السبت 2024-12-14 09:23 م
 

مرّاكش .. التّاريخ في سكون: عندما تتحول ساعة اليد الى ساعة رملية!

12:27 م

الوكيل - للكاتب الإسباني ‘فرناندو دياث بلاخا’ مقال طريف حول مدينة مراكش، حاول فيه إبراز أنّ التاريخ في هذه المدينة العريقة ما يزال حيّا نابضا محتفظا بأصالته، وماضيه، وعاداته، وتقاليده منذ عدّة قرون خلت، يسلّط الكاتب الأضواء على مدى حقيقة التقارب والتداني اللذين يطبعان الشعبين الإسباني والمغربي، خاصّة بعد أن تشبّعت شبه الجزيرة الإيبيرية، وإسبانيا على وجه الخصوص بالإشعاع الحضاري الإسلامي زهاء ثمانية قرون.اضافة اعلان

الغوص في الماضي البعيد
يؤكّد الكاتب في هذا القبيل أنّ لإسبانيا مع جيرانها الثلاثة كما يحدث دائما – فرنسا والبرتغال والمغرب، معايشات، وصولات، وجولات، وذكريات لمعارك، ومواجهات إنتصرت في بعضها وإنهزمت في أخرى ، فمع فرنسا ما زال الإسبان يذكرون غزو 1808 حيث حاول نابليون تنصيب أخيه خوسّيه بونابارتي على التاج الإسباني. ومع البرتغال ما فتئ التاريخ يذكّرنا ولو بغير حدّة هذه المرّة ‘ بحرب البرتقال’ التي أعلنها السّخيف ‘ مانويل غودوي ضد إسبانيا وفرنسا عام 1801. في حين كانت مواجهات وعراك الإسبان مع المغرب أطول وأكثر شراسة وعنادا.
ويشير الكاتب ولنتوقّف مع هذا القرن، ناسين الحملة الإفريقية التي شاء وصادف الحظّ أن سجّلت بواسطة قلم ‘ ألاركون’، ورسمت بريشة الفنّان ‘فورتوني’، إنه لا تكاد تمرّ خمس أو عشر سنوات دون أن يشعر الإسبان بوجود أو حضور جارنا في الجنوب (المغرب) بين ظهرانينا : ففي عام 1909 برّانكو ديل لوبو (وادي الذئب) أو إغزار نأوشّن ، وفي عام 1921 معركة أنوال الشهيرة، وفي عام 1934 مغاربة في أستورياس، وفي 1936 مغاربة في كلّ مكان، وفي 1956 هجوم على سيدي إيفني، وفي عام 1975 المسيرة الخضراء…واليوم المطالبة بسبتة ومليلية والجزر المحاذية للمغرب.
على الرّغم من كلّ ما سبق، وحسب هذا الكاتب، فإنّ المواطن الإسباني العادي لا يشعر بأيّ نوع من الحقد والضغينة نحو ‘المغاربة’ الذين اعتاد الإسبان أن يدعوهم بشكل عشوائي ومبهم وببساطة ‘لوس موروس′، كما لو كانت أواصر الدم أقوى وأمتن، من ذكريات الحرب والمواجهة.
إنّ المواطن الإسباني يذهب إلى المغرب بواعز قويّ، وبفضول غريب ، وهو بذلك يبدو وكأنّه يشرئبّ بعنقه على شفا الزّمن ، ويطلّ على تاريخه الشخصي، أو كمن يغوص في ماضيه الخاص.
ويشير الكاتب : وبالفعل إنه إذا كان هناك مكان في العالم توقّف فيه العصر الوسيط بكلّ سحره، ورونقه، وبهائه ، فإنّ هذا المكان هو المغرب.



فاس ومرّاكش
فاس ومرّاكش في المدينة الأولى من هاتين المدينتين- يقول الكاتب – أوقفت المرشد السياحي عندما هممنا بالدخول في شارع ضيّق جدّا من أزقّة المدينة العتيقة، وأنا أشير إلى عود أو عمود من الخشب يتوسّط الزقاق، وقلت له :
– هذا الشارع الضيّق يغلق بالليل..؟!.
-أجل ، ولكن كيف عرفت ذلك ..؟
-لأنّ هذا ما كان يفعله سكّان قرطبة في القرن الثاني عشر.
نعم إنّ الماضي جاثم وقائم وكائن هنا. إنّ المسلمين عندما يطلقون البارود فإنّما هم يقومون بنوع من العروض العسكرية التي تصفها لنا المذكرات التاريخية القديمة العائدة للقرون الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر. إنّ المغرب بأجمعه إنّما هو نقلة نحو الأمس، إنّ التجوال في مدينة مرّاكش على سبيل المثال هو نوع من الانبعاث عبر نفق الزّمن الغابر. كلّ شئ ساكن، ثابت في الذاكرة والوجدان، وفي الواقع والحاضركذلك، إنّ المغرب هو المكان الوحيد في العالم الذي ليس فيه مجال لتكرار الصّور، وتوارد المعالم العمرانية، والمآثرالتاريخية لتنوّعها وتعدّد المناظر فيه وثرائها.
يقول الكاتب: إنّني إذا ما بنيت قصرا في المرتفعات والآكام الجبلية الاسبانية العالية ، فإنّ ذلك سيكون مثيرا للسّخرية، إلاّ أنني إذا شيّدت منزلا من هذا القبيل في مراكش- كما فعل بعض أصدقائي- فإنّ أحدا لن يضحك على محاولتي لإعادة إستحضار الماضي، ذلك أنّ الماضي في المغرب لم يمت. وهكذا فإنّ العمّال الذين ستسند إليهم مهمّة بناء الدار لا ينحدرون فقط من أصل هؤلاء العمّال الذين سبق لهم أن شيّدوا دور وقصور قرطبة وغرناطة ، بل إنهم سوف يقومون بهذا العمل المعماري بنفس صبر، وأناة، وفنيّة، ومهارة أولئك.
(إنّ المغربي الذي يبني ….مائة مثقال’ دوبلاس′ كان يكسب في النّهار….واليوم الذي كان لا يعمل فيه … نفس القدر الذي كان يخسره كذلك..! ).
ويضيف الكاتب قائلا ‘ بل إنّهم سوف يستعملون نفس المواد ،والأدوات التي إستعملت في قرطبة وغرناطة .إنّهم سوف يعيدون نفس اللّمسة والمهارة العريقتين القديمتين سواء بالنسبة لهؤلاء الذين يشتغلون بالطّوب، أو بالفخار، أو بالفضّة، أو الذهب.
إنّ الذي يتيه في فاس العتيقة يمكن له أن يجد نفسه في لمح من العين داخل زقاق لا مخرج له، سوف يغمره إحساس وكأنّه ثمل .
وبينما تكون لسعة رائحة الجلود المدبوغة تزكّم أنفه، فإنّ عينيه تملأهما ألوان قويّة مشعّة خضراء، حمراء، وزرقاء، تنبعث من مستودعات المياه، والحفر، والغمر حيث يتمرّغ الدبّاغون تماما بالضبط كما كان يفعل أسلافهم في هذه الحرفة في إسبانيا القديمة.
جامع الفنا..تراث إنسانيّ
إذا كانت ‘ساحة جامع الفنا’ الشهيرة بمدينة مرّاكش تراثا إنسانيا اليوم، تحت رعاية منظّمة اليونسكو العالمية، فالفضل في ذلك كما هو معروف يعود للكاتب الإسباني المعروف خوان غويتيسولو، الذي اختار هذه المدينة الساحرة مكانا أثيرا لإقامته، وعيشه، وإبداعه، ويقول الكاتب فرناندو ديّلث بلاخا : إنه لكي نغوص في عمق التاريخ، ونجول في الماضي البعيد، ونتسربل بردائه ينبغي لنا أن نقوم بإطلالة على السّاحة العمومية الكبرى بمرّاكش التي يطلق عليها سكّان هذه المدينة إسم ‘ساحة جامع الفنا ‘، إنّ ساعة اليد في هذا المكان السّحري قد تحوّلت إلى ساعة شمسية، أو مائية، أو رملية، إذ نشعر ونحن في خضمّها أنّنا قد عدنا الزّمان القهقرى مئات السنين، إنّها السّاحة التي تروى فيها (بضمّ التاء) قصيدة ‘السّيد’ و’لاثيليستينا’ و’كورباتشو’، إنها ساحة شاسعة، واسعة، كاملة، وشاملة تماما كما كانت موجودة من قبل عندما كان عنصرعدم الرّاحة غير متوفّر في الدّور،والقصور، وفي المساكن، والمنازل فإنّ هذه الاخيرة كانت تقذف بالناس منذ الصباح الباكر إلى الشارع حيث تتجسّد الحياة الدائمة الدّائبة اليومية للمواطن، هناك يمكنك أن تأكل، وتشرب، وتفاوض، وتناقش، أو أن تلهو. الكبار من أجل المال، وقوت اليوم، والصّغار من أجل التسرية والتسلّي، وفوق ذلك كلّه ترى أشياء مثيرة في أغرب عروض حلقية (نسبة إلى الحلقة) في العالم. حيث يغدو الشارع شبيها بسيرك كبير مقسّم إلى أطراف، وأجزاء ،إلى أناس يتجمهرون زرافات ووحدانا في كلّ مكان ،تتوفّر فيه جميع الاذواق التي تستجيب لكلّ الرّغبات والأهواء، وترضي كلّ الأعمار.
هناك تجد الرّجال البهلوانيين، ومروّضي الدّببة (كذا)، والقردة، والمعز، هناك يوجد الباعة والمشترون تتخلّلها تلك المناقشات و’الشطارة’ اليومية، و’المساومة’ الدائمة التي لا تنتهي حول الأسعار التي تشكّل جزءا مهمّا جدّا من الحياة الإجتماعية للمواطن المغربي، وللأجانب كذلك اليوم. ..!
حفظك الله يا رجل، كيف ترفض شراء شيء فقط لأنه قيل لك أنه باهظ الثمن..؟!
إنكم سوف تهينون البائع حتى الموت، هذا الذي يساوم بدوره حتّى على كأس الشّاي، سبب وجود وقوت بائعه اليومي..!
كذلك نجد هناك علاوة على ما سبق هؤلاء الذين يجمعون بين ماضي الأمس، وحاضر اليوم. إنهم ‘ الحلائقيون’ الذين يروون أبهى القصص، وينسجون أغرب الحكايات الأسطورية تماما كما كان يفعل أجدادهم في القرون الوسطى. إنّ الأغلبية السّاحقة للمستمعين المتفرّجين والمتتبّعين لهذه القصص مثل سابقيهم لا يعرفون القراءة ولا الكتابة ،ولهذا فإنّهم يسعون إلى إشباع الأذن بما لا يستطيع المتفرّج أو المتتبّع الوصول إليه، أو الحصول عليه بواسطة العين، إنهم هناك مشدوهون، مشدودون، مندهشون، يقظون، وقد كوّنوا حلقة مستديرة بإحكام حول الرّجل الذي غالبا ما يكون طاعنا في السنّ، أو نازلا من أعالي الجبال، يحكي بوتيرة مسجوعة ومنغّمة قصصا مثيرة، وحكايات مدهشة، وأساطير مهولة تدور حول أميرات حسناوات صاحبات العفّة والصّون، وربّات الدلال والجمال، كما أنه يحكي عن الأشرار الذين يرجّحون كفّة الشرّ على جانب الخير، وحول الفوارس المغاوير، والفرسان الشجعان الذين يرفعون عاليا ألوية الخير، ورايات النبل، وبنود الكرامة الخالدة منذ الأزل.
بنفس أسلوب التغنّي الذي طبع حكايات ‘السّيد’ يجعلون المستمعين يعيشون في كلّ لحظة وحين الموقف المرويّ. أتذكرون…؟ ‘سوف ترون سهاما ونبالا تصعد وتهوي’ عندما يتمّ وصف المعركة، أو ‘آه لو حضر السّيد القمبيطور’.. هكذا يقال عندما يكون الرّاوي يكاد أن يوشك من الإنتهاء من روايته – ومثلما كان يحدث في القرن الثاني عشر- يمنحه المستتمعون المتتبّعون في الأخيربضع دريهمات، ثمّ يعودون إلى دورهم ليحلموا بما سمعوا، بينما يكون المتفرّجون الأجانب نحن المسيحييّن الغربييّن ندلف إلى غرفنا في الفنادق، لنعود ونسقط بعنف على القرن الواحد والعشرين..!.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة