الأحد 2024-12-15 01:05 ص
 

‘غريب النهر’ لجمال ناجي والشتات الفلسطيني

01:24 م

الوكيل - على الرغم من الاتصال الذي تقيمه رواية ‘غريب النهر’ الصادرة عام 2012 عن الدار العربية للعلوم مع روايات جمال ناجي السابقة من الناحية البنائية إلا أن هذه الرواية تنفرد بسمة بنيوية تضاف إلى تلك السمات التي اتسمت بها روايات جمال ناجي السابقة، وتتمثل هذه السمة في اتجاه الرواية إلى الترميز الذي جاء متناسبا مع البناء الأقرب إلى البناء المتماسك في الرواية، حيث لم يُخرج الرواية إلى حيز الرمزية الخالصة.اضافة اعلان

من المشاهد الوصفية التي تطالع القارئ عند الشروع في قراءة ‘غريب النهر’ مشهد غرفة الضيوف في بيت إسماعيل أبو حلّة حيث تواجه الناظر في الغرفة ‘صور قديمة غير ملونة لبعض أفراد العائلة معلقة على الجدران، ثم نبتة كاوتشوك معمرة تحيط برقعة خشبية مؤطرة بعرض باع، تتضمن ما يعرف ب’نص الإنطاء’ الذي يثبت تاريخ العائلة، مكتوبا بالخط النسخي العريض، فيما تمتد أوراق تلك النبتة الخضراء لتغطي الواجهة المتقشرة المحيطة بنص الإنطاء’ .
يشير ‘نص الإنطاء’ الذي أحاطت به نبتة الكاوتشوك القوية إلى جذور العائلة التي ينتمي إليها إسماعيل أبو حلة. ونص الإنطاء هو النص الذي أقطع من خلاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لتميم الداري وذويه مدينة الخليل حين أعلنوا إسلامهم قبل وصول الإسلام إلى فلسطين، حيث يعود نسب آل أبو حلّة إلى تميم الداري، وقد انتقل هؤلاء إلى قرية العباسية اليافاوية عندما نشبت فتنة في الخليل بين العائلات التميمية والكردية في القرن الثاني الهجري.
يمثل نص الإنطاء الذي يحفظه إسماعيل أبو حلة عن ظهر قلب طبيعة الرابطة التي تربطه بفلسطين، فهي رابطة تحمل شكلا من أشكال القداسة النابعة من الضمير الديني، حيث تتصل هذه القداسة بمجد العائلة الي ترتبط في سلالتها بواحد من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك ما يُدخل الرابطة العائلية فيما بينها إضافة إلى ارتباط هذه العائلة بالأرض إلى حيز القداسة.
لم يتوقف مجد عائلة أبو حلة على جذورها التي تربطها بالأرض، بل تحقق رصيدها من خلال الظروف التاريخية التي مرت بهم وبالشعب الفلسطيني منذ تهجيره القسري، فقد استشهد حمدان أخو إسماعيل أبو حلة في معركة الكرامة، وصار يشار إليه على أنه شهيد العائلة، وكأن الرواية تبني بذلك مقومات نابعة من الظرف التاريخي يتحقق بها مجد العائلة، ذلك المجد الذي تحقق باقتطاع الأرض للعائلة ثم بالتضحية التي تقدمها العائلة من أجل استرجاع الأرض.
لجأ إسماعيل إلى الأردن إبان نكبة فلسطين، واستطاع أن يبني نفسه من جديد إذ اشترى ستين دونما في الغور على بعد سبعمئة متر إلى الشرق من نهر الأردن في مقابل ‘بطاقة الإعاشة الخاصة به وبأسرته التي صرفتها له وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين’، وقد استطاع أن يصل إلى حل فيما يتعلق بأزمة استقراره، فالعباسية ‘لن تطير ولن تختفي، وما بيارة الغور التي سيؤسسها إلا ملكية جديدة تضاف إلى ملكياته في العباسية عند عودته إليها’ .
ركزت ‘غريب النهر’ على الشخصيات التي ارتبطت بإسماعيل أبو حلة، حيث جسدت هذه الشخصيات الشتات الفلسطيني بعد الاحتلال، فأخوات إسماعيل أبوحلة التسع توزعن بين مخيم البقعة ومخيمات لبنان وسوريا، وأبناؤه لم ينجوا من أثر الشتات، فقد أقام شعبان في عمان، وعبد الرزاق لم يستقر في مكان محدد إثر ارتباطه باستثمارات منظمة التحرير في عدد من الدول، أما ابنه جهاد فقد استقر به المسكن في الضفة الغربية بعد ارتباطه بالجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.
لم تأت الأحداث التي شكلت الحكاية الأولى في الرواية من خلال واحدة من هذه الشخصيات المعروفة لإسماعيل أبو حلة، بل جاءت من شخصية بعيدة لم تخطر في ذهنه، ولم يتعرف بها سابقا، فقد استهلت الرواية بقدوم شخصية غريبة إلى بيت إسماعيل أبو حلة تبين فيما بعد أنها شخصية ابن أخي إسماعيل مصطفى أبو حلة الذي فقد في الحرب العالمية الأولى بعد التحاقه بالجيش التركي، وانتشرت عنه شائعة بأنه توفي في إحدى معاركها، غير أن مصطفى أبو حلة نجا من هذه المعركة وانتقل إلى تركيا حيث تجنس بالجنسية التركية، وتزوج من شقيقة الأمباشي طلعت آتاش الذي كان رئيسه في الجيش التركي.
التقى عبد الرزاق على الحدود البلغارية التركية بيلماز ابن مصطفى أبو حلة الذي كان ضابطا على الحدود، فعرف أنه ابن عمه، وعرّفه على أخيه شوكت، حيث ارتبط معه بمشروع مصنع ألبسة قرب استانبول يشرف عليه شوكت برأسمال من منظمة التحرير الفلسطينية، غير أن العلاقة لم تقف عند هذا الحد، فقد حضر شوكت إلى الأردن عند إسماعيل أبو حلة ومعه خارطة حصل عليها من خاله طلعت آتاش بحضور أبيه مصطفى أبو حلة الذي طلب ألا يخبر أحدا أنه ما زال على قيد الحياة.
رسم طلعت آتاش هذه الخارطة بعد أن دفن صندوقا يعود إلى الضابط أوغور سرهان الذي مات في الحرب العالمية الأولى بعد أن جمع عددا من التحف، فأخذ طلعت صندوق التحف ودفنه بموقع في المفرق، ورسم تلك الخارطة التي تشير إلى موقعه.
استطاع شوكت بمساعدة إسماعيل أبو حله وابنيه شعبان وعبد الرزاق أن يعثر على الصندوق الذي وجد فيه عددا من النفائس بالإضافة إلى خريطة أخرى تشير إلى دفينة أخرى في أريحا، وقد تمكن شوكت بمساعدة ابن عمه جهاد المقيم في الضفة الغربية من الوصول إلى تلك الدفينة، حيث تمكن من استخراجها، غير أنه وجد في هذه الدفينة أيضا خريطة تشير إلى دفينة أخرى في العباسية في المنطقة التي احتلت عام 1948 وقد حاول شوكت أن يصل إلى هذه الدفينة، إذ دخل إلى الكيان الصهيوني بجنسيته التركية في حين رفض إسماعيل أبو حلة ذلك بحكم ضرورة عدم التعامل مع المحتل.
لم يجد شوكت أثرا للعباسية التي وصفها له أبوه، ولم يستطع بطبيعة الحال أن يصل إلى الدفينة، فقد اختفت قرية العباسية، وحلت محلها البنايات والشوارع الحديثة إضافة إلى مطار ‘بن غوريون’. ولا يخفى الملمح الرمزي في ترتيب أماكن الدفائن التي تشير إلى تراث المنطقة والمراحل التاريخية التي مرت بها، فقد حاول الكيان الصهيوني جعل فلسطين المحتلة مكانا منقطعا عن معناه الذي تكون فيه خلال المراحل التاريخية التي مرّ بها إذ غيّر ملامح المكان محاولا إبعاده عن جذوره.
لم يتوقف مسار المكان نحو العباسية في ‘غريب النهر’ على ما قادت إليه الدفائن التي بحثت عنها شخصيات الرواية، بل قادت وفاة مصطفى أبو حلة إلى العباسيّة مرة أخرى بعد عودة شوكت من الكيان الصهيوني إلى الأردن، إذ أوصى مصطفى أبو حلّة قبل وفاته بدفنه في العباسية. وقد بذل كل من أفراد العائلة جهوده من أجل دفنه هناك دون جدوى، فقد رفض الكيان الصهيوني ذلك رفضا قاطعا، واستقر الأمر على دفنه في الغور، غير أن رأي خلود؛ البنت الصغرى لإسماعيل أبو حلّة قاد إلى دفنه خلسة غربي نهر الأردن في ليلة ممطرة.
بدفن مصطفى أبو حلة غربي النهر اتسع مفهوم المكان المتمثل بالعباسية، فالعباسية هي فلسطين، ومشاعر الواجب التي كان يشعر بها أبناء العباسية تجاهها يشعرون بها تجاه فلسطين كلها. وبعد دفن مصطفى أبو حلة غربي النهر رسمت خلود الابنة النابهة لإسماعيل أبو حلة خارطة تشير فيها إلى مكان دفن عمها مصطفى، لتنغلق الرواية على رسم هذه الخارطة. ولتتحقق بذلك دلالة عنوان الرواية الذي يشير إلى ذلك الغريب الذي دفن عند النهر دون أن يمنع ذلك إشارة العنوان إلى إسماعيل أبو حلة الذي سكن على مقربة من النهر منذ نكبة فلسطين.
لم يؤدّ الشتات الفلسطيني الذي بدأ منذ النكبة إلى تحقيق معنى الشتات الاجتماعي والإنساني، فالروابط التي تجمع العائلات الفلسطينية منذ تهجيرها ما زالت قائمة على الرغم من الظروف التي تؤثر بكل فرد على حدة، أما الرابطة التي تجمع الفلسطينيين في كل مكان، فهي تلك البوصلة التي تشير دائما إلى فلسطين بكل ما تحمله من معان إنسانية ودينية وروحية.
جاءت رواية ‘غريب النهر’ من خلال استرجاعات تمتد من تسعينيات القرن الماضي إلى أوائله، فالحكاية الأولى من الرواية تمتد في أيام معدودة منذ أن دخل شوكت بيارة إسماعيل أبو حلة في الغور إلى الحدث المتمثل بموت مصطفى أبو حلة في تركيا ومحاولات دفنه في العباسية، وقد تخللت هذه الحكاية استرجاعات عديدة تتعلق بشخصيات متعددة في الرواية، ولا سيما شخصيتا إسماعيل أبو حلة وأخوه مصطفى أبوحلة.
وعلى الرغم من هذا التوجه الجديد في بناء الرواية من ناحية الزمن عند جمال ناجي إلا أنه ما زال يحافظ على الشكل الواقعي، فالشخصيات تميل إلى النمذجة الواقعية إذ يرسم ملامحها بما يقربها من الواقع ويجعلها مألوفة لدى المتلقي، وهو أسلوب يتبعه جمال ناجي في رواياته بصورة عامة، إذ يجعل بعض شخصيات رواياته تتسم بسمة فريدة تميزها، فشخصية إسماعيل أبو حلة كثيرا ما تخلط بين الحلم والواقع، وشخصية شعبان تحس دائما أنها مظلومة وأن هناك قوى خفية تتقصدها، وهذا ما يذكرنا مثلا بشخصية عزمي في ‘عندما تشيخ الذئاب’ التي كانت تخاف الأماكن الشاهقة الارتفاع. وشخصية سلمان في ‘مخلفات الزوابع الأخيرة’ التي تقيم حاجزا بينها وبين الناس فتحافظ على نظرة ثابتة في العينين تحقق لها مكانة بين الآخرين.
وقد برزت المعتقدات الشعبية للمجتمع الفلسطيني في ‘غريب النهر’، كالتطيّر من بعض المظاهر في تشكيل البيت، وتأويل الأحلام، أما الاعتقاد بشهور الموت فقد كان معتقدا خاصا بعائلة أبو حلة بنته من خلال تجاربها مع حالات الموت في العائلة التي اعتادت أن تفقد أبناء لها في شهور معينة من السنة. وإن كانت المعتقدات الشعبية قد برزت في بعض روايات ناجي الأخرى كرواية ‘مخلفات الزوابع الأخيرة’ التي حاولت أن تقارن بين عادات الفلاحين وعادات الغجر كما أدت هذه المعتقدات في تلك الرواية وظيفة بنيوية تتعلق بالحدث إلا أنها هنا تأخذ بعدا آخر، فهي تعبر عن احتفاظ المجتمع الفلسطيني ببنيته التقليدية التي لم تذب على الرغم من التهجير.

الهوامش

1 ـ جمال ناجي: غريب النهر، بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 2012، ص8.
2 ـ المرجع نفسه، ص45.
3 ـ المرجع نفسه، ص 45.
4 ـ انظر: المرجع نفسه، ص 187.
5 ـ انظر: المرجع نفسه، ص26، و ص160
6 ـ انظر: المرجع نفسه، ص 47.
7 ـ انظر مثلا: المرجع نفسه، ص 13.
8 ـ انظر: شفيق طه النوباني: عمان في الرواية العربية في الاردن، عمان، دار ورد الاردنية للنشر والتوزيع، 2013، ص 165 ـ 168.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة