السبت 2024-12-14 07:57 م
 

مثقفو الطبقة الوسطى

10:05 ص

التاريخ والمجتمع والمستقبل، جميعها تُفهم وتُفتح وتُغلق بالأسئلة التي تثيرها، وليس بالأجوبة التي تقدمها. والمشكلة التي يكررها التاريخ، وتكررها المجتمعات، في اللحظات الصادمة، تبدو حينما تزدحم الأجوبة المملوءة بالأحكام الصارمة وتغيب الأسئلة؛ أي حينما تعجز الكتلة المثقفة عن نقل الحوار النقدي المملوء بالاستفهام والرغبة في المعرفة التي تزيل الغشاوة عن العيون، إلى الناس، أي نحو عمق المجتمع الذي تتشكل منه وبه الحياة. ومن دون ذلك، تبقى الإجابات المستعجلة والمستفزة جزءا من المشكلة التاريخية، تجلب المزيد من الاستقطاب وعنف المثقفين وعنف المجتمعات. وهذا ما يحدث اليوم في الحوارات التي يديرها مثقفو الطبقة الوسطى لدينا، وفي جهات متعددة من العالم العربي.اضافة اعلان

المشكلة الكبيرة في التطور الاقتصادي والاجتماعي العربي في العقود الثلاثة الأخيرة، ليست تضاؤل الطبقة الوسطى وتهشيمها، بل هي في نوعية هذه الطبقة، وما ترتب على ذلك من تغيير في وظائفها وأدوارها. ولأن المجتمع كائن معقد ومتبادل التأثير، فإن حساسية مثقفي الطبقة الوسطى للأزمة الحضارية التي تعيشها هذه المجتمعات، تضيف المزيد من التعقيد على الأزمة. فهل تستطيع هذه الفئة أن تؤثر بشكل مستقل في بناء أجندة الحوارات والاهتمامات المجتمعية في هذه الأيام؟ وهل تستطيع أن تطور رؤية نقدية للحياة العامة والتاريخ والآخر، بعيدا عن نوعين من الاستقطاب: أولهما، الاستقطاب النخبوي التقليدي لأشكال السلطة كافة؛ فيما الاستقطاب الآخر للشعبية الجديدة، التي تقودها أنماط التفاعل إلى يوم لم تحسم قوة تأثيرها الفعلي، ومثالها الإعلام الاجتماعي؟
تصبح الطبقة الوسطى مصدرا للتهديد ليس بفعل ذاتي، بل بسبب السياسات التي توجه لها، وأهمها المزيد من الضغوط الاقتصادية التي تكبلها بالديون والضرائب، والمزيد من تضييق الفرص والحد من سقف الطموح أمام أبنائها وفئاتها الجديدة، ما يزيد الشعور بين أفرادها بأن ثمة طرقا أسهل وأسرع لتحقيق الذات، متاحة بعيدا عن سلطة القانون والأخلاق، في الوقت الذي تتضخم فيه النزعة الاستهلاكية بين أفرادها، ووتراجع فيه القدرة على الادخار، وتخلط الأولويات. وعلى سبيل المثال، يتآكل الإنفاق العام على التعليم، بينما تتصاعد النزعة الاستهلاكية من دون أرصدة حقيقية. وهذا التشوه يقود إلى تنامي أخلاق جديدة وسط فئات هذه الطبقة، أهم ملامحها تآكل رأس المال الاجتماعي، وتراجع الثقة العامة، وارتفاع كلفة الائتمان في المعاملات المالية، وازدياد الجرائم الاقتصادية، فيما تزدهر النشاطات الاقتصادية غير المنظمة، والقائمة على الشطارة والفهلوة والتهرب الضريبي.
تنتج هذه الحالة مثقفون من طراز خاص، يصمت الكثير منهم على تزييف أولويات المجتمع، ويتوقف آخرون أمام الإشكالات الكبرى في التعليم والاقتصاد ودور الدين وغيرها من قضايا مركزية، لكنهم لا يخوضون المعارك كاملة، ولا يطرحون الأسئلة الحقيقية، ثم ينسحبون بسهولة أو يسارعون إلى الإجابات والأحكام المستعجلة التي تزيد المشهد تعقيدا.
لكي تزاح الغشاوات عن عيون الناس وتسقط الأوهام الكبرى الشائعة التي تملأ وعيهم بالضجيج، لابد أن تتغير العدة والعتاد، وأن تشهر الأسئلة حول المسائل كافة؛ تلك الأسئلة التي تستبيح الأفكار العتيقة والجديدة معاً: كتب الملل والنحل، والفرق، والفلاسفة، والمتصوفة.. المملوءة بالأيديولوجيا والخيال، والتي تدّعي جميعها امتلاك الحقيقة وتسويغ الوهم بالخلاص. وكذلك مراجعة التفاسير وشروح التفاسير وشروح الشروح والتعليق على الشروح وتفاسير التفاسير، والفلسفات الأخرى الكبرى والصغرى، الحديثة والجديدة، والنصوص الجديدة المفسرة التي أنجزها الآخرون حولنا. فلا يمكن الاستفادة من كل ذلك من أجل بناء الحاضر، إلا بتفعيل مشارط النقد وإخضاع الجميع لقانون الانتخاب الطبيعي الذي لن يشتغل إلا حينما يولد للتغيير حامل اجتماعي، حين يكون التغيير قضية المجتمع.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة