الجمعة 2024-12-13 06:13 ص
 

‘ما جرى يوم الخميس′ لجمال ناجي: قصص تحتفي بالشخوص

10:45 ص

الوكيل - الشخصية هي أحد الأركان الأساسية التي تقوم عليها القصة القصيرة، فمن الصعب أن نتصور قصة قصيرة بلا شخصية، سواء أكانت هذه الشخصية من الناس، أم من الطير، أم من الحيوان، وحتى من النبات، لا سيما حين تنحو القصة منحى الغرائبية، أو العجائبية، في تمثيلها الواقع، وتصويرها الحياة تصويرا لا يقوم على المحاكاة. ويتوقف نجاح القصة غير العجائبية، أو غير الغرائبية، على موقف الكاتب من هذه الشخصية. اضافة اعلان

فهي ينبغي أن تكون مكتملة، أو كالمكتملة، فالقارئ لا يتوقع، ولا ينتظر، من تلك الشخصية أن تتعرض لتغيير جذري مع سيرورة الحدث، فقد يطرأ عليها بعض التغيير، لكنه تغيير على الأغلب، والأعمّ، والأرْجَح، غيرُ كافٍ ليجعل منها شخصية جديدة، مثلما هي الحالُ في الرواية، التي تتيح فيها آفاق السرد، وتركيب الحوادثِ المعقدة، الانقلاب بالشخصيّة ذات المظهر المحدّد في أول الرواية لتغدو شخصية أخرى بمحددات جديدة في النهاية. وشيءٌ آخر، وهو أن القارئ لا يتطلب من كاتب القصة القصيرة أن يقول جلّ ما هو متوقع عن الشخصية في قصته، إذ يكفي أن يلقي الضوء الكاشف على الجانب، أو الجوانب، التي تتعلق منها باللحظة الحَرجَة، أو المتأزّمة، التي تقوم عليها القصة المرتبطة بالحدث.
ففي قصص ‘ما جرى يوم الخميس′ (ناشرون: بيروت 2010) لجمال ناجي نلتقي عدداً من الشخصيات بقدر عدد القصص، أو أكثر، لأن بعض القصص فيها أكثر من شخصية، وهذا شيءٌ طبيعي ولا مزيّة فيه.
بيد أن المزية اللافتة في شخصيات جمال ناجي تركيزه المثير للانتباه على المكون النفسي لهاتيك الشخصيات. ففي قصة ‘رجلٌ لا يُحسنُ الحبّ’ التي لا يوحي عنوانها بما تلقيه من ضوء على إشكال نفسي يعاني منه بطل القصة، فمع أنّ له أولادا كثيرين إلا أنَّ واحداً منهم واحداً حسب يضيق به ذرعا، ولا يميل إليه كل الميل، ويكاد يقنع نفسه بوجود شيء ما يجعله يكره هذا الابن على الرغم مما في هذه الكلمة من قسوة. ولذا يسعى لمعرفة هذا الشيء، والوقوف على السبب (النفسي) الذي يحول بينه وبين أنْ يحبّ ابنه، ويجعل منه أبا كارها لفلذة كبده. ترى هل يعزى ذلك لفشله هو من حيث أنه موظف أخفق في إقامة علاقات جيدة مع زملائه في الدائرة؟ (ص11) أم يرجع ذلك لصفات محددة، وقسمات معينة للابن، ولملامح وجهه المسالمة، الطيعة؟ أم لما يرتكبه من أخطاء في البيت تؤدي إلى كسر بعض الأواني، أو لتأخره عن العودة للبيت، أو لتهاونه في الدراسة، وفي حله لواجباته المدرسية، وتعييناته البيتية؟(ص14) هذه الظنون لا تقنع الأب، فالقصة، على وَفْق هذا النسق السردي، تواصل طرح التساؤلات، والإجابات، بحثاً عن السبب النفسي الذي يحول بين الأب وحبه لابنه الحبَّ الطبيعي الذي يعتادُه الناس في علاقة الآباء النمطية بالأبناء، لا أكثر، ولا أقل. بيد أن القارئ يكتشف بعد هذا التحليل المُطرد، غير المباشر، أنَّ الابن المستهدف بهذا النفور كثير الشبه بأبيه’. ابناؤك يشبهونك إلى حدٍّ ما- قال له صديقه وهو يربّت على كتف الابن- لكن هذا الفتى نسخة عنك، هكذا كنت َ في فتوتكَ وصباكَ، نفس الوجه، نفس القامة، نفس الملامح، نفس البراءة.. إنه أنتَ في صباك. ‘ (ص17)
هذا الكشفُ الصريح عن وجوه الشبه الدقيقة بين الأب وابنه المكروه، ربما يلقي الضوء ساطعاً كاشفاً على المكوِّن النفسي لبطل القصة، وهو الأب. مثلما يلقي الضوء بطريقة غير مباشرة على معاناته من حالة نفسية مرضية هي الحرص على إيذاء الذات أو(المازوشية) masochism والرغبة في اضطهاد الأنا نتيجة عامل من العوامل؛ كالفشل في علاقاته الاجتماعية، أو أيّ شيء من هذا القبيل، فهو يتلذّذ بمعاقبة النفس. ففي وجود الشبيه للأنا- الابن – يقوم المصاب- الأب- بهذه الحالة بالتنفيس، وتغيير الهدف، فبدلا من اضطهاد الذات يضطهدُ الشبيه المُماثل، معتقدا أنه يضطهد أناه.
أما الشخصية في قصّة ‘ما جرى يوم الخميس′ (ص32) فتعاني من حالة مرضيّة أخرى هي الإفراط في الفضول، وإثارة التساؤلات، والرغبة الشديدة في معرفة ما هو ضروري وما ليس بضروري أن يُعرف، من باب التدخل فيما يعنيه، وما لا يعنيه. فهو نمط سيكولوجي يوصف عادة بالفضولي الذي يُحبُّ التدخل في كلّ شيء. وهذا شيءٌ يكاد يصرح به الراوي الذي هو البطل نفسه، قائلا إن الفضولي فيّ لا يَهْدأ، (ص33) وبعيد أن يبذل جهدا غير قليل لمعرفة السبب الذي من أجله يهنئ المهنئون السيد سمير الأزهري، يقرّ بأنه لم يتوصل لنتيجة تحد من رغبته في الوقوف على أسرار ‘ما جرى يوم الخميس′، فيمزق الصحيفة التي تواصل نشر إعلانات التهاني ظاناً أنه سيرتاح، لكنْ ‘عاد فضولي إلى موضعه’ (ص35) ومثل هذا النوع من الناس لا تخلو حياته من الأرق، والقلق، والكوابيس. كوْنهم ‘يفرطون في التورط بأمور لا دخل لهم فيها، لكنها تسبب لهم أرقاً، وحكاكاً، دون سبب بدني واضح .. ‘ص 35
وهذا الطبع من الطباع النفسية يصعُب التخلي عنه، ونبْذه ظهرياً. فمثل هذا الشخص يظل يكثر من الأسئلة، والأسئلة لا تجد الإجابات. فبعد أن يقرر العدول عن هذا الفضول، والتوقف عن الاهتمام بحكاية الأزهري، وتهنئة الناس له بما جرى يوم الخميس، يظن أنه استراح من هذا الهم، بيد أنه يقول، واصفاً هذه الحال ‘تمَرَّدَ فضولي عليّ’ ص 36 ومن قوة هذا التمرد يداهمه إحساس تلقائيّ بأن المسألة- مسألة ما جرى يوم الخميس- قد كبرتُ ‘وتطاول معها فضولي’ و’اشتباكي مع ذاتي’ ويَصفُ نفسهُ بأنه ‘أكثر الناس فضولا على سطح هذا الكوكب’ ص 37 وبسبب ذلك يُعزّي نفسه زاعماً أن الفضول صفة مستحبّة في النفس، وليست صفة مَرَضيّة بدليل أنّ الفضول هو الحافز الذي حفز نيوتن على اكتشاف قانون الجاذبية، وأدى بذلك لتغيير جذريٍّ في تاريخ العلم.
ويكاد الكاتب جمال ناجي يصرّح تصريحاً مباشراً بما تعانيه هذه الشخصية بسبب هذا الوضع المَرضي، معاناة تؤدي إلى ما يشبه الانفصام النفسي schizophreniaالشخصيّ، البسيط، فهو يحدث نفسه عن الأزهري كمنْ يتحدث إلى شخص آخر. وتعروه مظاهر الهلوسة بسبب ذلك الشخص الذي يشكل بالنسبة له مشكلة تتمثل في تخيله أشياء غير موجودة تقع في يوم الخميس. والدليل على هذا نستمده من القصة، ومن الأقوال، والأفعال التي تصدر عن البطل، الذي يشكو من ‘خلافاتٍ يوميّة بيني وبين ذاتي’ (ص37) وهذا الصراع بين الذات والأنا قاده في نوع من المبالغة للحقد على الأزهري الذي أصبح هاجساً مقلقاً للراوي المتكلم في القصّة: ‘ حقدت على سمير الأزهري ‘ص37 والحقد الذي لا مُسوغ له، ولا سبب، ضربٌ من المرض النفسي الذي يؤدي إلى رفْع الحواجز بين الأنا والآخر، دون أن يكون لهذا الاختلاف ما يُفسِّرُه سوى تهيُّؤات لأمور غير موجودة في الواقع.
وفي قصة ثالثة بعنوان ‘الجهات الخمس′ (ص40) يتضح أنَّ الأب خلافا للأم- يتمتع بحالة نفسية انبساطية، تؤثر المراعاة التامة لما يحس به الآخرون ويشعرون، ويتحاشى إيذاء الآخر الإيذاء النفسي، فيتجنب بسبب ذلك جل ما من شأنه أن يخدش الإحساس، أو أن يؤدي للإزعاج، أو الارتباك النفسي، فهو يستجيب لابنه الذي يلح عليه لشراء عصفور كناري وتربيته في قفص في غرفته في المنزل، وعندما يكتشف تعلق ابنه بالكناري الأزرق، ويقف على ما يحققه له هذا التعلق من سعادة، يتأثر بذلك تأثراً كبيراً، فينتقل الشغف بالعصفور، والتعلق به، إليه – كما لو أنَّ الأمر ضربٌ من العدْوى- فيغدو كالطفل الصغير شديد التعلق بالكناري(ص41) وحين تقع الحادثة التي أودت بالكناري على يدي طائر جارح أهوى نحوه من حالقٍ، وضربه بمنقاره ضربة أوردته مناهل الموت الزؤام، يتأثر بذلك كثيراً، ويحاول تفادي تأثير هذه النكسة – إذا صح التعبير – على مشاعر ابنه، وأمه، التي اتضح أنها لا تبالي بوجود ذلك العصفور، حياً أوْ ميتاً. وكذلك تفادي أنْ يكون لفقدان العصفور أثرٌ مأساويّ على الطفل، ونفسيَّته (ص44) لهذا غضب من زوجته التي تخلصت من الطير، والقفص، دون أن تتيح للطفل إلقاء نظرة الوداع الأخير عليه (ص47). وقد تبيَّن، في نهاية الأمر، أنَّ ما كان يظنه تعلقا من ابنه بالعصفور ليس أكثر من وَهْم، وأنه هو أكثر تعلقاً، وأكثر حزناً، بسبب ما جرى لذلك الطير الجارح، فعلى الرغم من أنه هو الأب إلا أنَّ في داخله طفلا ليس أكثر تجربة من ابنه الصغير، أو خبرة.
حاول على سبيل المثال- أن ينقل الخبر خبر موت الكناري- لابنه بالتدريج، لاجئا للكذب الأبيض تارةً، والمناورة تارة أخرى، كي لا يكون وقْعُه على نفسية الطفل صاعقا، ليكتشف أنه هو الذي ينبغي أنْ يُعزى لا الابن (ص48). فالنفس الشفافة، الرقيقة، التي يتمتع بها الأب هي التي تجعل منه شخصية ذات حساسية عالية جداً إزاء الأحداث. فهو يشعر بالحزن تجاه موت الكناري فيما يلتزم الآخرون، أو يظهرون اللامبالاة تجاه الشيء ذاته الذي طالما تعلقوا به، وأرادوه، وأحبّوه. وبهذا يختلف الأشخاصُ، ويتفاوتون، وذلك ما يسوّغ للكاتب التركيز على هذا التفاوت ليُبرز هوية المكوّن النفسي للشخوص.
وفي قصة ‘عوْني ابن خالتي’ (ص50) يقفنا المؤلف إزاء شخصية طريفة جداً، وغريبة الطباع، لكنها تمثل نموذجاً موجوداً ومتوافراً في المجتمع. وهي شخصية الرجل الذي لا يهتمّ، ولا يبالي، بآراء الآخرين فيه.. أو في سلوكه، أو في مواقفهم التي يتخذونها إزاءه. فالحياة بالنسبة له، مثلما يقول هو نفسه: ‘مسخرة ‘(ص51) ولا توجد ثمة مشكلة، أياً كان مستوى التعقيد الذي تنماز به، إلا ويستطيع حلها عن طريق المزاح تارة، وعن طريق ‘النَصْب’ والاحتيال تارات أخَرَ، بأساليب تذكرنا بأصناف من المُهرّجين (والشطار) الذين حفلتْ بهم نماذج من الأدب العالمي.
ومنْ يُطلْ التأمل في مواقف هذه الشخصية، وما يصدر عنها من أقوال، أو أفعال، يكتشف مدى اهتمام الكاتب بتقديم شخصيّة فريدة الطابع، لا تخلو من إطار فكاهي يقرّبها من الشخصيات الهزلية في الدراما الكوميدية. فإذا واجهته خالته بتهمة الكذب- مثلا – استضحك طويلا بدلا من أن يحتجّ، أو يدافع عن نفسه برد التهمة، فهو يصغي لهذا الوصف دون أن يرفَّ له جفن. (ص51) فالأمران: الصدق والكذب عنده سيان. والكذب هو الذي يعينه على إيجاد الحلول لأكثر المشكلات تعقيداً.(ص53) ودليل ذلك ما قام به من تجديد لدفتر عائلة ابن خالته على الرغم من انتهاء المدة المسموح بها تجديده. فقد اصطحبه معه، وداهم مكتب مدير دائرة الأحوال المدنية (أبو خليل) وفاجأه بسيل من الأسئلة التي توهمه وتوهم من هو في المكتب أنه يعرفه منذ زمن طويل، بل ويعرف أم خليل، وخليل، وبقية الأبناء الذين يسأل عنهم وعن أحوالهم واحداً تلوَ الآخر، مما ينفي أي شكوك لدى أبي خليل في أنهما صديقان منذ زمن غير قصير. ولهذا يستدعي السكرتيرة، ويطلب منها الإيعاز للموظفين بتجديده فوراً، وبلا تأخير. ويتملّص عوني بعد ذلك مُدّعياً أن لديه ارتباطا مسبقا بموعد، وعندما أحضرت السكرتيرة دفتر العائلة، وتسلمه الراوي وفقا للأصول المتبعة، وقبل أن يغادر، سأله أبو خليل ‘ الرجل الذي كان معك قبل قليل من هو؟ ‘ (ص56) سؤال يكشف به الكاتب، فيما يشبه حلول الألغاز، عن قدرة عوني هذا ومهاراته في التمْويه، والتلفيق.
أما موقفه من استمرار المعونة التي يتلقاها من الشؤون الاجتماعية، واستصداره شهادة سوء سيرة لابنه، وسوء سلوك، لأنها شرْط لاستمرار تلك المعونة، فيؤكد أنّ هذا الشخص (عوني) يمر بحالة نفسية مَرَضيّة يوصف عادة من يُصاب بها بالفهلوي. والفهلوي هو الذي يسعى للحصول على مبتغاهُ بوسائل لا تسوغها أخلاقياً سوى الغاية التي تبرر الوسيلة. فقد طلب من ابنه أن يضرب آخر ليحصل على شهادة سوء سلوك يستبقي بها الدعم المالي الذي يتقاضاه(ص57- 59). وعندما يتلقى من الراوي في زيارته له في المشفى هدية تسره الهدية أكثر مما تسره الزيارة. وعندما علم أن الهدية حذاءٌ ألماني ثمين (ص66- 67) تساءل عن الطريقة التي ينبغي له اعتمادها ليعرف الناس بأن ثمن الحذاء مائة دينار (ص69)، وهذا ما يربكه في هذه الهدية، ويجعل منها هدية ذات محتوى غامض، ويفضل لو أن الهدية كانت شيئا آخر. وعوني هذا هو الشخصية الرئيسة في القصة، وليس الراوي، فهو الذي يقوم غالباً بالأفعال، وتقع الحوادث إما بمبادراته هو، أو أنها تقع له هو كالذهاب للمشفى، أو عقر الحمار لابنه، واضطراره لمراجعة الطبيب البيطري. وهو الذي يَجري تسليط الضوء عليه، وعلى طباعه النفسية، أكثر من التركيز على الراوي الذي يكتفي بوظيفة الشاهد ها هنا، أو على أمه (الخالة) التي تتوارى عن الظهور في أكثر القصة، ومع ذلك، لا مندوحة لنا عن الاعتراف بأن الراوي هو الشخصية الثانية فيها، وأن النموذج الذي نلقاه في قصة ‘عوني ابن خالتي’ نموذج فهلوي يظن نفسه أكثر ذكاءً، ودراية، وحنكة من غيره .. لقدرات يمتلكها تمكنه من الكذب، والاحتيال، وما يوصف بالنَصْب على الآخرين.. دون مبالاة منه فيما إذا كان الآخرون قادرين على كشف هذه الطباع فيهِ، أم لا.
ومن الشخصيات البارزة في قصص ‘ما جرى يوم الخميس′ شخصية الفنان الذي لم يذكر لنا الكاتب اسمه- في قصة ‘العود’ ص89 صحيحٌ أن في هذه القصة أربع شخصيات: الفنان، والراوي، وهو جار الفنان الذي يقوم بدور السارد للملفوظ السردي، والزوجة التي تخلت عن الزوج الفنان بعد أن ُطرد من عمله الذي لم يذكر لنا الكاتبُ شيئا عنه، وأخيرا الدائن الذي لم يظهر إلا في النهاية التي تتضمَّن خلاصة القصة.
ويبدو الراوي – ها هنا شأنه شأن البطل في قصّة ‘ما جرى يوم الخميس′ فضولياً تارة، ومجاملا مشفقا على هذا الفنان الذي شاءت الأقدار أن يكون جارهُ تارةً أخرى. أما من أين جاءه الفضولُ، والإشفاق، فالجواب على ذلك: من كثرة ما أصغى، وسمع، من ألحان هذا الفنان التي كانت تنطلق من أوتار عوده حزينة شجية تشق طريقها إلى مسامعه عبر شقة جاره. ولهذا السبب لا يمل الراوي الفضولي مراقبة هذا الفنان، ومشاركته أزمته ، فعندما غادرت زوجته الشقة، منفصلة عنه، بعد طرده من العمل، زاره مواسياً، وهو ما فتئ يتذكر أنّ دمعة في محجرية لم تترقرق. وتفسير ذلك أن الألحان التي كانت تطرق مسامعه تتضمن جل هاتيك الأحزان، فلم الدموع إذا؟ (ص91) فالغناء والموسيقى هما فرحه، وكآبته، وحياته كلها ترتبط بنغمات أوتار عوده. والأكثر غرابة من هذا أن الراوي وزوجته شرعا يألفان هذه الموسيقى، ويعشقان هاتيك النغمات، ولا يستطيعان العيشَ دونها، فهي لحظاتُ فرحهما وتأمّلهما العميق. (ص91) يحدث هذا كله والفنان نفسه مغيّبُ عن مسرح الحكاية. والراوي وحده هو الذي يفكر بالفنان، ويتأمل، ويقدم له المساعدة: أطباقاً من الطعام تمثل وجبات لا يحسن الرجل الوحيد الأعزب- إعدادَها. (ص92) وهذا الذي يقوله الراوي كله لا يسمن ولا يغني من جوع. ذلك أنه في ليلة بدء الحكاية شق الفضاء ‘لحنٌ مُخضَّب بنحيب كأنه نحيب الوداع′ الأخير. ترى هل كان يعتزم الانتحار؟
هذا التساؤل يضع العلاقة بين الراوي والفنان على مفترق طرق. وقد أصبح الأمر جدياً إذن. ولا بد أن يقف على جلية الأمر. وتعلق الفنان الذي أصبح وحيداً بفنه، وبموسيقاه، وبعوده، هو السر الذي يوشك أن يكتشفه الراوي، ويكتنه بذلك خفايا ذلك النغم الذي يشبه النحيب. فعندما أفاق من غفوته بسبب وقع خطى على الدرج المؤدّي لشقته، وشقة جاره، وتنبه إلى توقف صاحب الخطى عند باب الشقة الذي هو غير بعيد من باب شقته هو، نظر من العين السحرية ليكتشف وجود الدائن ببذلته الأنيقة، وشاله الصوف المحيط بعنقه، وما هي إلا لحظات حتى بدأ الحوار بين الدائن والفنان ينتقل لمسمعيه، ومما دار بينهما يتضح الأمر الذي ظل خفياً حتى الآن.. فقد طالبه ذو البدلة الأنيقة بسداد الدين، أو العود، وذلك شيءٌ سبقَ الاتفاقُ عليه، فما كان من الفنان، الذي لا يمتلك ما يسدد به الدين، إلا أن غاب قليلا في البيت، وعاد حاملا عودَه، وهو يربِّتُ عليه بحنوٍّ مثلما يربت أبٌ على كتفي ابنه الرضيع، وقدّمه للدائن مُوَدّعاً موسيقاه، وفنه، بعينين منكَّستيْن. أما الدائن، فما أن تسلم العود حتى هرول عائداً من حيث أتى(ص93).
ومن يُعدْ قراءة القصة بإمعانٍ، يكتشف أنّ الراوي وهو هنا شاهد على ما كان من أمر الفنان، وعوده يندغم بالفنان تقريباً، بحيث لا يستطيع القارئ أن يفرق بينهما، أو يفصل أحدهما عن الآخر، إلا بغير قليل من التعسّف. فهو أي الراوي- كالفنان في رهافة شعوره، ودقة إحساسه، وتعلقه بالجميل من الموسيقى، والرائق من النغم، وإيثاره للألحان الشجية الحزينة، وحفظه لها، وترديده إياها ترديدا أصبحت معه هي حزنه، وفرحه، وتأمله العميق (ص91). ولهذا لا نرى في انشطاره اثنين، أحدهما هو الراوي، وثانيهما هو الفنان الذي يحنو على عوده حنو المرضع على الابن الفطيم، ويداعب أوتاره، وهو لا يفتأ ينخرط انخراطا كليا في حياة هذا الموسيقار المتعلق بالفنّ تعلقا يؤثر معه الموسيقى على العمل، والوظيفة، وشريكة العمر الزوجة، ويؤثر اللحن الأغنّ على الطعام المتقن، الذي تعده امرأة تتقن الطبخ، ولا ريب في أنها تحب الموسيقى. فنان يجد (أناه) في فنه، فهو الذي يعبر عن ذاته، تلك التي فطرت على الحساسية الشديدة تجاه الموسيقى، والزهد بما عداها من متع الكون، ولذائذه.
لهذا إنْ لم ينكّس عينيه لفراق عوده فلمن ينكسهما؟ أيفعل ذلك لأي طارئ يعرض له ويمر فيه؟ أينكسهما لفقد الوظيفة، لانفصال الزوجة، لقلة الطعام ومعاناة الجوع؟ لإفلاسه الذي يقعد به عاجزا عن سداد دين لدائن جشع لا يرحم؟ جلّ ذلك لا يكفي لينكس عينيه؛ لكنه ينكسهما لفراق عوده مكرهاً- فتنفر الدموع من عينيه للمرة الأولى. وفي رأي الكاتب- الذي لم يصرح به تصريحاً مباشرا- أنّ هذا الفنان مصاب بحالة مرضية هي عشق الفن الذي يجد فيه تعبيرا عن تلك الحالة التي يعانيها، فعالمه الخاص هو الموسيقى، ولذلك لا بد من الاعتراف بأنه يعيش في حال من الانفصال عن الواقع، وهذه الحالة يفصح عنها طبعه الذي لا يبالي بما حوله، ولا بعلاقاته الطبيعية مع الأسرة، والزوجة، والجيران، وموقفه من المعاملات مع الآخرين التي يكاد لا يعيرها أدنى اهتمام، وهو بذلك كله يقرب من العصابيneurosis الذي يؤدي به الذوبان في فنه للتخلى عن الجانب العقلاني في حياته اليومية فيبدو كالحالم الذي لا يدقق فيما يصدر عنه من أقوال، أو أفعال.
وشخصيات ‘ ما جرى يوم الخميس ‘ قلّما تخلو بصفة عامة- من الاعتماد على المكون النفسي، الذي يسهم في إضاءة العالم الداخلي للنفس الإنسانية، ويسلط الضوء على طباع، أو حالات من أحوال النفس، أو صفة من صفات الشخص، التي تتجلى باعتدال، أو بإفراط، لتغدو حالة مرضية أو شبيهة بالمرضيّة التي تحتاج المتابعة. ومثل هذا يجعلُ من الشخصيّة القصصية- التي تبدو للوهلة الأولى شخصية عادية كغيرها من الشخوص شخصيَّة نمطية، تتمتع بمكون نفسي طاغ، هو الذي يتيح لها أن تعلق بذاكرة القارئ، وأن يدوم تأثيرها لديه ويترسَّخ، وهذا ما يتغياه الكاتب الذي يتقن حرفته، ويزاولها بجدارةٍ، وخبرة.

*ناقد وأكاديمي من الأردن


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة