الأربعاء 2024-12-11 03:27 م
 

قلة من الشعراء نجت من تلك السوق الشعرية الصاخبة بعدما خلفت وراءها نداءات الباعة!

01:47 م

الوكيل - أجرى الحوار عبد اللّطيف الوراري: ابتداءً من كتابك النقدي ‘مملكة الغجر’ (1981)، ومروراً بـ ‘دماء القصيدة الحديثة’ (1988) و’في حداثة النص الشعري’ (1990) و’الشعـر والتـلـقي’ و’الـدلالـة المـرئيـة’ (2002) و’ها هي الغابة فأين الأشجار؟’، و’قبيلة من الأنهار: الذات، الآخر، النصّ’ (2007)، انتهاءً بدراسته اللمّاحة ‘من نص الأسطورة الى أسطورة النص’ (2010).اضافة اعلان

تركّز اهتمام علي جعفر العلاق النقدي والأكاديمي على دراسة الشعر وتأويله، باعتباره شاعراً عارفاً بخباياه، وباعتبار الشعر مدخلاً أو مؤشّراً حقيقيّاً على مدى الثقافة وتطوُّرها، وهو ما دعاه إلى أن يُقارِب في مجمل كتبه النقدية موضوع الحـداثة الشعرية في تجلياتها العربيــة المختلفـة، التي لا يراها مفهوماً زمنيّاً بشكل مطلق، ولا تقدُّماً خطّياً يتجه إلى الأمام دائماً، بل الحداثة في نظره لحظةٌ جماليةٌ خاصة، أو إدراكٌ جماليّ للعالم، تنصهر فيه الذات بالموضوع، والجمالي بالتاريخي، والوعي بهذيانات الروح. كما يرى العلاق أنّ ما أنجزته الحداثة الشعرية العربية كثير ومتنوع، لكنها تظل، في الغالب، اجتهادات فردية لم تفلح رغم شعريتها العالية في تغيير بوصلة التلقي كما ينبغي. وفي مجمل كتاباته الأخيرة، ينتقل العلاق من وصف الموضوعات والأساليب إلى الاهتمام أكثر بالبنيات العميقة في الشعر التي تضجّ بالاحتمالات وأجراس القاع التي تعد بشهوة اللانهائي، مثل التلقّي والتناص وكيمياء اللغة ولانهائي الذات، وهو ما يشي بأنّ خبرة الشاعر- العارف هي التي تقوده إلى هذه المنطقة الخطرة في الشعر، تلك التي تعزُّ عن الوصف وتطبع النقد بإبداعيّة القول بدلاً من أن يكون مجرّد قوْلِ ثانٍ.
في هذا الحوار نتحدّث إلى الشاعر العراقي علي جعفر العلاق عن رؤيته الخاصة بنقد الشعر وتأمُّله، وتوازنه الحذر بين فعّاليتي الشعر والنقد؛ كما نتحدث عن علاقته بجيل الستينيات، والمشهد الشعري العراقي اليوم، وقيمة تجربته الشعرية في ميزان النقد.
ما/ من الذي قاد الشاعر فيك إلى النقد؟ هل هي الحاجة إلى المعرفة، أم سياسات القصيدة نفسها، حيث تصغي وتتأمل أسرار الكتابة؟
كلاهما رُبّما، ورُبّما هاجس ثالث لم أدرك حقيقته بالضبط حينها. كل ما أتذكره، وما كنت أعيشه بعمق ولذة، أنّ كتابة القصيدة وكتابة المقالة، كلتيهما، كانتا تترافقان تقريباً. لم تكونا نشاطين متباعدين. وكان كل منهما يلبي حاجةً نفسيةً ملحة، إضافةً الى ما ينهضان به من عبء البوح أو عبء المعرفة.
ولا أنسى، هنا، أنني أجريت حواراً مع الرحل الكبير جبرا إبراهيم جبرا، في عام 1964 على ما أذكر. ثم نشرتُ في مجلة الأديب البيروتية، في السنة نفسها، مقالةً عن ديوانه ‘المدار المغلق’؛ وكانت هي المقالة الأولى التي تنشر لي في مجلّةٍ عربية.
كيف ظللتَ تحتفظ بتوازنك الخلّاق بين فعّاليتي الشعر والنقد، وكأنّهما ليسا على طرفي نقيض؟
الحفاظ على هذا التوازن لم يكن وليد وعيٍ أو تصميمٍ بطبيعة الحال. لكنه كان وليد إحساسٍ رافقني منذ البداية، هاجسٌ غامض لكنه قوي ودائم. كان كالخوف على القصيدة أو الغيرة عليها. كنت أكتب القصيدة باستغراق تام، انقطاع إلى مناخاتها المتأججة؛ وكنت، حين أدخل لحظة الكتابة، لا أترك للوعي أن يُشوّش على تلك اللحظة النادرة، ليس هناك إلاّ القليل من اليقظة، ما يكفي لإضاءة جملة، أو عبارة، أوما يكفي لإبقائي ساهراً على لغتي سهراً مشوباً بالنعاس. في لحظة الكتابة الشعرية أقطع مصدر الضوء فلا يأتيني منه إلا خفوته المشع أو عتمته المتلألئة.
أما في لحظة الكتابة النقدية فالأمر مختلف. أذهب إلى الكتابة النقدية وفي النفس بقايا من شطحات الشاعر، ومزاجه الفوار. بقايا من انتقائيته، وافتتانه باللغة. أنا، ناقداً، لا أكتب في كل شيء. لست كالناقد المحترف، جاهزاً للعمل في كل لحظة، ولا أريد أن أكون كذلك. هناك فرح داخليّ، يحركني للكتابة عن هذا الشاعر أو ذاك، وهذه القصيدة أو تلك.
وهكذا فمناخ الكتابة النقدية، عندي، لا يتم في الغالب إلاً في مناخٍ من الاحتفاء والشغف والانفعال الصافي. وأنا هنا أتحدث عن عادات الكتابة ومناخاتها الشخصية، لا عن مستوياتها الإجرائية أو ركائزها الثقافية.
وكما ترى فإن هذا المسلك النقديّ لا يضعني على تضادّ حاد مع مسلكي الشعريّ، هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى أكسبتني الممارسة الطويلة للكتابة مناعة داخلية أصون بها لغتي الشعرية من سطوة الوعي، وأحمي بها دراساتي من خطر الانطباع أو الافتقار إلى البراهين النصية.
ما رأيك في الحكم القائل بأنّ النقد الذي يكتبه الشعراء يظلُّ مختلفاً عن النقد الأكاديمي الصارم؟
دعني أضع جملـة اعتراضية هنا. قـد لا ينطبق هـذا الوصف تماماً على نقد الشعراء جميعاً، كما أنه لا يشمل بالضرورة النقد الأكاديميّ كله، لكنه يظل صحيحاً، في عمومه. هناك نقاد أكاديميون قدموا إضافاتٍ مرموقةً للنقد العربي، في مراحله المختلفة، وساهموا في تحديث نبرته، وأدواته، وتصوراته المنهجية، وكان ذلك من خلال ما كتبوه ومن خلال ما ترجموه أيضاً.
ويبدو لي أن الاختلاف الذي أشرت اليه في سؤالك متوقّعٌ تماماً، ولا بد منه. فالنقد الذي يكتبه الشعراء نقدٌ مغاير، في الغالب، للنقد الأكاديمي أو الاحترافي في جوانب كثيرة. إنّه أكثر جرأةً وأكثر مرونة. له خفة العبارة، وتحضّرها، وله يقظتها الحسّية أيضاً.
إلى ذلك فهو يضيق بما يحتفي به النقد الأكاديميّ من التزامات أحياناً. أعني الاحتفاء الفائض عن الحاجة بشكليات البحث، والولع بالنقول، والإفراط في التوثيق، والنزوع المدرسيّ. قـد يكون بعض ذلك ضروريّاً، لكنه لا يكون كذلك في حالات كثيرة.
ما الذي كنتَ تريده من الشعر عبر الذهاب-الإياب بين الممارسة والنظرية؟
كنتُ أحسُّ، ومنذ شبابي الأول ربما، أن السير في هذا الطريق، ذي الاتجاهين، قد يوفر لتجربتي، بشطريها الشعري والنقدي، ما تحتاجه من نضْجٍ ضروريٍّ، يجعلني أكثر وعياً بكتابة القصيدة، ويضمن لأدائي النقديّ تأثيراً أكبر، أعني يجعله مصدراً للمتعة أيضاً.
وكنت، من جانب آخر، كلما كتبت عن النصوص الأخرى ازددْتُ وعياً بقصيدتي الخاصة، وكان العكس صحيحاً أيضاً، فكلما نضجت قصيدتي أحسست بقدرة إضافية على معايشة نصوص الآخرين واكتشاف عوالمهم.
في كتاباتك النقدية الأخيرة، نراك انتقلتَ من وصف الموضوعات والأساليب إلى الاهتمام أكثر بالبنيات العميقة في الشعر التي تضجّ بالاحتمالات وأجراس القاع التي تعد بشهوة اللانهائي، مثل التلقّي والتناص وكيمياء اللغة ولانهائي الذات. هل بوسعنا أن نقول إنّ خبرة الشاعر- العارف هي التي تقود إلى هذه المنطقة الخطرة في الشعر، تلك التي تعزُّ عن الوصف وتطبع النقد بإبداعيّة بدلاً من أن يكون مجرد قول ثانٍ؟
لا بد من الإشارة إلى أنني، ومنذ محاولاتي النقدية الأولى، كنت أُولي شكل القصيدة وبناء الفكرة الشعرية عنايةً خاصّة. كانت كيفية القول الشعريّ لا ماهيته هي ما يستحوذ على اهتمامي كلِّه.
ومع ذلك فإنّ الوعي وتجلياته في الممارسة لا انفصال بينهما. النضج في وعي الكتابة، لديّ، لا يجد اكتماله إلاّ في نضج أدوات الإفصاح عن التجـربة. وهـذه الأدوات، بدورها، تزيد التجربة حدة وصفاء. لذلك فإنّ التحول في مستويات التعامل مع النصوص محصلة طبيعية لفائض الخبرة أولاً، وللتعالق الحاد بين الملكة الشعرية والاستعداد النقديّ في الذات الواحدة.
ونتيجة لهذا التلاحم القاسي والحميم بين هاتين الطاقتين، كان لي، أو حاولت أن يكون لي، منحاي الخاص في ما أكتب من نقد، منحىً يكون فيه النقد أدخل في باب الخلق الأدبي منه في باب العلم أو البحث الجافّ المحض. وتكون فيه اللغة النقدية على قدْرٍ عالٍ من النقاء، وترف التعبير، والبعد عن الترهُّل. وكأنها مصدر نبيل لرفاهة القول، ومجده القائم بذاته. لذلك فإن اللغة ليست مجرد وسيلةٍ للتوصيل، أوخادمة لقولٍ أوّل أرفع منزلة منها، بل هي جزء حيّ من جمالية الأداء النقديّ وأحد تجلياته الخلاقة.
تقول ‘في حداثة النصّ الشعري’ إن الحداثة لا تتحدّد بـ’الخروج عن إطار البيت أو القافية الواحدة’، بل في ‘الرؤيا الحديثة’ التي تُجسّد فعل التجديد، تجديد النص وأدبيّته. ما طبيعة هذه الرؤيا في الشعر؟ وهل كلّ شاعر حديث هو راءٍ بالضرورة؟ ثُمّ هل ترى أن الشعر مجرّد جنس أدبيّ، أم هو مطلق ومتعالٍ نصّياً؟
حداثة القصيدة ليست مماشاة لتقليعة، أخاذة، شائعة. هذه المماشاة قد يكون لها سحرها المؤقت، لكنها بضاعة سريعة الافتضاح. الخروج على نظام البيت الواحد في حدّ ذاته، لا يضمن للقصيدة جدّتها. إحساس الشاعر، أو إدراكه للحياة، ووعيه للعالم من حوله وعياً جماليّاً مغايراً. بغياب هذه الأعمدة الروحية تظل القصيدة إناءً يُعاد تلميعه بين فترة وأخرى ليحمل الخمرة ذاتها. جِدّة القصيدة ليست في الجلد الذي ترتديه، بل في روحها الجديدة، وفي توترها الجماليّ، وفرديتها الفريدة التي تحصنها ضد التماثل والقطيعيّة وتشابه النبرات.
ومن هنا ليس من المتاح لكلّ شاعر أن يكون جديداً حقّاً، حتى لو كانت قصيدته قد امتثلت لكل متطلبات الحداثة المتداولة، أو الشائعة؛ لأنّ حداثةً كهذه لا تعدو كونها حداثةً جاهزة تقع خارج عذابات الروح، ولا تمس من الحداثة إلاّ ضواحيها البعيدة أو قشرتها الخارجية. وهكذا فإن الشعر، في كثير من الحالات، ليس صفة للنص. إنّه كُمون آسر، لسحر لا يستيقظ إلاّ على يَدَيْ شاعر مقتدر. والقصيدة المتحققة هي ما تتلقاه اللغة من فيض الروح، واندفاعات الخيال الخصبة المحيرة.
نستخلص من قراءتنا لتصوّرك النقدي لمفهوم الحداثة أنّه يقوم على المغامرة اللغوية، تحديث المعنى واعتماد المرجع التراثي. هل الحداثة بهذا التصوُّر تشمل جميع أشكال الشعر، بما في ذلك قصيدة النثر نفسها؟ وترتيباً على ذلك، هل قصيدة النثر التي كتبها الروّاد أدخلت ‘رعشة جديدة’ في الشعر العربي؟
سأبدأ معك من نهاية الخيط، شعراء النثر أو شعراء التفعيلة لا يمكن وضعهم في سلة واحدة، لكل شاعر مذاقه الخاص ونبرته الشخصية. وأنا أتحدث هنا عن شاعر الموهبة المرموقة. ولا يمكن أن ينوب شاعرٌ عن شاعرٍ آخر، حتى لو كان لهما النفوذ الشعريّ ذاته. إن كليهما يلبي مطالبنا الجمالية والروحية بطريقته الخاصة.
لا أزال مؤمناً أن معظـم ما في القـول الشعريّ من سحر، لا يتأتى إلاّ من اللغـة بكل تجلياتها أولاً، ثم تأتي العناصر الأخرى لتكمل اللعبة الشعرية. كما أن الشاعر الذي لا نشم في عظامه رائحة الأسلاف، بعبارة إليوت، شاعر يفتقر إلى الكثير من مقومات الفعل الشعريّ المؤثر. وأنا هنا لا أستثني قصيدة النثر من رائحة التراث هذه. يمكنني أن أستدعي سركون بولص كمثال ناجح لشاعر النثر الذي تشربت نصوصه، حدّ الارتواء، ما في التراث العربيّ والرافدينيّ، خاصة، من خصوبةٍ روحيّةٍ وجمالية.
لا شك في أن لشعراء النثر الكبار تأثيراً على البعض من شعراء النثر المتأخرين، لكنني لا أظنه عميقاً. إنهم أقل تأثيراً من نظرائهم من شعراء التفعيلة الكبار: السياب، البياتي، أدونيس، في قصائده الموزونة، محمود درويش، سعدي يوسف. لقد كان لهؤلاء تأثيرهم الكاسح في مراحل مختلفة من تطوُّر حداثة القصيدة العربية، منذ شبابها الأول حتى الآن.
من خلال مشاركتك في العــديــد من المهرجانات الشعرية والمؤتمرات الأدبيـة في كثير من البلاد العربية، ومواكبتك للإصدار النقدي الجديد، كيف تنظر إلى وضعية النقد الأدبي اليوم؟
إذا اسثنينا بعض الأسماء النقدية العالية، التي تركت بصماتٍ واضحةً في حركتنا الأدبية، فإن لدينا كمّاً نقديّاً مترامي الأطراف. غير أن مشهـدنا النقـــديّ الراهـن يمثل كتلة كبرى تفتقر إلى التجانس أحياناً، وتشتمل على تشظيـات كثيـرة.
وأكثر ما يتهدد النقد العربيّ الآن ربما أنه نقد شلليّ في بعض جوانبه، يتبادل المنفعة كما يتبادل الإيذاء. وهو، أحياناً، ذاكرة أكثر منه ضميراً. إنّ المعرفة النقدية قد تظل معلقة في فضائها التذكريً دون أن تهبط إلى قاع الروح، لتختلط بعصب الناقد ومخيلته وضميره الصافي. لذلك قد نجد هذا الناقد منتجاً لبضاعة نقدية خاضعة لأخلاقيات السوق.
كما أن هناك من النقاد من تحوّلت لديه الممارسة النقدية إلى عزلة عن النصّ ولسببين قد يكونان متناقضين. فهناك من حالت بينه وبين النصّ لغة احترافية، متاهية، مغلقة، وشديدة الضيق. تُغرّب الشاعر عن قصيدته، وتجعل العمل النقديّ ممارسة خاصة بالناقد نفسه، وهناك من يذهب إلى النقيض السيّء، عندما يكتب نقداً كالوجبات السريعة، صحفيّاً، تبسيطيّاً، وفي عجلة من أمره دائماً.
ويمكن أن نجد عينة أخرى من النقاد تعاني من برود جماليّ فاضح، فالناقد منهم قـد يمتلك وعياً بالنقـد، ومعرفة باتجاهاته، لكنه يفتقر إلى الرهافة الكافية التي ترتفع به إلى مكنون النصّ الشعريّ، والإصغاء إلى نبرته الخاصة. لذلك فهو عاجز، غالباً، عن تحويل معرفته النقدية الى سلوك جماليّ، يتماهى مع النصّ، فيغنيه حين يفجر ممكناته التأويلية، ويغتني به حين يختبر قدرته هو على تحويل المعلومة إلى سلوك، والتصور إلى إجراء.
من وجهة نظرك النقدية، أين يقف الشعر العراقيّ الآن بعد فورته مع جيل الرواد المؤسسين، وانفجاره الهائل مع جيل الستينات المتعدّد والمثير للجدل؟ هل لا زال يشكّل مصدر إلهام للحركة الشعرية العربية؟ وهل هناك متابعة نقديّة رصينة لمجمل مجرياته في الداخل والمَهاجر؟
المشهد الشعريّ العراقيّ الآن مليء بالشقوق والتشظيات، فهو يتناثر، جغرافياً، على مساحات كثيرة من العالم. كما أنه يتوزع على ولاءات وانتماءات متباينة، أفقدته ربما بعض تماسكه. لكنه مع ذلك ما يزال حافلاً بالجديد والحيويّ، على مستوى البنى والتصورات.
فيما يتعلق بالمتابعة النقدية، ما تزال قاصرة إلى حد كبير. وباستثناءات قليلة، فإن الكثير من المتابعات النقدية للشعر العراقيّ متعجلة ويحركها، في الغالب، ضرورات العمود الصحفيّ، كما أن حبر الناقد يبدو مشوباً بشبهة اللؤم حيناً، أو محكوماً بروح الشلليات والمجاملة في أحيان أخرى. منذ سنوات، وأنا لا أجد إلاّ المتابعات الصحفية التي قد لا ترتفع، أحياناً، إلى مستوى ما يكتب من شعر.
صار من المألوف اليوم، في حقل الدراسات النقدية، ‘تجييل’ الشعراء أو تصنيفهم إلى أجيال. في تاريخ الشعر العراقي، نعرف الطفرة النوعية التي أحدثها جيل الستينيّات، بمرجعيّاته ومصادر كتابته، في تحديث القصيدة على صعيدي الشكل والمضمون. ما وضع كتابتك ضمن هذا الجيل أو الذي أتى بعده؟
كنت من جيل الستينيات، ولم أكن منه تمامـاً. كان جيلاً شديد الحيوية، وكان متنوع النبرة ومتعدد الانتماءات السياسية إلى حـد كبير: منهم التجريبيّ حد الفوضى، وشاعر التفعيلة، وشاعر النثر. وكان بينهم الماركسيّ، والقومي، والمستقلّ.
أتيت إلى هذا الجيل متأخراً، في النشر، نسبياً، واختلطت بالكثير من شعرائه، بحذر شديد. كان يعجُّ بالمواهب الكبيرة، لكن فيه الكثير من الأدعياء أيضاً. ولو عُدْتَ الى صحافة الستينيات لعجبتَ من تلك الكثرة الهائلة من الشعراء الذين أغرقوا صحافة تلك الفترة بالضجيج حيناً، و بالوعود الجميلة حيناً آخر. أين هم الآن؟
كنت أترك شراعيَ لريحٍ خاصة، ولم أكن أعبأ كثيراً بصخب المراكب المجـاورة، ولم أكن أعنى بالشلليـة التي لا تثمـر، في الغالب، غير الصداقات النيئة.
في ذلك الجوّ الذي كان يزدحم بالمواهب الحقيقية، كان للادعاءات، والصراخ الإيديولوجي، والمطولات الشعرية حضورها أيضاً. كنت من أكثر الشعراء احتفاء باللغة والصورة: أنكبّ على قصيدتي، وأحيطها بالكثير من العناية لأخلصها من الاستطالات، وباروكات اللغة الزائدة. كنت أسعى، وما أزال، إلى كتابة قصيدة قلبيـة، ملمومـة، صافيـة ومفاجئـة.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة