السبت 2024-12-14 11:55 م
 

عنصريّة في مواجهة العنصريّة (في الرّد على صقر أبو فخر)

12:20 م

الوكيل - ينطلق صقر أبو فخر في مقالته حول ما سمّاه ‘وهم التفوق الحضاري’ (يقصد المصري)، في جريدة ‘القدس العربي’ (19/9/3013)، من مقدمات لا تمنح المبررات الكافية لمثل هذه الغضبة المتوترة على مصر والمصريين والحضارة المصريّة. اضافة اعلان


والحكاية، كما يرويها صقر، أنه قد ‘وُجدت’ (وكأنما بمصادفة بريئة) ‘مجموعة من الفلسطينيين’ تدافع عن مقر الإخوان المسلمبن في المقطّم، إضافة إلى مجموعة من السوريين تشارك في التظاهرات المؤيِّدة للرئيس المصري السابق محمد مرسي (لم يقل أنهم كانوا يشاركون في اعتصام رابعة الذي لم يخلُ من السلاح)، الأمر الذي أدى الي إثارة نزعات مصريّة عنصريّة غير مسبوقة، لم يشر الصديق صقر إلى مصدرها أو فحواها. أي أنه لم يشر إلى ‘متن’ العبارات العنصريّة التي قيل إنها ترددت، أو إلى ‘سندها’. لكنه اكتفى بالقول إن الأمر بلغ ‘بأحد المصريين’ لأن يتمنى على الإسرائيليين العمل على إبادة الشعب الفلسطيني، دون أن يحدِّد لنا صديقنا هويّة هذا ‘الأحد!’ وقيمته، السياسيّة أو الثقافيّة أو الاعتباريّة، ومدى تمثيله لاتجاهات الشّارع المصري ومزاجه السياسي والعاطفي تجاه الفلسطينيين، والسوريين، والعرب بشكل عام، أو ‘العربان’، وهي المفردة التي أسقطها صقر على اللسان المصريّ!

هكذا يقزِّم صقر أبو فخر المسألة، مثلما يحاول تقزيم ما حدث في 30 حزيران/ يونيو الماضي، باعتباره الحدث التاريخي التحوُّلي (بغض النظر عن الاختلاف في رؤيته انقلاباً أم ثورة، أم موجة ثانية تصحيحيّة من موجات ثورة 25 يناير)، مجرّد ‘تظاهرات’، حسب تعبيره!

ويعلم كاتبنا الفلسطيني، أن ‘مجموعة الفلسطينيين’ التي بسّط مشاركتها في ‘الدفاع′ (بما تنطوي عليه المفردة الأخيرة من معنى إيجابيّ) عن مقرّ الإخوان في المقطّم، وقفزه عن حقيقة أنها كانت تحمل السلاح، لا تمثِّل الشّعب الفلسطيني، إنما تعود إلى جماعة سيّاسيّة ـ عسكريّة محدّدة الاسم والعنوان والانتماء، هي حركة ‘حماس′، ومقرّها فلسطين، التي تعتز بكونها جزءاً لا يتجزأ من تنظيم الإخوان المسلمين.

في الوقت نفسه، فقد حرص صديقنا على أن يقفز عن الاعتراف بأن الدور الطبيعي المفترض لحركة المقاومة الإسلاميّة في فلسطين، كما نعلم ويعلم، ليس في ‘المقطّّم’، وأن حملها السلاح دفاعاُ عن مقرّ الجماعة في القاهرة، ينتمي إلى ممارسة تمسّ قضيّة سياديّة جوهريّة لبلد شقيق يعيش أوضاعاً تاريخيّة إاستثنائيّة، وتوصيفها الدقيق إن أراد، هو تدخل تلك ‘المجموعة” في الشأن المصري والعبث في الأمن القومي لبلد من حقّه الدفاع عن سيادته الوطنيّة. وعلى أيّ حال، فإن الجهاد على جبهة المقطّم، وشنّ شكل من أشكال الكفاح المسلّح هناك، مهما كبر أو صغر، لا يمكن أن يُنسب، في رأينا، لأي فعل فلسطينيّ أو للفلسطينيين أنفسهم، ولكفاحهم المشروع من أجل حريّة وطنهم وكنس الاحتلال عن أرضهم، وإنما هو انتهاك مفضوح يهدف إلى إعادة سلطة الإخوان المسلمين في مصر التي فقدوها في (تظاهرات) الثلاثين من يونيو/ حزيران الماضي.

ومما يثير الاستهجان، أن يتكئ الصّديق صقر على تصريح عدائي، فرديّ وحاقد، لمجهول اسمه (أحد المصريين!)، ليبني عليه ردّه، رغم يقينه بأن مثل هذا التصريح، إن صحّ، فإنه لا يتعدّى كونه كلاماً مُرسلاً من غير الممكن تعميمه أو الاستناد إليه في أيّة مناقشة أو أيّ حوار جاد، حتّى لو أضاف إليه الكاتب (وحبذا لو فعل) شيئاً مما تردّد في تلك ‘الحملة العنصريّة الهاذية’ التي ربما تكون قد مثلتها حالات عداء إعلامي تجاوزت الحدود ومنطق الاختلاف، وتعدّت في هجومها الجهة التي تطاولت على السيادة المصريّة واستخدمت السلاح، إلى الشعب الفلسطيني الذي أصابته رشقات مسمومة من السهام الشوفينيّة العنصريّة الجاهلة، المُستنكَرة.

إن المقدمات التي مهّد بها صقر لطروحاته حول وهم التفوق الحضاري المصري، لا تبيح لمثقف محترم، أن يشهر بدوره، وعلى جبهته التنويريّة، سلاح الشوفينيّة نفسه، في وجه الشوفينيين على الطرف الآخر، متحركاُ ربما من قناعة خاطئة بأنه لا يفلّ الشوفينيّة إلاّ الشوفينيّة، وأن القضاء على ‘العنصرية الهاذية’، ومواجهتها، لا يكون إلاّ بمثلها.. وبعشرة أمثالها إن أمكن!

في كتابات سابقة، حرص صقر أبو فخر على أن يجهد ويجتهد في التنقيب عن ‘الأوائل’ من الفلسطينيين الروّاد، الذين أسهموا بدورهم في بناء الأمكنة (ولا نقول الأوطان) التي لجأوا إليها وأقاموا على أرضها في العديد من مناطق الشتات، خاصّة في لبنان. وقد اعتبرنا الأمر حينذاك، تحبُّباً، نوعاً من ‘الشوفينيّة المحمودة’، كونه ظلّ يهدف إلى تأكيد جوانب إيجابيّة وخلاقة في الشخصيّة الفلسطينيّة، المعرّضة لمحاولات التشظّية والتبديد. ولكن يبدو أن الشوفينيّة لا تتقبّل بأي حال من الأحوال وصف ‘المحمودة’، تماماً كالإرهاب (كما حاول ابن لادن أن يفعل ذات لحظة من جنون التاريخ)، وأن الأشكال البسيطة منها سوف تقود، حتماً وبالضرورة، إلى تجلياتها الكارثيّة الطبيعيّة.

لا شك في أن صديقنا صقر أبو فخر هو مثقف موسوعي، أرشيفي، واسع الثقافة، متعدد المصادر والاهتمامات. ومن هنا فإن من حقه أن يعمِّم ما يمكن أن يصل إليه من نتائج بعد دراسة موضوعيّة وبحث علمي رصين. وكان يمكن لصقر أن يمتعنا بدراسة تخصصيّة مرجعيّة في مجال المصريات، تخوض ـ على سبيل المثال ـ في إثبات أن الحضارة المصريّة لم تنتج شيئاً ذا قيمة نظريّة، في الطب والهندسة تحديداً، كما قال، وأن المنتج المصري القديم في هذين الحقلين ينتمي إلى ثقافة الموت لا إلى ثقافة الحياة.

غير أن محرِّك القراءة التي قدّمها الكاتب هنا، لم يكن دافعه البحث العلمي بهدف الوصول إلى الحقيقة، وإنما المناكفة الاستفزازيّة من منطلقات عنصريّة مسّت الشعب المصري، بحاضره وتاريخه وعمقه الحضاري.

وسوف ننظر إلى كيفيّة استنفار صقر أبو فخر لمعارفه التاريخيّة، وقراءاته، في الحضارة المصريّة وحضارات ما بين النهرين وبلاد الشّام، بهدف تأجيج شوفينيّة هادفة إلى مواجهة الشوفينيّة المريضة، وهو أمر مستهجن صدوره عن مثقف تنويري ومحاور مشهود له بالكفاءة والإنتاج الثقافيّ الغنيّ!
***

يقترح علينا صقر أبو فخر أن نفحص معه ‘بِرَويّة’، ما أطلق عليه ‘ظاهرة العنصرية المصرية المسربلة بالتعصب والكراهية’، دون أن يفوته التأكيد، بداية، وبموضوعيّة مُقدّرة، إلى أنها ‘ظاهرة محدودة في أي حال’!

لا تكتفي ‘رويّة’ صقر، ورؤيته في قراءة هذه الظاهرة (المحدودة)، باتهام المصريين بأنهم نبذوا تاريخهم وخرّبوا معابدهم ودمّروا حضارتهم وسرقوا آثارهم (لأن سرقة الآثار كان ديدن الكثير من المصريين، حسب تعبيره). فهم بالتالي يعيشون في حالة انقطاع حضاري عن تاريخهم القديم. ثم إنه يذهب، من قبيل معايرة المصريين (الذي يتبرّم من ‘ثرثراتهم’ الدائمة عن حضارة سبعة آلاف سنة)، إلى القول إنه منذ 945 ق.م ‘انتهت مصر كدولة مصريّة’ (وهي مسألة، لشدّة غموضها وارتباكها، ما زالت بحاجة من مطلقها إلى مزيد من الشرح والإيضاح، إن لم يكن إعادة كتابة التاريخ المصري ومسيرته الطويلة في ظلّ الغياب المطلق للدولة!). ثمّ إنه يصل إلى الاستنتاج بأن الثقافة المصريّة هي ثقافة موت، موحياً بتفرُّد المصريين القدماء بذلك، وقافزاً عن حقيقة أن لا ثقافة ولا حضارة في التاريخ تجنبت أسئلة الموت، والبعث، والخلود، وأن الموت ظلّ سؤالاً فلسفياً وجودياً ترافق طرحه مع الوعي الإنساني والحضاري، وقام بدوره في تشكيل الظاهرة الدينيّة.

وإذا كان صقر يرى في الأهرامات، وهي إحدى العجائب الهندسيّة الكونيّة، منتجاً لحضارة مهجوسة بسؤال الموت، لا الحياة، ويرى في التحنيط معطى علمياً يخدم فكرة الموت نفسها، فإنه لم يقف عند ثلاث حقائق: الأولى، النظر إلى المسألة في إطار الاعتقاد بتواصل الحياة بعد الموت. وإن رغبة الحياة وتواصلها هي الدافع الأساس لتسخير العلوم من أجل ذلك الأمر، لا تقديس الموت نفسه ولنفسه. أمّا الثانية، التي فات هجائيّة صقر الحضاريّة الالتفات إليها، أو الاعتراف بها، فهي الإقرار بالعبقريّة العلميّة، في الهندسة والطب، التي لا شكّ أنها كانت متوافرة في تلك الحضارة، فأنتجت الأهرامات، بغضّ النظر عن الغاية من إقامتها، وكذلك التحنيط. وأمّا الحقيقة الثالثة، فهي أنه لا توجد آثار حضارة قديمة في الكون تخلو من المعابد ودور العبادة التي هي أمكنة للتقرًّب من الآلهة والفناء في الذات العليا، كإحدى وسائل التهيؤ لحياة ما بعد الموت.

وعلى أيّ حال، يمكن للباحث أن يدرس مقومات أيّة حضارة، ويبسط لنا ملامحها ومحتواها، ويغوص في تفاصيلها وخطابها، شريطة أن يكون هدفه البحث العلمي عن الحقيقة، مهما كانت، ولا يتحرّك مدفوعاً بهاجس سياسي تنديدي، وخطاب هجائي مُنجز سلفاً، مع الاجتهاد لزجّ تلك الحضارة في ذيل قائمة التراتبيات الحضاريّة التي يصطنعها، أو نفيها، كما فعل صديقنا بالحضارة المصريّة، التي لم ير فيها معلماً ايجابياً، علمياً وثقافياًً، بل رسوباً دائماً في كلّ المواد، العلميّة والأدبيّة والفنيّة، قديماً وحديثاً. فهو لا يتوقف عند الطب والهندسة، ولكنه يذهب، وبالروحيّة العدائيّة نفسها، إلى الفنّ المصري القديم، فلا يقرأه بموضوعيّة وبأدوات جماليّة، ولا يأتي على ذكره إلاّ ليصل إلى نتيجة جاهزة مقرّرة مسبقاً، وهي أنه فنّ محدود القيمة، ولا يقاس بقيمة الفن المنتج في حضارات ما بين النهرين وبلاد الشام. ومن هناك، يقفز إلى الحديث عن تأخر ظهور الجامعة المصريّة في العصر الحديث، وتراجع الصحافة، والسينما، والدراما، والشعر، والفكر، والفن.. الخ، وفقدان المصري لقوّة المنافسة مع نظيره الشّامي في كافة المجالات!

وإذا كان صقر يعرج للحديث عن ‘حجر رشيد’، فليس لأنه ينطوي على قيمة حضاريّة كمنتج مصري قديم، ولكن للإشادة بالمستعمر الذي اكتشفه وفكّ رموزه، ولهجاء المصريين الذين لولا شامبليون (وهو غير مصري، يُؤكد) ‘لظلّ الحجر مرمياً في العراء إلى أمد طويل’! فهل هناك عنصريّة مسربلة بالتعصُّب والكراهية أكثر من ذلك؟!

أمّا الحديث عن عقدة ‘الخصاء الحضاري’، التي تطرّق إليها صقر أبو فخر. فيبدو أن هذا المصطلح قد انحدر إليه من نظريات التحليل النفسي، وتحديداً من سيكولوجيا فرويد القائمة على فاعليّة الدافع الجنسي، حيث تحدّثً، في سياق نظريته عن ‘عقدة الخصاء’. وما عناه رائد التحليل النفسي بذلك (ودون تبنٍ لما جاء في النظريّة)، هو أن الأنثى تعاني تلك العقدة لافتقادها الخلقي إلى القضيب، فيما يعانيها الذّكر، ممتلك القضيب، لأنه يخشى على هذا الامتياز الذكوري من الضياع والفقدان!

ولا أدري أيّ نوع من الخصاء، في مفهوم صقر، هو الذي يعانيه المصريون على المستوى الحضاري. هل هو خصاء الأنثى، المفتقرة إلى القضيب الحضاري، فتواجه عقدة غيابه، أم أنه الخصاء الذكوري القائم على الخوف من افتقاد القضيب. أم أن الكاتب يعني أن الخصاء قد تمّ على إثر القطيعة الحضاريّة مع الماضي ولم يعد أمام المخصيّ سوى التغني (الثرثرة) بذكورة مفقودة منذ آلاف السنين!؟

وحتّى لو تمّت القطيعة مع حضارات الماضي. فهل يمكن لصقر أن يُعدد لنا بعض الحضارات الكونيّة التي تواصلت مع ذاتها دون لحظات انقطاع تاريخيّة تطول أو تقصر!؟ وعلى أيّ حال، لا توجد أمم أو أقوام عرفت في تاريخها القديم حضارات سادت، إلاّ وتجد نفسها متكئة على تراثها القديم وأمجاد الماضي المحلوم باستعادته. وربما يوافقني صقر بأن تعبيره عن ‘الخصاء الحضاري’، إذا كان ينطبق على أمّة من الأمم الحديثة القائمة الآن على الأرض، فهو أكثر ما ينطبق على الولايات المتحدة الأميركيّة. وإن غياب الامتداد والجذور الحضاريّة لأقوى وأغنى قوّة كونيّة الآن، قد يفسِّر لنا حرصها على تدمير العديد من المراكز الحضاريّة في منطقتنا. فعلت ذلك في العراق، وتحلم بتكراره في سوريا، وليس الهدف المصري، بعمقه الحضاري، ببعيد عنها.

لا شكّ في أن صقر يستثمر نزعته الأرشيفيّة في الكتابة. وقد أفادته تلك النزعة في مقالته هذه، خاصّة في القسم الذي يحشد فيه أسماء بضع عشرات لتلك الكوكبة من المبدعين والفنانين والمثقفين الذين أمّوا مصر وأسهموا في بناء ثقافتها على امتداد القرن العشرين. والحقيقة أنه رصد لنا عشرات الأسماء من هؤلاء العرب، موحياً بأن مصر، لولاهم، ما عرفت أدباً أو فناً أو ثقافة. ولكن صديقنا لم يتعب نفسه في رصد اسم مصري واحد، من آلاف وربما عشرات آلاف الأسماء المصريّة الأصيلة التي أغفلها وأسهمت بدورها في إقامة نهضة ثقافيّة مزدهرة، جعلت المبدعين العرب يحجون إلى مصر، ويقيمون فيها، لأنها وفّرت لهم المناخات الإبداعيّة الملائمة، وما زالت.. وستبقى!


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة