الوكيل - نادراً ما يمكن لعنوان عمل أن يتوفق فيقول كل شيء عنه،بدءا من تقديم رؤية صاحبه إلى العالم حتى آخر ما يمكن أن يقال عن مضمونه، فعبارة (كأنها مصادفات) التي وضعها الشاعر محمد الميموني عنواناً على سيرته الذاتية غنية بالدلالات من جهة أولى، وماكرة، بحيث تبدو كما لو أن صاحبها لا يقر بأية قوانين أو ضرورات تحكم مسار أحداث الحياة، من جهة ثانية.
لكن صورتها البيانية التي تدل فيها (كأن) على الظن والشك توضح إلى حد موقف الشاعر من الأحداث وطبيعتها، فإن ماحدث كان من الممكن ألا يَحدُث، كما أنه لاشيء منع ما لم يحدث إلا أن يكون مصادفة سعيدة أو لعينة، فكل ما اجتمع من أحداث في هذه السيرة لم يكن نتيجة اختيار مسبق أو رغبة أكيدة، بل يبدو الأمر كما لو ان الظروف ساقت إليه خطى السارد طوعاً لا كَرْهاَ.
إن عبارة (كأنها مصادفات) هيأت للشاعر، الذي عاش حياة قاسية، في المرحلة الأولى من أيامه على الأقل، أن يبدو في ما كتبه عن وقائعها، بما فيها أحداث طفولته، وعن الناس: بمن فيهم أفراد عائلته، والمدن التي حل بها: وقد كان بعضها قاسياً عليه، أقربَ إلى التصالح مع العالم، وأقلَّ رفضاً لعلاقات اجتماعية، وأعتقد أنه لو كُتبت هذه السيرة في مرحلة الحماس السياسي والثقافي ،وباندفاع الشاب الذي كانه، والذي لم يكن يعير حساباً للعواقب، حين (كان التمرد على التكلس محورَ كل نشاطه) (ص.162) َلعبَّر عن نفس ما عبَّر عنه طه حسين من رفض للظلام الذي كان يخيم بسواده على الدنيا من حوله، في مرحلة كان المجتمع العربي يحاول الخروج من الانحطاط، ،وقد ذكر الشاعر أنه كان في سنوات خمسينات القرن الماضي قد قرأ كثيراً من مؤلفات طه حسين (ص.144) الذي أسقط هالة القداسة عن الماضي، وأخضع العالم للتساؤل، فكيف لا يصادف ذلك هوى في نفس شاب يبحث عن ذاته وهو يتجول بين المدن، بينما يطرح أسئلة كبرى عن محنة الوجود الإنساني وأحوال المجتمع السياسية والثقافية، وقد تضمنت هذه السيرة ذكر بعض ما كان يسود واقع الناس من حكايات خرافية وعلاقات بعوالم الجن والأساطير، مما كان يقع في روع الناس موقع الرعب الذي لا يجدون معه إلا القبول والتسليم به، ولو كرهاً.
فماذا لو عاش كاتب هذه السيرة في غير جو العلاقات التي كانت تسود مغرب خمسينات القرن الماضي المتفائل بالعهد الجديد،وقد عرف إثر انتقاله إلى الدار البيضاء بشراً لو عرضوا على أصدقائنا اليوم بها، لضحكوا سخرية، أو تعجباً على الأقل، فكل من كان يقابله قدّمَ له خدمة ً حبَّبتْ لديه الاستقرار في المدينة، بدءا من صديقه الأستاذ محمد حسون إلى كل أسرة ‘دار الكتاب’،وانتهاءً بنائب وزارة التربية الوطنية الذي دعاه إلى مقابلة في مكتبه بعد أن اطلع على نتائج مباراة الالتحاق بالتعليم الابتدائي،كان قد اجتازها، ويرد سبب تلك المقابلة إلى ما (يبدو أن رتبته بين الناجحين كانت متقدمة) وقد أثنى السيد النائب بكلام امتدح فيه الشاعر المرشح لوظيفة المعلم، كما امتدح ـ بالمناسبة ـ أبناء شمال المغرب الذين كان المعول عليهم أن يساهموا في تعريب التعليم في المغرب، ولا أدري لماذا لم يصرح كاتب هذه السيرة باسم ذلك النائب الذي لم يكن إلا عبد السلام ياسين،وإن كان قد أومأ إليه بكناية تدل عليه فـ (ما زال هذا الرجل على قيد الحياة وهو اليوم يقود حركة اصولية معروفة) (ص.141) ويكفي أن يكون الشاعر فد أشار إلى الدور الذي اضطلع به هذا الشيخ أوائل الاستقلال(ففقد كان مخاطبي من الأطر المغاربة القليلة الذين عملوا على مغربة وزارة التربية الوطنية وتعريبها جزئياً في فجر الاستقلال) (ص141). وقد اختلفت الدار البيضاء في زماننا الجديد هذا، وأصبحت مجريات الحياة فيها أشد قسوة واحتدادَ صراع، وهي المدينة التي بذلت في مقاومة المستعمر أرواح بنيها بدون حساب.
وقد قرأت مرة أن الكتابة عن الذات إنهاء لها، وكانت الكتابة عن الذات في الأدب العربي شهدت مراحل دل استعمال الضمير فيها على مستويات القرب من الذات، أو البعد عنها، فمنذ (الأيام) لطه حسين إلى ( في الطفولة ) لبنجلون. إلى (الخبز الحافي) لشكري، وصولاٌ إلى (كأنها مصادفات) للشاعر محمد الميموني، مرت الذات العربية بعدة مراحل، من الإقبال على الذات واكتشافها، إلى نوع من الاعتداد بها مثلته جزئيا مدارس في الكتابة الرومانسية، لكن ما لبثت هذه الذات أن انكسرت، ففي العقود الأخيرة انعكست أجواء المعاناة الوطنية و القومية، من الهزيمة والسقوط السياسيين والعسكريين العربيين على أكثر من جبهة، لذلك لا نستغرب أن يكون الأدب المغربي من خلال نماذجه الثلاثة التي ذكرتً أعلاه، قد عرف محاولة اكتشاف الذات عند بنجلون من خلال إقامة نوع من الود معها، لكن لتأتي (الخبز الحافي) بتصويرها الغاضب الرافض للعالم وللعلاقات التي تسوده، فتهدم رؤيا بنجلون الذي كان يحاول اكتشاف الذات من خلال مقارنتها مع واقع العالم الخارجي الذي قضَّى فيه طفولته.. لكن صورة الذات في بعدها الحضاري كما مثلتها (كأنها مصادفات) تتذبذب بين الرضى والغضب، بعد أن انتهى العمل الحزبي، والسياسي عامة، في المغرب إلى السقوط في الانتهازية التي تعادي الفعل الثقافي الجاد ــ الذي اخلص له الشاعر منذ انغماره في عالم الكتاب واستغراقه في القراءة ــ وتدير الظهر للعمل الإبداعي وكل اشكال التعبير الفني، بتهميشه وإقصائه، وعدم الاعتراف بجدواه، دليلاً على جهل العناصر ‘الفاعلة ‘ في الحقل السياسي. وقد تمثل ذلك في اختيار الشاعرأخيراً حلاً صوفياً بالانقطاع إلى محراب الشعر يتحنَّث فيه طالباً أن يتطهَّر من أوحال الحياة العامة، منتقماً مما ألحقه جهل قيادات رعناء بإنسانية الإنسان، وأبعاده الرمزية التي يثبت بها وجوده ضد الموت وعبثية الحياة. فقد اختار أن يذهب في العالم باحثاً عن متعة الإبداع الشعري، التي وجد بعضها في تاريخ الشعر الإسباني في كل بقعة ناطقة باللغة القشتالية.
أثبت شقيقي في كلمة الإهداء التي كتبها على النسخة الي أهداني إياها من كتابه هذا، أن سيرته هذه إنما هي تداعيات (تواردتْ على ذاكرتي تلقائيا فسجلتها كما أرادتْ، قد نختلف في بعض تفاصيلها، وهذا هو المطلوب، ولكنها على كل حال فضاءات تجمعنا، ونشترك في كثير من لحظاتها) ورغم شهادته هذه فأنا أعترف بأن كثيرا مما ذكره كان جديداً عليَّ، قرأته عنده كأنني أقرأه عند أي كاتب آخر، ومن هنا، كان توفيقه في وصف رؤيته إلى العالم والأشياء بطريقة متميزة، لايمكن إلا لمن عاشها بعمق أن يلاحظها، فرغم أن فضاءً واحداً ضمنا في مرحلة، فقد تمتع بشبيبة الأب ويساره، وبشباب الأم وفرحتها بالولد البكر، أما أنا فقد جئت والديَّ، وقد قاربا الهرم، بعد انتظارهما زمناً طويلاً انجبا خلاله خمس شقيقات، فلم أكد أعي وجودي حتى وجدت أخوين ذكرين يهلان الواحد بعد الآخر، في إثري، مما أفسد فرحة المتعة بالولد . وامتلأ البيت بالدعاء على الذكور. لكن أهم ما شدني في (كأنها مصادفات) ليس هذا المتعلق بتاريخ أسرتي الخاص، بل إن اهم ما كشفته هو حديث الشاعرعن علاقته بالكتاب، وهو لا يزال في كنف الأسرة أولاً، حيث نبتت لديه قناعة أن الكتاب (ليس إلا جثة هامدة ما لم يفتح ويقرأ ويشيع) (ص.78). وأن سبل المعرفة متعددة، لكن طْرْقه يحتاج إلى مؤهلات لم يصل إليها، الكاتب إلا بعد أن وصل إلى الدار البيضاء، وبعد أن كان قد استفاد من فترة دراسته بتطوان التي كانت تموج في آخر عهدها تحت الاستعمار بمظاهر ثقافية منها نشأ تطلُعُه إلى ما يجب ان يغني به ثقافته الأدبية ووعيه السياسي. وإذا كان قد تأسف لصعوبة ظروف إقامته في تطوان التي احتاج قطع مراحل من التعليم الثانوي بها إلى صبر كبير على الشدائد، فقد أبدتْ له المصادفات وجهها السعيد حين انتقل إلى الدار البيضاء هارباً مما اصاب مدن الشمال من ‘فقر دم’ بعد أن قضى عليه الحاكمون بالإقصاء والتهميش واعتباره (مغربا ضارا).
ضمت سيرة الشاعر المغربي محمد الميموني موضوعات كثيرة غنية، سواء في جانبها الذاتي الذي تناول فيه أحداث طفولته، وعلاقته بالأنثى واعتبارها قطباً أقوى في حياته، أم في جانبها الموضوعي الذي حلق فيه الطائر ‘بعيدا عن فضاء العش’، تطرَّق فيه إلى أحلام الفقراء والخيارات الصعبة على المستوى المحلي، وما خبره من أشكال الوعي بالشأن الوطني(ص.112) و(الصراع الحزبي) وهو لمَّا يزل بمدينته شفشاون ثمَّ بتطوان، وصولاً إلى ذِكْر ما عاشه بعد حلوله بالبيضاء، ثمّ غداة التحاقه بالجامعة، وما مارسه من (نضال طلابي)(ً.146)
إلا أن أكثر صفحات هذه السيرة إشراقاً هي تلك التي خصصها للحديث عن تجربته الشعرية وتأملاته في الزمن، الأمر ألذي كان يفرض على الشاعر الذي عاش في ما نرى من خلال هذه السير. حياة غنية حافلة، أن تكون هذه السيرة في جزئين، مما يرجح عندي أن يكون الشاعر قبل أن يمضي في كتابة سيرته كان قد تخوف من ألا تفي تداعيات سيرته بالمطلوب، إلى أن كان ما فاجأه من هذا الدفق الغني، سواء في ما اتصل بحياته الخاصة في الطفولة، أم مشاركته في النضال السياسي في شبابه، أم ما استوجب وقفة كان ينبغي أن تكون اطول، يخصصها لحياته في الشعر ومع الشعر ولأجل الشعر، باعتباره احد رواد الشعر المعاصر في المغرب.
أدعو لشقيقي الشاعر بطول العمر حتى يتحقق بين يديه حلمي هذا، فلا يزال في النفس ما يستحق أن يروى.
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو