الجمعة 2024-12-13 08:15 م
 

لعنة الفراغ

08:12 ص

لطالما عانى لبنان من فراغ رئاسي. وفي تاريخه السياسي المعاصر، واجه لبنان حالة الفراغ لفترات طويلة، كان فيها قصر بعبدا خاويا بلا سيد. وتعود اللبنانيون والعرب عموما على لبنان بلدا معلقا في الفراغ، تتجاذبه دول إقليمية ودولية، ويدفع من استقراره وحياة أهله ثمن لعبة المصالح المميتة.اضافة اعلان

لكن لبنان كان حالة استثنائية في عالم عربي تحكمه أنظمة مركزية قوية، لا تعرف الفراغ أبدا. كان ذلك إلى وقت قريب، قبل أن تشيخ الزعامات وتكلح، ويصبح حضورها والفراغ سيان؛ وقبل أن تهب رياح التغيير اللاهبة، وتضع نصف دول العرب في حالة فراغ قاتل.
الدول القوية بأنظمتها المتسلطة، سقطت في الفراغ الرئاسي؛ مصر التي حكمها رئيس واحد لنحو ثلاثة عقود، تعاقب على قصرها الجمهوري أربعة حكام في ثلاث سنوات. وللفراغ في العالم العربي أشكال وألوان. في سورية اليوم، رئيس وحفنة أمراء يتقاسمون السلطة في البلاد الممزقة بين الجماعات المتحاربة. وفي العراق، حدث ولا حرج؛ رئيس الوزراء أكبر من كل الرؤساء، ودولة افتراضية لمجموعات تكفيرية يحكمها أمير حرب، وكيان للكرد بحكم الدولة المستقلة. أما رئيس العراق، ففي المشفى البعيد يصارع الموت.
وبفعل عوامل الطبيعة وعوارض الاعتلال الصحي، لم يعد من حضور لرؤساء دول إلا بصورهم المرفوعة في المؤسسات العامة. الجمهور العريض من عامة الناس لا يعرفهم إلا من خلال صورة التقطت لهم قبل سنين.
في العالم العربي ظواهر نادرة لا تجد مثيلا لها في الأنظمة الحديثة؛ فعلى أرض الدولة الواحدة تتعايش أنماط حكم تنتمي إلى مراحل تاريخية مختلفة؛ دولة بمظهر عصري، وعلى تخومها إمارة تحكم بقوانين تعود لاكثر من عشرة قرون مضت.
وبيننا دول فقدت وحدتها الجغرافية منذ سنين، ولم يفلح زعيم سياسي واحد في إعادة الوحدة إليها؛ ليس فراغا في الرئاسة فقط، بل دولة تعيش في فراغ لا تُعرَف لها هوية أو حدود أو شعب.
يمكن القول بلا تردد إن العالم العربي، شعوبا وأنظمة، يعيش حالة الفراغ منذ زمن. لم نعد قادرين على ملء فجوة الفراغ التي تفصلنا عن العالم الحديث؛ علما وتعليما وسياسة واقتصادا.
الدول القُطرية التي صمدت لعقود، تكاد تغرق في الفراغ. المكاسب التي تحققت، تضيع في لمح البصر. وقيم المواطنة والتعايش التي توهمنا رسوخها، تسقط عند أول امتحان. بعد سبعين أو ثمانين عاما على التحرر، وبناء الدولة الوطنية، ها نحن نعود من جديد إلى زمن ما قبل الاستعمار الحديث.
الصحوة التي راهنا عليها لاستعادة مكانتنا بين الأمم، تعيدنا من جديد إلى دوامة الفراغ.
لبنان لم يعد استثناء؛ لم يعد فراغه مثيرا للاستغراب، ولا موضوعا للتندر. ربما تكون حال اللبنانيين أفضل من غيرهم؛ فقد تعلموا من تجاربهم المريرة كيف يملأون فراغ قصر بعبدا، ويصنعون بدل الزعيم عشرة. الدور على دول وشعوب كبيرة أخفقت وما تزال في صناعة زعيم واحد.
لعنة الفراغ تلاحق الجميع، والزمن بيننا.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة