الجمعة 2024-12-13 03:14 م
 

غابرييل غارسيا ماركيز: الأنساق المتعددة والمتباينة في سيرته

01:21 م

الوكيل - يكتب المؤلف جيرالد مارتن في مقدمة كتابه ‘سيرة حياة غابرييل غارسيا ماركيز′( 1):اضافة اعلان

‘ وحتى عندما تكون متأكدا من أن أي حكاية تستند إلى شيء ما حدث حقا، فانك لا تزال غير قادر على اختزاله إلى شكل واحد لأنك ستجد أنه ذكر ـ يقصد ماركيز ـ معظم القصص المشهورة عن حياته بأنماط متعددة ومتباينة، يحوي كل نمط منها جانبا من الحقيقة’.
حين يروي ماركيز شفهيا أو كتابيا، فانه لا يلتزم الحدود الضيقة للحكي التقليدي النمطي، بل يسعى دائما لخلق حالة إبداع تتشكل بمختلف الصيغ، وفي قوالب مختلفة لأجل إفراز نتاج أدبي متميز في سرده للأحداث. ولهذا نجد مؤلف كتاب ‘سيرة غابرييل غارسيا ماركيز′ يخرج بذلك الاستنتاج الذي عبر فيه عن تقلبات عجيبة في الحكي اللولبي لغابرييل غارسيا ماركيز، وفي نفس الحكايات التي تستند إلي شيء ما حدث حقا، وأنه يذكر معظم تلك القصص المشهورة عن حياته بأنساق متعددة ومتباينة، يحوي كل جانب منها نمطا من الحقيقة.
طبعا فجيرالد مارتن لا يستثني من هذه الحقيقة التي توصل إليها، لا يستثني حتى بما في ذلك معظم القصص المشهورة عن حياة ماركيز، القصص المشهورة التي ينبغي، في عرف السير الذاتية، أن تُنقل بأمانة شديدة. ولكن عن أي حقيقة يجب أن نتحدث عندما يتعلق الأمر بالأدب؟..هل هي الحقيقة المجردة التي تشبه تأريخ سير السياسيين لمرحلة ما من تقلدهم السلطة، وتسليط الضوء على وقائع ثابتة لا ينبغي لها أن تتبدل مثلا؟.. الأمر هنا يختلف على نحو جذري كما أتصور، فغابرييل غارسيا ماركيز كان يكتب دائما أدبا كصنعة، ويمارس أدبا بطريقة ما في حياته اليومية، ويروي أدبا في حواراته ومقالاته المتعددة، وبالتالي فهو مطالب، بضمير الكاتب المخلص لحرفته، أن يعطينا إبداعا جديدا دائما، وثريا في مادته، ويتجاوز الأنساق التقليدية المألوفة في الكتابة الأدبية. وإذا كان هناك من فضل كبير جدا جعل ماركيز يحقق كل هذه الشهرة التي ينعتها المؤلف خلال نفس التقديم ب’الشعبوية’، على غرار شعبوية تشارلز ديكنز، وهي مقارنة لا أراها من منظوري الخاص مناسبة، لعدة اعتبارات ليس هنا مجال ذكرها ‘فان تلك الشهرة التي يمتلكها ماركيز تحصل عليها من خلال مقدرته على صناعة الحدث الباهر والاستثنائي من لا شيء تقريبا، أو على الأقل من شيء قليل جدا.
وهكذا يختم جيرالد مارتن مقدمته للكتاب بحقيقة فيها الكثير من المكاشفة أمام الذات، بحيث يقول:
‘لقد خلص العديد من كتاب السير المستهلكين والأكثر شهرة مني في آن واحد إلى أن الوقت والجهد المبذولين وحدهم الذين يقدمون على مثل هذه المهمة التي ربما يدفعهم إليها احتمال التحدث إلى العظام والطيبين أو المشهورين والتماهي معهم. ربما يغويني مثل هذا الاستنتاج، لكن إن كان هناك موضوع واحد يستحق أن يخصص له المرء ربع حياته، فانه بلا ريب سيكون موضوع غابرييل غارسيا ماركيز وسيرته العجيبة’.
ورغم أن جيرالد مارتن يعترف بأن استنتاج احتمال إنجاز عمل كبير لأجل التحدث إلى العظام والطيبين أو المشهورين والتماهي معهم، قد يغويه ربما، إلا أنه سرعان ما يتدارك ليقول ‘ لكن إن كان هناك موضوع واحد يستحق أن يخصص له المرء ربع حياته، فانه بلا ريب سيكون موضوع غابرييل غارسيا ماركيز وسيرته العجيبة. ‘إلا أننا، ومن زاوية أخرى، لا يمكننا أن نقرأ هذا الكلام، إلا على أساس الإخلاص الكبير من قبل جيرالد مارتن لأدب غابرييل غارسيا ماركيز، ولرواياته التي أدهشت العالم بأسلوب الواقعية السحرية التي نهجها في مختلف أعماله البارعة التي لا يمكن أن نقتصر على القول بأنها تضاهي أعمال جيمس جويس، وبروست، وكافكا، وفوكنر، وولف..كما ألمح لذلك المؤلف، لأن فرادة نتاجات غابرييل غارسيا ماركيز، تتأتى أولا وأخيرا، من قدرته المدهشة على اختراق كل الأشكال والتجارب الروائية السابقة واللاحقة، بل وأيضا تطويعه البارع لمدرسة الواقعية السحرية التي أطرها في قالب جد متميز، فيه الكثير من شخصية ماركيز وأسلوبه في حياته اليومية. ذلك الأسلوب الذي انعكس ولا شك في الأدب الذي أنتجه ماركيز بصيغ وأنماط جد متعددة ومختلفة وعلى نطاق واسع أيضا.
ولهذا كله أعتقد أنه من غير المجدي مقارنة أدب غابرييل غارسيا ماركيز ببعض عظماء كتاب الرواية والسرد في العالم، لأن ماركيز يعد عالما قائما بذاته، وغير قابل لا للاستنساخ ولا للمقارنة التي ستصبح فجة وغير لائقة بشخصيته الأدبية وبشخصية الكتاب العظماء الذين سبقوه، أو جاؤوا من بعده في ميدان الكتابة الروائية.
وفي فقرة أخرى من مقدمة الكتاب الذي نحن بصدده، يقول جيرالد مارتن بنوع من الشاعرية الكئيبة، وبنوع من الإحباط الممزوج بنكهة الانتهاء الجميل من إنجاز عمل كبير استمر على مدار 17 سنة متواصلة، أي أن تأليف كتاب ‘سيرة غابرييل غارسيا ماركيز′ استهلك ما يقارب ربع عمر المؤلف كما يخبرنا في نفس تقديمه للكتاب الذي نحن بصدده:
‘وهكذا وجدت أنه من المستحيل القضاء على الأسطورة التي نشرها غابرييل غارسيا ماركيز بنفسه ويعتقد بها كما يبدو، حتى إننيـ وهذا من مزايا هوسي المفرطـ أمضيت ليلة هطلت الأمطار مدرارا وأنا جالس على مصطبة في الميدان في آراكاتاكا كي أتشبع بجو البلدة التي ولد فيها موضوعي كما يفترض’.
لم يكن ممكنا أبدا ودائما القضاء على الأسطورة التي نشرها غابرييل غارسيا ماركيز بنفسه، هكذا يستخلص في النهاية جيرالد مارتن، ويضيف: ‘ويعتقد بها ـ ماركيز ـ كما يبدو!’ وفي تقديرنا فإننا نقول طبعا لا ..إنها أسطورة حقيقية، والأسطورة لا يمكن القضاء عليها، الأسطورة هي أكثر بكثير من الحقيقة ذاتها،..وإذا كان من الممكن الالتفاف على الحقيقة أحيانا، وربما القضاء عليها في أحيان أخرى، فالأسطورة عكس ذلك تماما، لأن الأسطورة تخلق نفسها بنفسها، وتنتج أدواتها بنفسها، وتصنع عالمها الخاص بها. ولذلك يستحيل القضاء عليها..والكاتب غابرييل غارسيا ماركيز خلق من نفسه أسطورة، ولم يكن يعتقد بها فقط، بل كان يعيشها ويمارسها في حياته اليومية دائما وأبدا، سواء حين يكتب أو يتحدث، أو فقط يتأمل بئر نفسه العميقة، حين يختلي بنفسه، كما يمكننا أن نتصور.
يقول جيرالد مارتن أنه ألف كتاب ‘سيرة حياة غابرييل غارسيا ماركيز′ على مدار سنوات طويلة أمضاها في قراءة أعمال ماركيز ومنجزاته الإبداعية في القصة والرواية والمقالات الصحافية والنصوص السينمائية، والسفر إلى عدد كبير من بلدان العالم لمقابلة أصدقاء ماركيز من صحافيين وأدباء وروائيين وسياسيين وزعماء أحزاب ورؤساء دول، من ضمنهم الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، والرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، ورئيس وزراء إسبانيا السابق فيليب غونثاليث، وغيرهم من الشخصيات التي نهجت نهجا اشتراكيا في سياستها، بهدف الاطلاع على تفاصيل علاقاتهم مع الروائي الكولومبي التقدمي الذي عرفه قراء الأدب في أرجاء العالم رائدا للواقعية السحرية التي يفضل هو عليها مصطلح الواقعية المأساوية.
وعلينا أن نقر بأن المؤلف بذل مجهودا جبارا ليكتب شيئا يستحق مكانة ماركيز على الخريطة الأدبية العالمية، وعلى مر العصور كما أزعم، ولعل الفرصة أتيحت للمؤلف لمقابلة شخصيات استثنائية على غرار فيدل كاسترو والرئيس الفرنسي الراحل فرونسوا ميتيران، والرئيس الإسباني السابق فيليب غونثاليث..وغيرهم كثير من الشخصيات المرموقة في عالم السياسة والأدب ومعارف ماركيز وأصدقائه، وكل من واكب مسيرته الأدبية والحياتية على نحو ما. هذا الزخم المثير من الشخصيات التي التقاها مؤلف الكتاب جيرالد مارتن، أغنت ولا شك تجربة الكاتب، وجعلته يكتب سيرة غابرييل غارسيا ماركيز بأكبر قدر ممكن من المصداقية والقرب من الحقيقة. ولكن حقيقة ماركيز كما نحاول أن نثبت ذلك دائما، هي حقيقة غير ثابتة..حقيقة تتماشى مع شخصيته الإبداعية اللولبية الدائمة التحول، وبهذا لا يمكن للمؤلف جيرالد مارتن أن يكون قد قبض على الخيط الرفيع الذي يمكنه من تحويل سيرة حياة ماركيز كما هي، إلى أسطر في كتاب ضخم، بل سيجد أمامه في كل الأحوال سيرة هي في الواقع من تأليف الكاتب غابرييل غارسيا ماركيز نفسه، سيرة فيها أيضا الكثير أو القليل من خيال ماركيز. وجيرالد مارتن لا يستطيع فعل أي شيء حيال هذا الأمر، لأنه يعترف ضمنيا بذلك حين يقول كما أسلفنا: ‘وحتى عندما تكون متأكدا من أن أي حكاية تستند إلى شيء ما حدث حقا، فانك لا تزال غير قادر على اختزاله إلى شكل واحد لأنك ستجد أنه ذكر معظم القصص المشهورة عن حياته بأنماط متعددة ومتباينة، يحوي كل نمط منها جانبا من الحقيقة’ بهذه العبارات يقر جيرالد مارتن بشخصية غابرييل غارسيا الإبداعية المتحولة التي لا تستقر على حال، وهذه الشخصية الإبداعية نقصد بها التركيبة المدهشة والبارعة التي يستعملها ماركيز، بوعي، في حديثه عن الأدب وعن حياته وعن نظرياته في السياسة وفلسفته في رؤيته للعالم. ولعلنا هنا سنجد أنفسنا مضطرين لاستحضار مقولة والد ماركيز حين صاح في وجه ابنه ‘ قصاص، حسنا، طالما كان كذابا منذ طفولته’، طبعا لن نكون بالسذاجة لنفهم الكذب بتلك السطحية، إنه كذب خاص جدا وفيه الكثير من توابل الإبداع.
ونكتشف من خلال جيرالد مارتن أن ميولات غابرييل غارسيا ماركيز السياسية كانت ذات نزوع يساري تقدمي واضح، وهذا الأمر لم يكن بدعة في فترة شهدت رحيلا جماعيا للنخب المثقفة إلى اليسار واعتناقهم هذا المذهب السياسي، وبالتالي لم يشذ ماركيز عن القاعدة، بل وجد نفسه فيها، وانتصر لقيم اليسار المتمثلة في الدفاع عن المستضعفين في الأرض، وهاجم النظم الديكتاتورية كما في رواية ‘خريف البطريرك’، ولكن مع كل شيء لا يمكننا الجزم بانعكاس هذا التوجه اليساري، كتوجه أساسي سياسي، لغابرييل غارسيا ماركيز في مجمل إبداعاته الكبرى، لقد ظل ماركيز وفيا لشخص الكاتب في نفسه، ..لم يدفع موهبته، أو يسخرها لأجل خدمة هدف أيديولوجي معين، ولعل هذا من أحد أكبر أسباب نجاح ماركيز الكاتب كروائي وقصاص. عكس بعض الكتاب الكبار جدا الذين سخروا مواهبهم الإبداعية لأجل أهداف سياسوية معينة، أو للانتصار لأطروحات فكرية بعينها، وبالنتيجة يصبح كل ذلك ثقلا على الإبداع وينقص من وهجه وقوته، وهو الأمر الذي تفاداه غابرييل غارسيا ماركيز بمهارة، وكان وفاؤه فقط للإبداع لا غير، وهذا الأمر هو الذي كفل له النجاح العظيم والأسطوري أيضا. ورغم أن جيرالد مارتن يقول: ‘ولكن بالرغم من نجاحه الأدبي والمالي المذهل، فقد ظل طوال حياته رجلا من رجالات اليسار التقدمي، ومدافعا عن القضايا العادلة، ومؤسسا لمشاريع إيجابية من ضمنها تأسيس معاهد مؤثرة في الصحافة والسينما، وفي الوقت نفسه، فإن صداقته وثيقة العرى بالزعيم السياسي فيدل كاسترو كانت دوما مثار جدال ونقد إبان السنوات الثلاثين المنصرمة’
في قراءة سريعة لهذه الفقرة سنجد أن علاقة غابرييل غارسيا ماركيز باليسار، اختصرها جيرالد مارتن في بضعة جمل، وبحقيقة واضحة تماما ‘فقد ظل ـ ماركيز ـ طوال حياته رجلا من رجالات اليسار التقدمي، ومدافعا عن القضايا العادلة، ومؤسسا لمشاريع إيجابية من ضمنها تأسيس معاهد مؤثرة في الصحافة والسينما.
ماذا يمكننا أن نستخلص من هذا الكلام؟..لاشيء يستحق الذكر في الواقع، لأننا نستطيع دائما أن نسحب هذه الأوصاف على كل شخص آخر لن يكون بالضرورة استثنائيا، وليس بقيمة غابرييل غارسيا ماركيز على أية حال. وبالنتيجة فماركيز لم يكن يساريا تقدميا شرسا، ولا كرس نفسه وإبداعه لهذه الأيديولوجية، بل ونتبين بجلاء أنه لم يكن يساريا من أجل الفكرة في حد ذاتها، ولكن لمناهضة الإمبريالية والاستعمار. واليسار كان موجة جارفة، فرض نفسه على الجميع حينذاك، وركب ماركيز هو أيضا هذه الموجة بقناعة، قناعة الهدف وليست قناعة الفكرة، ولو لم يفعل لكان قد تعرض لنقد لاذع من أغلب النقاد والقراء أصحاب التوجه اليساري، ذلك التوجه الذي كان الأكثر انتشارا واستحواذا على الأفكار في ذلك الوقت، كما أننا لا يمكننا أن ننزع عن ماركيز هذا التوجه تماما، ولكننا لا نلاحظ هذا النزوع اليساري بمفهومه الحاد في أعماله الأدبية إلا قليلا. أما أن يكون صديقا جيدا للزعيم فيدل كاسترو، فهذا أمر يدخل غالبا في إعجاب غارسيا ماركيز بالكاريزما السياسية القوية لكاسترو، ولمواقفه الواضحة تجاه ما يعتبره الإمبريالية العالمية، وهذا أمر أيضا كان عليه إجماع من قبل كل الكتاب والمثقفين في العالم تقريبا. ولعلنا نستأنس هنا بالمقدمة التي كتبها مترجم نفس الكتاب لمؤلفه جيرالد مارتن إلى اللغة العربية، الدكتور محمد درويش، حيث يقول:
‘هكذا كان بوليفار وآليندي ونيرودا وفوينتس وعمر توريخوس وكورتاثار وكاسترو من الذين احتفى بهم
ـ ماركيز ـ وعزز بهم مواقفه السياسية التقدمية ومقارعة الاستعمار والإمبريالية، ونادى بالاشتراكية الديموقراطية، وإن راوده قلق شديد وهو يرى في أثناء زيارته الاتحاد السوفييتي، الاشتراكية وقد أسيء تطبيقها’
هنا نلاحظ بجلاء أن الرجل لم يكن متحمسا أشد التحمس للاشتراكية التي أُبعدت عن الفكرة التي أبدعها مؤسسوها الأوائل ومنظروها الذين جاؤوا بها لإنقاذ الفقراء من براثن استغلال الرأسمالية المتوحشة. وقد نستنتج أن ماركيز لم يكن سوى متعاطفا وفيا مع اليسار ومع أفكار اليسار النبيلة، ورحلته إلى الاتحاد السوفياتي توضح ذلك، إذ أن قلقا شديدا راوده وهو يرى الاشتراكية وقد أسيء تطبيقها، وقبل ذلك، مناداته في غير ما مرة، باشتراكية ديموقراطية، وتلك المناداة لم تكن عبثا طبعا، وربما كان ماركيز متجاوزا لزمنه السياسي بمسافات طويلة.
يواصل جيرالد مارتن في كتابه ‘سيرة حياة غارسيا ماركيز′ ويقول: ‘غارسيا ماركيز رجل ثري اليوم، فهو يملك سبعة منازل في أماكن مدهشة في خمس دول مختلفة. وفي العقود الأخيرة كان يستطيع المطالبة بمبلغ خمسين ألف دولار ـ بل ويرفضه، وهو المألوف أكثرـ لقاء مقابلة لا تتجاوز نصف ساعة. وفي وسعه أن ينشر مقالاته في أي جريدة تقريبا. وكما هو شأن شكسبير، فإن عناوين مؤلفاته تظهر بأسلوب شبحي في العناوين الرئيسية للصحف في جميع أرجاء المعمورة (مئة ساعة من العزلة، يوميات كارثة معلنة، خريف الديكتاتور، الحب في زمن المال). وفي فقرة أخرى يضيف جيرالد مارتن في المقدمة: ‘ولقد أجبر على مواجهة مستوى مدهش من الشهرة وتحمله على مدى نصف سني عمره. وسعى الأثرياء والمشاهير وأصحاب السلطةـ مثل فرانسوا ميتيران، وفيليب غونثاليث، وبيل كلينتون، ومعظم رؤساء جمهوريتي كولومبيا والمكسيك، وغيرهم من المشاهيرـ لنيل حظوته وكسب صداقته’.
هذا هو إذن غابرييل غارسيا ماركيز، من شاب معوز فقير، حاول ذات مرة، وفي أولى تجاربه نشر رواية بعنوان ‘عاصفة الأوراق’، المخطوطة التي بعث بها إلى دار نشر لوسادا في بوينس ايريس، غير أنه تلقى ردا مدمرا من مدير الدار ينصحه فيها بأن يبحث له عن حرفة أكثر جدوى. ثم اضطراره في موقف آخر لإرسال نصف مخطوطة رواية ‘مئة عام من العزلة’ إلى الناشر في الأرجنتين، نصف المخطوطة فقط، لا لشيء إلا لأنه لا يملك ما يكفي من المال ليرسل الرواية كاملة، أما النصف الثاني من المخطوطة فقد أرسله لاحقا بعد أن رهنت زوجته ميرثيدث المسخنة الكهربائية، ومجفف الشعر والمفرمة الكهربائية. إلى جانب ذلك الموقف الأليم جدا حين اضطر ذات يوم لكي يبحث في القمامة عن أكل يسد به رمقه. ولكن الموقف الأكثر ألما هو ذاك الذي وجد فيه ماركيز نفسه يعتذر لطفله الرضيع بشدة لأنه لا يتوفر على مال لكي يشتري له حليبا ليشربه قبل أن ينام جائعا.
ولكن، في الأخير، أصبح غابرييل غارسيا ماركيز رجلا ثرياـ كما يخبرنا جيرالد مارتن ـ فهو يملك سبعة منازل في أماكن مدهشة في خمس دول مختلفة. وفي العقود الأخيرة كان يستطيع المطالبة بمبلغ خمسين ألف دولار (بل ويرفضه، وهو المألوف أكثر) لقاء مقابلة لا تتجاوز نصف ساعة.
‘قصاص، حسنا، طالما كان كذابا منذ طفولته’ يحق، بفخر، لوالد غابرييل غارسيا ماركيز أن يردد العبارة بمدلولاتها المختلفة، الواضح منها والمستتر، لو بقي على قيد الحياة.
(1 ) كتاب صدر عن الدار العربية للعلوم ناشرون، ترجمة د. محمد درويش

*كاتب مغربي مقيم في هولندا


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة