الأحد 2024-12-15 12:29 ص
 

عبد الحسين شعبان في ‘جدل الهويات في العراق’: مقاربة للهوية والمواطنة ومفاهيم الحداثة

09:13 م

الوكيل - ليست الحداثة هدفا لذاتها، وإنما وهذا هو الأهم في حياة المجتمعات، فإنها التي فيها تتأكد العافية، وتمضي المجتمعات في الطريق الصحيح الذي عليها أن تسلكه لبناء ما تعرف بالدول العقلانية التي لا يتخبط فيها الناس والمسؤولون على حد سواء. اضافة اعلان

والحداثة من حيث كونها إحدى الاشكاليات دائمة الجذب للمفكرين والمصلحين الاجتماعيين عبر الأزمنة، ترتبط بها إشكالية الهوية التي هي الأخرى ظلت وما تزال منذ زمن بعيد، تحمل معها أسئلتها الخاصة التي تتحدد من خلال الاجابة عليها ماهيتها وملامحها وغاياتها وسوى ذلك الكثير مما يقع في السياق الاجتماعي التاريخي لها، على اعتبار أن المتحول منها لا تقل مساحته عن الثابت. وفي وسعنا القول بأن كتاب (جدل الهويات في العراق الدولة والمواطنة) للكاتب عبد الحسين شعبان يعتبر احدى المقاربات الهامة إلى الثنائية أعلاه، على اعتبار أن الهويات التي يقر بوجودها ويدافع عنها تتم مقاربة وجودها وشرعية تمظهراتها مع مفاهيم الحداثة، والتي لا يمكن لأية دولة عصرية، أن تقوم بدونها، وعلى أقل تقدير على الحد الأدنى منها.
وبمنأى عن طريقة العرض التقليدية التي يختارها عدد غير قليل من الكتاب ذوي النزعات الصحفية الرثة، فإن هذا الكتاب الذي يقع في خمسة أقسام وخاتمة وملحق، يحمل في سياق منهجه التاريخي التحليلي أكثر من دالة إلى أهميته، ومثلها مما يدفعنا إلى القول بأن المؤلف إنما يبتعد عن الأدلجة والفرض القسري للمفاهيم والرؤى، على اعتبار أنه يسعى لتقديم بحث يقر فيه بالتعددية والتنوع الثقافي والقومي والديني، ومثل ذلك الاعتراف بحقوق ما يسميها الهويات الفرعية وخصوصياتها وإن كنا نختلف معه في الحديث عن هويات من هذا النوع، على اعتبار أن ما قد يعدها هويات فرعية، لا يقبل أصحابها اعتبارها كذلك، ولربما يأخذون عليه بالتالي انطلاقه في مثل هذا الفهم من الايمان بفكرة المركز والمحيط، أو الأكبر والأصغر، أو العام والشامل، وما هو سواها، أي الفرعي والثانوي.
وخشية أن لا يفهمنا البعض على نحو خاطئ، فإننا في الحديث عن الهوية، لا نقول بأنها مادة يحيطها الالتباس، فمن يتناولها عادة من المفكرين والسياسيين يقدمون لها عادة تعريفا يمتاز بالدقة، حتى وإن اختلفت التعريفات التي يقدمونها لها عن بعضها البعض . أو بمعنى آخر فإن ما يثار حولها من الجدل باستمرار في الأدب السياسي، خصوصا في جوانبه الفكرية والاجتماعية والثقافية، إنما يؤكد أهمية الخوض فيها وضرورة ذلك الحديث، الذي ما ان يفتر لأسباب طارئة، سرعان ما يحتدم من جديد لأسباب أخرى لاحقة . وفي اعتقاد المؤلف وهو في هذا على حق، فقد احتدم هذا الجدل ووصل إلى حدود كبيرة بعد انهيار النظام الاشتراكي العالمي، وتحلل المنظومة السوفياتية، وهو الأمر الذي دفع شعوبا وأمما وجماعات لتخوض صراعا حادا باسم الدين أحيانا، وباسم القومية أو اللغة في أحيان أخرى، وفي كل الأحوال كانت الخصوصية أمرا ملازما لكل الأحاديث عن الهوية، إذ سرعان ما طفحت كيانات وكتل على السطح بعد طول كبت وشعور بالتمييز، في مجتمعات كانت الصورة الواحدية تطغى عليها.
صحيح أن مثل هذا الأمر يعدّ سببا أساسيا لاحتدام الجدل حول الهويات، وهو الجدل الذي ارتفعت وتيرته كذلك في ظل مفاهيم العولمة ومعطياتها الاجتماعية وتأثيراتها على الشعوب قاطبة، إلا أنه مما يجب أن لا يغيب عن الأذهان، أن الهويات تعدّ جزءا هاما من فطرة الانسان، وهو مما يدعو إلى احترامها والدفاع عنها، باعتبارها حقا من حقوق الانسان أينما يوجد في المكان والزمان. لكن السؤال الهام الذي يثيره المؤلف ويمكن أن يثيره أي واحد منا يتمثل في قوله: هل يمكن الحديث عن هوية ثابتة أو متكاملة دون تغيير، باعتبارها معطى ساكنا وسرمديا، حتى وإن كانت بعض عناصرها قابلة للثبات مثل الدين واللغة؟
بالطبع فإن الاجابة سوف تتحدد بالنفي. وهناك كما نرى ثلاثة مستويات لتشكيل الهوية : الفردي، الجماعي، والمستوى الوطني والقومي. والهوية على وفق هذا التصور الذي يقدمه شعبان، إنما تتجسد في جانب منها على أساس وعي الانسان وإحساسه بذاته وانتمائه إلى جماعة بشرية قومية أو دينية، وبالتالي فإنها ليست معطى جاهزا ونهائيا، وإنما هي كما يأخذ عن أدونيس عمل يجب إكماله دائما. وبالتالي فإن التغيير هو الذي يطبع الهوية وليس الثبات. ومن نتائج هذا التحول دفع الناس إلى التفاعل مع بعضهم كما تتفاعل العناصر الكيماوية مع بعضها، بحكم علاقة الانسان بالآخر، وليس الانعزال عنه. وبهذا المعنى فالهوية لا تتكون بمجرد النشأة والانتماء، وهما موروثان طبيعيان، بل تتكون من خلال عملية الخلق والعمل والصيرورة، وهذه عملية إبداعية مستمرة ومفتوحة .وإلى هذا الفهم يأخذ المؤلف عن الدكتور محمد البرغثي قوله بأن الهوية لا تعدّ منجزا مكتملا، وإنما هي وبحسب طبيعتها تبقى في حالة من التطور والتغيير، خصوصا بسبب التفاعلات بين البشر، كما يأخذ عنه اجتهاده الذي يقول فيه بأن العلاقة التفاعلية التبادلية مع الغير تعدّ سببا لإثراء الهوية، وليس إلغاء لها. وهذا هو نفسه ما يذهب إليه (هول ستيوارت) الذي يعتبر الهوية في حالة تحول دائم، وليست معطى منجزا متكاملا وثابتا.
ومن هنا جاء قوله: إن جدل الهويات لا يعني بالضرورة الصراع بينها، بقدر ما هو حالة صراع واتحاد .. احتدام واحتواء، وهي علاقة تمثل وتعلم، رغم المغايرة وعدم التجانس والاختلاف. ومن هنا أتت رؤيته هي الأخرى التي يقول فيها: وكلما كانت هوية ‘الأنا’ غير ملتبسة، كلما استطاع الدخول في حوار متكافئ مع الآخر على المستوى الثقافي. وأما إذا كانت الهوية محط إشكاليات، فإنها ستكون مغلقة أو مرجأة أو متأرجحة حسب تعبير أدونيس الذي يأخذ عنه قوله: إنني لا أستطيع أن أعطيها وصفا : الولادة، المواطنة، الجنسية، اللغة، الابداع والتميز فرديا أو جماعيا.
ومن الأمور الهامة التي يلفت المؤلف انتباه القارئ العربي إليها: كيفية إصغاء العرب بعضهم إلى البعض الآخر. وهو من أجل تحديد هذه الكيفية وتقديم الصيغة المناسبة لها، يتوقف أمام كتاب أدونيس الشهير ‘موسيقى الحوت الأزرق’ الذي يناقش فكرة الهوية، وكذلك أسباب الغياب المعرفي العربي عن خارطة المعرفة الانسانية. إنه وهذا واحد من أهدافه، يعمل من أجل تقديم فكر نقدي تساؤلي، بهدف إحلاله في مكان الفكر التبشيري الدعائي، حيث كما يقول يصبح الوصول إلى الحقيقة التي هي على طول الخط تاريخية ونسبية، وصولا يشارك فيه الجميع، رغم تبايناتهم إلى درجة التناقض أحيانا، وهذا مما يعمق الخروج إلى فضاء الانسان بوصفه أولا إنسانا، ويدفع الذات إلى ابتكار أشكال جديدة لفهم الآخر ثانيا، وثالثا يكشف لنا أن الهوية ليست معطى جاهزا ونهائيا، وإنما هي تحمل عناصر بعضها متحركة ومتحولة على الصعيدين الفردي والعام، وهو ما يجب إكماله واستكماله دائما في إطار منفتح بقبول التفاعل مع الآخر.
لربما يستفز الحديث عن هويات فرعية، أو خصوصيات قومية أو دينية لأقليات وتكوينات، بعض الاتجاهات المتعصبة دينيا أو قوميا، إلا أنه ليس بالحديث المفتعل هذا الذي يقدمه المؤلف، خصوصا وأن اختلاف الهويات حتى داخل الوطن الواحد ليس هو الآخر بالوجود المفتعل، ما دامت هناك في هذا الوطن ثمة تكوينات مختلفة دينيا أو أثنيا أو لغويا أو سلاليا. ووحده الفكر اليقيني المطلق، ما يعتبر فكرا إمحائيا لا يؤمن بالآخر، ولا بالفروق في داخل المجتمع ذي الكيانات والمكونات المختلفة. وهذا هو الفكر نفسه الذي يدعو إلى وضع التعددية في داخل السجن، وإقصاء الخصوصيات، والأكثر من هذا فإنه وحده من يسعى إلى إلغاء تاريخ مكونات إجتماعية ومنظومات، بحيث يلعب فيها مثل كرة عمياء، تتدحرج في طريق أعمى وبأيد عمياء كما يرى أدونيس. ولعل جدل الهويات يكشف أن اختيار الصراع بدل التعايش، والصدام بدل الحلول الانسانية، سيكون ضارا وخطيرا على الهويات الكبرى التي يراها المؤلف على هذا النحو من الوصف، مثلما سيكون ضارا على الهويات الصغرى. وهذه الأخيرة إن لم يتم احترامها وتأمين حقوقها المساوية لحقوق تلك التي تسمى بالهويات الكبرى، ستكون عنصر ضعف كبير تزداد خطورته على الهوية العامة وعلى الدولة معا، وحيث لا بدّ من اتباع طريق المعرفة، واشتراك الناس جميعهم في المسؤولية والبحث عن الحقيقة والمعنى، سواء عبر الهويات الفرعية الجزئية، أو من خلال الهويات الأوسع والأكبر، دون أن يغيب عن الذهن أن هذا ينبغي أن يحدث في ضوء الانسجام مع الهوية العامة التي لا تستقيم كينونتها إلا باحترام الهويات الفرعية وخصوصياتها على مستوى الجماعات أو الأفراد.
وإذا ما عدنا إلى إشارة أدونيس إلى الغياب المعرفي العربي عن خارطة المعرفة الانسانية وأردنا البحث عن أسباب هذا الغياب، فإنه يمكننا القول بأن الاهتمام بالتنوع الثقافي وكذلك الاعتراف بوجوده لم يكونا كافيين، خصوصا من الناحية القومية أو الأثنية أو الدينية أو الطائفية أو السلالية أو اللغوية أو غيرها . بل إنه هناك وكما يرى المؤلف تجاهل واضح للتعددية، هو الذي قاد أحيانا إلى عدم الاعتراف ولربما التقليل من شأن الآخر. إنه يقول في معرض حديثه حول هذه المسألة: ولكن الانكار أو التنكر وعدم الاعتراف بالحقوق، لم يؤد إلى وحدة ونقاء المجتمعات العربية، بل ازدادت إشكالية وانقساما وتناقضا. ولعل تلك واحدة من نواقص الدولة العراقية، التي حفرت في أساساتها عميقا، وأضعفت من وحدتها الوطنية وساهمت القوى الخارجية في استثمارها بالضد من المصالح العليا للعراق، وبخاصة في حال استمرار هضم الحقوق.
إن وحدة قسرية أو فوقية أو أوامرية تسلطية كما يسميها، ستكون ضارة وخطيرة واستعلائية إزاء الأقليات الأخرى مهما كانت المبررات والذرائع. ومما يلاحظه المؤلف أن النخب الفكرية والثقافية والسياسية لم تبلور موقفا حقوقيا وإنسانيا موحدا بخصوص التنوع الديني والثقافي والقومي وغيرها. ولربما لهذا ولسواه من الأسباب بقيت فئات واسعة من المسيحيين والأكراد والتركمان ومن الأقليات غير العربية أو غير الاسلامية تعاني من الحيف بشأن عدم تمكنها من تقلد المناصب العليا في الدولة، وخصوصا رئاسة الدولة، ورئاسة الجيش ورئاسة القضاء، وهو حق لها مثلما هو لغيرها إذا ما جرى الحديث عن المواطنة والمساواة في الدولة العصرية.
هكذا فإن المؤلف يتحدث عن هويتين: عامة كبرى وأخرى فرعية. وبصرف النظر عن أي اختلاف حول هذا التقسيم الذي كما قلنا قد لا يرضي الآخر من غير المسلمين أو العرب، فإن المؤلف يقدم مقاربة هامة إلى الهوية والمواطنة. وهي المقاربة التي ينصف فيها كل أولئك الذين غيبتهم التصرفات السياسية السابقة، ذلك لأن اقرار الحق بالهوية في تصورهم، إنما يحمل الخشية من انهيارهم وانهيار منظوماتهم السياسية، التي بقيت لعقود طويلة تقوم على فكرة إقصاء الآخر وعدم الاعتراف حتى بهويته الثقافية. وهي الهوية التي إذا ما وقع الاعتراف بها، سوف تنمو وتتطور، حتى وإن كانوا يدركون أنه ثمة هناك عوامل مشتركة ذات بعد إنساني، وقيم للتعايش والتفاعل بين جميع الأطراف المكونة للوطن الذي يتم الحديث عنه.
غاية هذا الكتاب أخيرا إعادة اللحمة الوطنية العراقية، والوحدة الجامعة والهوية المشتركة بتعزيز المواطنة، حتى وإن كان يقر فيها صاحبها بحق الكرد في تقرير مصيرهم. وهو إلى هذا يقدم تصوره للمستقبل، الذي يستند كما نفهم من خطابه، إلى أساس يقف فيه على الضد من الطائفية جوهرا ونهجا وتوجها، فكرا وممارسة، على اعتبار أنه بدون حدوث هذا الأمر، فإنه ليس في مقدور العراقيين بناء دولتهم الجديدة على أسس صحيحة وعصرية ومدنية حتى . ومن هنا أخيرا يأتي التركيز على المواطنة التي تعد حجر الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه الهوية العراقية الجامعة.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة