السبت 2024-12-14 12:51 م
 

مسرحية ‘المفتش العام’ .. وعجلة الفساد

04:19 م

الوكيل - حين يذكر الأدب العالمي يتبادر الأدب الروسي إلى الذهن فورا. وعند النظر إلى هذا الأخير، يطل علينا الكاتب نيقولاي غوغول من أعلى ذروة فيه. وبالتقليب فيما تركه غوغول من أعمال، تظهر مسرحية ‘المفتش العام’ كأثر فني بارز. وكغيرها من الآثار الإبداعية الكبيرة، مازالت هذه المسرحية التي ألفت عام 1835 تحتفظ ببريقها الفني وتبدي جاذبيتها للقراء. فالفكرة التي تتناولها المسرحية تنتمي إلى صنف الأفكار المجبولة بنزعات إنسانية ناصعة والمصاغة بأسلوب فني أخاذ وذوق أدبي رفيع ممتع وسهل الإقناع.اضافة اعلان

وترصد المسرحية قضايا مازالت منتشرة ومتأصلة في مجتمعات اليوم ولو أنها تسربلت بلباس جديد واتخذت أشكالا أخرى. فزمن الإقطاع الذي كتب فيه غوغول وعبرت جل أعماله عن آثاره التي حفرت عميقا في نفوس الأفراد ووسمت المجتمع بميسمها، تتواصل خصائصه وأخلاقياته في راهن حياتنا وتتفشى أمراضه في عنابر أيامنا. الفساد المؤسساتي هو عنوان مرحلة الإقطاع، وهو طائر الشؤم الذي يحلق فوق الأزمنة ويحط في المكان المشئوم لينعب فيه.
‘تتقطع السبل بالشاب خليستاكوف في مدينة هامشية بينما كان مسافرا من العاصمة وقاصدا مسقط رأسه. متوسط الحال، يعتني بمظهره ويلتزم بعادات لهوه أشد التزام… وها هو وقد بدد آخر ما لديه في ‘شدة ورق’ لا يملك ما يسد الرمق. ولكن ومن حيث لا يدري، تسّخر له الأقدار مخرجا من وضعه، إذ يرتفع إلى علم حاكم المدينة أن مفتشا عاما من العاصمة في طريقه إليهم، ما تلبث الأنظار بعدها تتجه إلى خليستاكوف والظنون تحوم حول شخصه. وفي معمعة الهواجس ودبيب المخاوف، يُبت في أمر الشاب الغريب ويستقر رأي الحاكم وأعوانه في أن خليستاكوف هو عينه المفتش العام، متخفيا ومتواريا في غرفة فندق لا يليق بمقامه. عندئذ تبدأ مراسيم التستر على عيوب المدينة وتفرض الإجراءات لمداراة مساوئها وتبذل المساعي لإخفاء التظلمات المتربصة بالحاكم والمسوولين… ولو إلى حين. في أثناء ذلك تبذل إدارة المدينة المستحيل للتقرب من مبعوث العاصمة والتذلل له والاعتصام لإمرته وخطب وده ونيل رضاه وإشباع رغباته ودهن يديه بالأموال. يتمدد خليستاكوف على البساط الوثير الناعم الذي فرش له ويستفيد من العناية التي أحيطت به والدلال الذي أغدق عليه ما استطاع إلى ذلك سبيلا. ثم أن خادمه الذي شبع هو الآخر بعد جوع واستراح بعد مشقة ينصح سيده بأن موعد الرحيل قد أزف وعليهما مغادرة المشهد. وبجيوب حبلى بالنقود وعربة محملة بالهدايا تجرها أقوى الخيول، يودع خليستاكوف حكومة المدينة ويختفي في الأصقاع الروسية. وبعد أن ينجلي غباره، يأتي خبر وصول المفتش العام الحقيقي لينزل كالصاعقة على رؤوس القوم المخدوعين… والمخادعين’.
إن مفردات العجز الخلقي أمام السلطة كالتزلف والممالأة والاستعطاف والخوف المرضي والوصولية وتبرير الرشوة وتسويقها وتغليب المصالح الضيقة كما صورها غوغول في مسرحية المفتش العام (وفي العديد من أعماله) بأسلوبه الواقعي المرهف ليست محصورة على زمن الإقطاع الروسي، فقاموس مجتمعات اليوم في الدول التي تحكمها أنظمة أبوية، بطريركية ملئ بها، وعجلة الحياة فيها غارقة في وحل الفساد، والروح الجمعية لا تجد غضاضة في تقبل واقع الحال، أو أنها، وفي أحسن الأحوال، تغض الطرف عن تردي المعايير الأخلاقية وتضع حجابا واهيا على مشهد تفسخ القيم. في هكذا مناخ تغدو لحظة الحياة التي يفترض لها أن تكون مشبعة بقوة المعاني ومرتوية برغبة حقيقية وجريئة لرؤية المستقبل، تلك اللحظة تغدو آنية ومنقضية ويصير الحاضر مجرد تعاقب أيام لا تأتي إلا لتنقضي.
*كاتب عماني


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة