الجمعة 2024-12-13 11:58 م
 

قراءة في مجموعة ‘منذ تلك الحياة’

02:23 م

الوكيل - كان أول ظهور أدبي للكاتبة المغربية لطيفة باقا عام 1992 عندما فازت بجائزة اتحاد كتاب المغرب للأدباء الشباب، عن مجموعتها القصصية ‘ما الذي نفعله؟’. اضافة اعلان

ومنذ هذه المجموعة وهي تجترح، في لعبة الحكي الجميل، قيما جمالية وإنسانية، وقد بلغت في مجموعتها القصصية الثانية ‘منذ تلك الحياة’مرحلة متقدمة من الوعي بقضايا الإنسان ومشاكله وهمومه والتحديات التي تعترضه في سبيل البلوغ إلى مجتمع راق جماليا وإنسانيا. إذن، يحق لنا أن نتساءل الآن بصدد الحديث عن هذه المجموعة الثانية: ما هي القيم الجمالية والإنسانية التي تسري في تضاعيف قصصها التسع؟ ما الذي تضيفه هذه المجموعة في سياق الأدب النسائي المغربي والعربي؟ هل ثمة في المجوعة ما ينم عن الإبداعية والجمالية؟ هذه أسئلة صرحنا بها وأخرى استضمرناها سنحاول أن نجيب عليها في ما يأتي….
أولا: القيم الجمالية
1ـ التجديد والتحديث
أول ما يلفت النظر في كتابة لطيفة باقا القصصية أنها تنزع إلى التجديد والتحديث، إذ هي تبتكر في كل قصة طريقة حديثة من طرائق الحكي الحداثية المتعددة منها استخدام ضمير المتكلم (الأنا الساردة) بكثرة ـ إيهاما بصدق المحكي وكأنه سيرة وليس قصةـ هذا ما تبدأ به مجموعة ‘منذ تلك الحياة’ في القصة الأولى المسماة (آيلات إلى الخيبة) تبدأ هذه القصة بالجملة الحكائية التالية: ‘استوقفتني المرأة لتخبرني أن زهيرة جنت’ (ص 5) ثم يتوالى السرد متدفقا بضمير الأنا ، مزدانا بآليات الصنعة الحكائية الحداثية، حيث المزج بين الحاضر والماضي يتم في توليفة سردية وكأنه سدى لحمة واحدة.
وهذه الطريقة الحكائية الحداثية تتكرر في القصص الموالية كلها، وكمثال على ذلك نجتزئ هذه البداية من القصة الثانية المسماة: (لأن الوجود كان أضيق من يتسع لروحها..) نقرأ في بداية هذه القصة : ‘كنت أعتقد، إذن، أنني أبدأ بالضبط من حيث ينتهي العالم… كنت أنتظر كما يمكن لقطرة ماء أن تنتظر داخل حذاء مبلل في ليلة باردة.’ (ص 19).بعد ذلك تتوالى أحداث القصة في ست فقرات تبدأ كل واحدة منها بفعل (أتذكر)ـ هذا الفعل الذي يمنح للقصة قوتها المدهشة على تأثيت عوالم المحكي وربطها بعضها ببعض لتصب في سياق واحد هو معاناة المرأة الساردة، التي تقول في صلب هذه القصة: ‘لقد حدثت هنا ..حياتي..هنا في هذا العالم. سأكبتها. إذن داخل علب الثقاب الكثيرة التي أحتفظ بها ـ لهذه الغاية بالذات ـ في خزانة المطبخ ..’(ص 21). لم يعد شأن المرأة إذن المعاناة المقرونة بالصمت والألم، بل أضحت المرأة منخرطة في عصرها، تكتب عن حياتها، وهي إذ تفعل ذلك تتوسل التجديد والتحديث بكل آلياتهما المعروفة من تطويع للغة الحكي وجعلها حيوية متدفقة منسابة، تتدفق وتنساب على إثرها الأحداث والوقائع، وتصبح الحياة المحكي عنها حيوية جذابة مفعمة بالتشويق والإثارة.
2ـ المحاكاة والتخييل
من القيم الجمالية اللافتة في مجموعة لطيفة باقا ‘منذ تلك الحياة’ قيمة (المحاكاة والتخييل) ونعني بالمحاكاة هذا المسعى الدؤوب الذي تنهجه الكاتبة في تصوير واقع الحياة الإنسانية من حولها، وهي في تصويرها تتكئ على آلية المحاكاة ـ التي لا تعني نقل الواقع نقلا فوتوغرافيا كما يمكن أن يذهب إلى ذلك ظن القارئ ـ وإنما هي تضخ في هذه المحاكاة القصصية ـ التخييل الذي يجعل الواقع المحاكى جديدا بالنظر إلى ما بثه التخييل فيه من حيوية وعرامة واحتشاد بالحياة الكائنة والممكنة، للتمثيل على ما نذهب إليه هنا، نقتطف هذا المقطع الحكائي من قصة (زازيا): ‘زازيا تنتظر.. لا تزال تنتظر الحب الجامح المتوهج الذي سيتدفق في شرايين كيانها فيقوضه تماما لتبعث من جديد..أنا أفهمها من خلال هذا الحزن المترامي كبحيرة زرقاء صافية يزورها الوحيدون عندما يدركون أنهم وحيدون جدا..’أعرفك من خلال صمتك .. من خلال الصخب الذي يزرعه هذا الصمت في جسدي’ .. أخبرت ذات حلم رجلا كتوما كنت قد صادفته..وأحببته خلال نفس الحلم.. ثم كتبت له رسالة طويلة عندما استيقظت (..هل ستصله؟). ‘ (ص ص 30/31). إن محاكاة الواقع برصد تفاصيل مجانينه وعقلائه، فقرائه وأغنيائه لا يعني عند لطيفة باقا استعادة هذا الواقع كما هو والتسليم بما فيه بل إنها تسعى سعيا دؤوبا إلى شحن هذا الواقع بما ينبغي أن يكون عليه، ويتحقق عندها هذ ا باتكائها على التخييل لما ينطوي عليه التخييل من حرية في الحكي والكتابة للحظة الراهنة وللمستقبل…
3ـ التساوق الحكائي
هذه القيمة الجمالية، التي أسميناها بالتساوق الحكائي تجد مظهرها البارز في العلاقات القائمة بين الأحداث المروية وطرائق اشتغال المكونات الحكائية التي تجسدها، إذ أن أن التساوق الحكائي يطفح في القصص التسع كلها، وهذا يعني أن القاصة المغربية لطيفة باقا التي انتظرت ثلاثة عشر سنة لتصدر مجموعتها الثانية هاته، قد أفادها هذا الانتظار في التمكن من آليات الكتابة القصصية ومهاراتها الجمالية.
إن قصة (البرد) ـ وهي الرابعة في ترتيب قصص مجموعة منذ تلك الحياة ـ كتبت بطريقة الشذرات وحين ننظر إليها نظرة (برانية) تبدو وكأنها مقتطفات من يوميات كتبت (هنا وهناك) لكن التأمل الدقيق يرينا أن هذه الشذرات تتصل بعرى وثيقة فيما بينها وأنها تعطينا صورة صادقة لتشظي الحياة الاجتماعية وتفككها وانفراط عقدها، وأن القاصة لطيفة باقا عندما تقول ذلك في قصتها إنما تقوله لنعيد النظر في حياتنا وعلاقتنا بعضنا ببعض.
4ـ الانسجام والتناغم
من بين أكثر ما ألح عليه علماء الجمال،في حديثهم عن الأعمال الفنية والأدبية،ضرورة توافر الانسجام والتناغم،أو ما كانوا يسمونه(الهارموني)،ويكون الانسجام في القصة القصيرة،عندما يصبح صعبا على القارئ حذف فقرة أو مشهد أو حتى كلمة من مكانها،إذ ذاك نكون إزاء(هارمونيا)في العمل الأدبي القصصي،وهذ جلي في قصص مجموعة منذ تلك الحياة للطيفة باقا.إن قصة(البرد)ـالآنفة الذكرـتجلو ما نقول بوضوح،فرغم التناوب الحكائي على مستويي الضمير والشخصية:(هي ـضمير الغائب،هوـالغائب)(المرأةـالرجل)فإن الهارمونيا جلية بشكل سلس دقيق،لأن القصة تصور في نهاية المطاف الحياة الإنسانية الصعبة لكل من المرأة والرجل.وسأجتزئ الورقة الأولى من هذه القصة القائمة على تقنية الشذرية:’كانت وحدها وكان ينبغي أن تتذكر ما حدث للطائر البطرسي في قصيدة بودلير.
””””””’
نظر إلى نبتة’الدالية’العريقة وهي تتسلق جدار غرفته بإصرار..ولم يعرف كيف يفرح.
”””””””’
سمعت صوت الستارة وهي تنسحب من النافذة ومرة واحدة اكتسحت الحياة المقرفة غرفتها الصغيرة.
””””””
أنصت قليلا إلى صداعه الصباحي المعتاد قبل أن يعدي نفسه مرة أخرى بكون الأرق بذخا لا يصيب سوى الأحياء.
””””””’(ص51)
إن التناوب الحكائي واضح هنا في الحديث مرة عن المرأة ومرة عن الرجل،لكن ما يجمع الحكي عنهما هو معاناتهما من الوحدة والأرق.وعلى هذه الشاكلة أو الطريقة تتلاحم شذرات هذه القصة وتتضافر مشكلة في النهاية هارمونيا،منسجمة متناغمة،تصور المعاناة الإنسانية المعاصرة،وفي هذا سر جاذبية الأدب،وهنا تكمن وظيفته في التأثير والتغيير…وظيفته في ترسيخ القيم الإنسانية السامية.
ثانيا:القيم الإنسانية
إن ما يسعى إليه الأدب،تسعى إليه القصة القصيرة في ترسيخ القيم الإنسانية الرفيعة وفي البحث عن قيم بديلة لقيم قديمة أصابها البلى أو لم تعد مسايرة لتطور الحياة في المجتمع المعاصر،يبدو هذا واضحا في مجموعة لطيفة باقا(منذ تلك الحياة)،فهذه المجموعة القصصية مفعمة بالقيم الإنسانية الخالدة الراسخة في الحياة الإنسانية،كما أنها تنطوي على قيم جديدة بديلة تنحو إلى التأسيس لأفضل العوالم الممكنة في الحياة الإنسانية.


1ـقيمة الكشف
إن أول ما يظهر من علامات القيم الإنسانية الثاوية في مجموعة (منذ تلك الحياة)،قيمة الكشف.فالقاصة لطيفة باقا تستثمر كل سانحة تسنح لها في الكشف عما يمور في الحياة الإنسانية المعاصرة من قيم،ومن بين ما يطالعنا من ذلك الصورة الشائهة للحياة في مدينة بيروت،الناجمة عن دمار الحرب الأهلية التي عانت المدينة من آفاتها مدة غير قصيرة:’إنهم يلتقطون الصور أمام الدمار..يطلبون من المصور أن يتريث قليلا حتى ينجحوا في رسم’التكشيرات’المناسبة وخلفهم تسقط المدينة..’هذه المدينة تسقط لتحاكي البشر في سقوطهم’فكر أكثرنا رومانسية.ورغم ذلك يظل الأطفال على موقفهم:إنهم يرفضون أكل البوظة.تبرق في رأس أحدنا فكرة مفادها أن الحرب انتزعت من أفواهههم طعم اللبن السخي الذي كانت تجود به أثداء أمهاتهم.وعندما نسألهم عن أسمائهم يخفضون رؤوسهم ولا يجيبون..’(من قصة(أطفال أقل).ص61).إن بداية القصة هاته تكشف بوضوح مثال الحياة في مدينة بيروت المدمرة،والمعاناة التي يعانيها الأطفال في العيش هناك،والكشف عن حقيقة حياة الأطفال في أتون المدينة المدمرة،يحمل أكثر من معنى،لأن الأطفال هم استمرارية الحياة،وما دامت الحياة التي يحيونها شائهة،فإنها ستبقى حياة أقل من الحياة المتعارف عليها،ولذلك لا غرو أن يكونوا أطفالا أقل كما جاء في عنوان القصة، وبهذه العين اللاقطة يستمر الكشف الحاد في القصة،فنجد في مقطع آخر من القصة’يفكرنا أحدنا أن الطفلة تحاول أن تتحدث لهجة مفهومة للغرباء ويفكر آخر أن الفقر والحرب والكبرياء ظواهر عربية’(قصة أطفال أقل،ص63).فهذه الرغبة المستبدة بالقاصة في جعل قصتها تكشف حقيقة الحياة في الحرب ومأساتها وخلفياتها الحادة الشائهة..كل ذلك يتم بفضل قيمة الكشف،هذه القيمة التي تكتسي في الأدب درجة رفيعة،خاصة عند المبدعة التي جعلت قلمها في خدمة الحقيقة وفي خدمة الحياة،بمعنى جعلت أدبها كشفا إنسانيا للحقيقة بكل ما يتلبسها من غموض وما يعتورها من آفات وأخطار تهدد الحياة في صميمها.إن الكشف وسيلة ناجعة لجعل الحياة أبهى في أعيننا وأجدر بالبقاء جدارتنا بالاستمرار في الوجود على أفضل حال.


2ـقيمة البوح
إذا كان الكشف ينطوي على رؤية موضوعية للأشياء والكائنات والعالم،فإن البوح ينبع أساسا من ذاتية الرؤية،وقيمته أساسا تكمن في هذه الذاتية،إذ البوح تعبير صريح عما تنطوي عليه الذات من حميمية في الرؤى واشتعال في رغبة التعبير.والبوح عادة ما يرتبط بما هو سيرـذاتي،لكننا وجدنا البوح في قصص لطيفة باقا المندرجة في مجموعة(منذ تلك الحياة)في كل قصة من القصص التسع المكونة لهذه المجموعة،وهذا يعني أن حياة الكاتبة تنسرب في تضاعيف قصصها،سواء كانت هذه الحياة مما عاشته واقعيا وفعليا بذاتها وكيانها،أو مما عايشته مشاهدة ومتابعة ومواكبة لما يجري حولها هنا وهناك،لذلك ينبغي عدم فهم البوح باعتباره تعبيرا عن حياة الكاتبةـحياتها الذاتية الحميمة فقط،فهي عندما تعبر عن معاناة الناس وتصل في هذا التعبير إلى درجة التماهي،تكون بصدد البوح عما يعتمل في ذاتيتها من مشاعر الآلام والآمال في حياة أفضل يستحقها الإنسان على هذه الأرض،ففي هذه الأرض التي نحيا فيها ما يستحق الحياة.ففي قصتها عن الحرب ودمارها في بيروت المسماة(أطفال أقل)تقول الساردة:’الطفل يريد أن يستغفلني.أكتشف في عينيه شيئا عميقا..كأنه حزني..أو بكائي السري،فأسأل شخصا غير مرئي:
ـلماذا لا نمارس البكاء كما نمارس النسيان؟’(ص62).إن الساردة هنا تبوح برغبتها في البكاء لما عاينته من عمق حزين في عيني الطفل البيروتي،وهذه الرغبة في البكاء بوح صريح،فيه من الذاتية ما يقربه من درجة الاشتعال الصوفي في الوجد والمعاناة.وعلى شاكلة هذا البوح- ذي القيمة الإنسانية العاليةـ يتم تكثيف الرؤية للعالم الذي ترغب فيه الذات:عالم الحرية والعدل والمساواة..
3ـقيمة الحرية
اتخذت الحرية في الكتابة القصصية العربية الحديثة والمعاصرة أشكالا وألوانا من التجلي تبعا للمرحلة التاريخية والحضارية،التي كتبت في إطارها هذه الكتابة القصصية،فعندما كان العالم العربي رازحا تحت نير وثقل الاستعمار،كانت الحرية في الكتابة القصصية العربية دعوة وتحريضا على التحرر من هذا الاستعمار الغاشم ومن جبروته وطغيانه،لكن بعد تحقق الاستقلال اتخذت الحرية أشكالا جديدة وانتقلت من الصراع بين النحن وبين الآخر إلى صراع النحن مع النحن،بمعنى صراع الذات مع ذاتها،من مثل مقاومة التقاليد المقيدة لحرية الانطلاق والتطوروالتقدم والاستقلال الحقيقي في تحقيق المنشود والمعقود من الآمال منذ آماد طويلة.
تكتسي قصص لطيفة باقا في مجموعة(منذ تلك الحياة)أهمية خاصة في بلورتها للمفهوم الجديد للحرية،الذي لا ينصب على حرية الأنثى وتوقها العام في التخلص من الطوق الذي يلفها،بل تجاوز الأمر ذلك إلى ما هو أبعد وهو تكسير الطوق عن الإنسان فيما يحد انطلاقته المحتشدة بعرامة الحياة وقوتها وعنفوانها،ولذلك نجد في تضاعيف قصص مجموعة لطيفة باقا تجليات عديدة لمفهوم الحرية باعتباره قيمة نبيلة غالية من القيم الإنسانية الرفيعة،فالمرأة تحتاج إلى الحرية بالمقدار الذي يحتاج إليها الرجل وكلاهما ينبغي أن يتعاونا وتتضافرا جهودهما للاستمتاع بالحرية وعيش مباهجها اللامحدودة.إن مباهج الحرية هي مباهج الحياة التي ينشدها أبطال قصص مجموعة(منذ تلك الحياة)،أي منذ تلك الطفولة الضائعة المغتصبة،منذ تلك الحياة إلى الحياة الجديدة يمتد شريط الذكريات بتدفق وحرية غير مشروطة..حرية يهواها أبطال القصص ويتماهون معها ليعيشوها ويحيوها وكأنهم يولدون من جديد أو كأنهم يؤسسون حياتهم الجديدة:حياة الحرية،وهكذا تكون الحرية من القيم الإنسانية التي يتمسك بها شخوص قصص هذه المجموعة بكاملها.
4ـقيمة البحث عن مجتمع أفضل:مجتمع المستقبل
إن كل قصة من القصص التسع المكونة لمجموعة(منذ تلك الحياة)تكشف عن رؤية جديدة لمجتمع أفضل وحياة أجدر بكفاح الشخوص وتطلعاتهم الحالمة إلى مستقبل أجمل،ويمكن_على سبيل التمثيل_اتخاذ قصة(النار تأكل أوراق اللعب)نموذجا لهذه الحياة الأفضل التي يحلم بها الشخوص الفاعلون الكادحون،تقول الساردة(الشخصية الدينامية الفاعلة)في قصة (النار تأكل أوراق اللعب)متحدثة عن الآخرين،وعن أحلامها الذاتية:’السعودي ليس سوى ‘عبيس′ نادل المقهى الأعرج الذي قطعت رجله منذ سنتين بسبب تعفنها..لقد فاز في ‘التيرسي’ستة عشر مليون..لو كنت أنا التي فزت بهذه الأموال لكنت اشتريت بيتا ودراجة نارية نمتطيها أنا ومحمد إلى المعمل..وصحبت صفية إلى طبيب الأذن بالدار البيضاء لو كنت مكان هذا السعودي الزائف لركلت حياتي الجرباء هذه ووجودي المقرف برمته.الإنسان ينبغي أن يحلم بوجود أقل سخافة وإلا فهو حيوان أجرب يستحق إهانات صاحب الدكان وتحرشات الجيران واستخفافات المارة..أن يحلم الإنسان في حد ذاته شئ عظيم جدا..ويثير الاحترام..’(ص108)فما تقوله الساردة عن غنى الآخرين وثرائهم وتحولهم من الفقر إلى الغنى هو نوع من التوق ومن الحلم،وهذا التوق وذاك الحلم يومئان إلى حياة أخرى أفضل وأجمل بل إن إيمان الساردة بقيمة الحلم_في حد ذاته_يشكل رؤية جديدة لحياة مستقبلية منشودة،ولذلك نجد في قصص باقا هذه الأحلام والرؤى التي تتطلع إلى حياة أخرى،حياة مجتمع جديد قادم أفضل من المجتمع القائم،إنه مجتمع المستقبل الذي يعمل التخييل القصصي على تشييده تشييدا حالما،لكنه حلم ممكن،حلم فاعل،حلم قابل للتحقق ما دامت إرادة الإنسان الكامنة في حلمه كفيلة بتحقيق هذا الحلم،هذا المجتمع الجديد:مجتمع المستقبل الذي تومئ إليه قصص المجموعة كلها،وكأن القاصة بذلك لا تحكي_من أجل الحكي وحده_وإنما تحكي لتقدم رؤيتها لعالم الغد،العالم الأفضل من بين أفضل العوالم الممكنة،وكل العوالم التي نحلم بها عوالم ممكنة….
تركيب
تثوي في مجموعة(منذ تلك الحياة)القصصية للطيفة باقا قيم جمالية وإنسانية،تضفي على المجموعة سمات التجديد والتحديث،والمحاكاة والتخييل والتساوق الحكائي،والانسجام والتناغم وهذه قيم جمالية ترتفع بالمجموعة إلى قمة الإبداعية القصصية،وتجعل قارئ القصص التسع المكونة للمجموعة يخرج بانطباع عام مفاده أن هذه الكتابة القصصية لدى لطيفة باقا كتابة تواكب الجديد في الكتابة القصصية المغربة والعربية،وبمواكبتها هذه تكون قد حققت لنفسها ما هي جديرة به من استحقاق المجد الأدبي،خاصة وأنها قلم قصصي يتأنى في الكتابة والنشر،وتأنيه علامة قوته.
وبالموازاة مع هذه القيم الجمالية،تعمل المجموعة القصصية(منذ تلك الحياة)للطيفة باقا على نشر القيم الإنسانية،المتمثلة في الكشف_بما يعنيه الكشف من صراحة أخلاقية وتعرية جريئة_،والبوح_وهو قرين الإفصاح عما يعتلج في الذات ويكمن فيها من آمال عريضة وأحلام سعيدة_،والحرية_بما تدل عليه من توق إلى كسر القيود والحدود_والتطلع إلى مجتمع أفضل_مجتمع المستقبل..
وبذلك تتضافر القيم الجمالية والإنسانية على إكساب هذه المجموعة القصصية قوتها ودفقها وثراءهاالإبداعي،وهي به جديرة جدارة القاصة لطيفة باقا في الحضور اللافت في المشهد القصصي المغربي والعربي…
المصدر:لطيفة باقا:..منذ تلك الحياة(مجموعة قصصية)،الرباط،منشورات دار الأمان،الطبعة الأولى2005(127صفحة من الحجم المتوسط):كل الإحالات إلى الصفحات داخل هذه الدراسة إنما تشير إلى هذه المجموعة القصصية في هذه الطبعة.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة