ متعددة، في حين نلمس رغبة جارفة استبدت بـ(اسماعيل) ،منذ البداية، لاكتشاف حقيقة المرأة، من خلال لحظات الاشتهاء أو الشبق. وعنف العلاقة بين الشخصيتين مرده الرغبة في الامتلاك التي تصطدم بالتمرد لدي الطرف الآخر. والتمرد لا يعني الرفض، بل يعني اعتزاز كل طرف بكيانه الجسدي الذي يمارس جموحه في لحظات المد والجزر ‘ثم ارتفع قافزا ليغطيها كلها، فأحاطته بساقيها، وشعر أن لها سيقانا متعددة، وأيادي متعددة، ومن عينيها تخرج ألسنة اللهب حتى إذا استقر فيها وصرخت صار يطعنها كأنما يستدعي ماء الحياة من أبعد مكان في الفضاء فوقه’ ص105.
الطعن الوارد في هذا الاستشهاد، أداة لإنتاج الموت والحياة،الفناء واللذة،بل إن الموت أعلى مراحل العشق والفناء،أقصى مستويات الحب. وفي تاريخ الأدباء والفنانين.نلمس هذه الرغبة الجارفة للقتل الرمزي ـ بالرغم من حدوث الجريمة المادية ـ الصادر عن أحد المعشوقين ،بهدف الوصول الى أعلى مراحل التجريد.هكذا يتحول القتل الرمزي الى أداة لانتزاع الجسد من ارتباطاته العادية التي تشده الى المحسوس، وتحويله الى دلالة على قيم الفناء في المعشوق. (يمكن الاستئناس بسير فان جوخ وديك الجن وألتوسير وشريط امبراطورية الحواس… وكلها عكست رغبة العاشق في تحويل المعشوق،عن طريق القتل الى دلالة رمزية’.
ومن ثم لم تعد شهد مجرد امرأة مثل باقي النساء، بل أصبحت دالة على المرأة ـ بالتعريف ـ في كل زمان ومكان. إنها كل النساء. وهاهو قد انتصر أخيرا، سواء كان الانتصار وهما او حقيقة. ‘وأدرك للحظة أنه لا يوجد في العالم إلاهما معا. وربما قذفهما الله من السماء الى الأرض….. لم يعد هناك أي معني لأي شيء…لقد نال شهد وسط الموت…شهد نساء العالمين’ ص107 .

هوامش:
1 ابراهيم عبد المجيد ـ شهد القلعة .دار الدار.مصر.2008


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة