الأحد 2024-12-15 02:30 ص
 

هشام علوان في مجموعة جديدة للصغار : ‘فاتي أسد نباتي’ … والكتابة بنبض الطفولة

06:46 م

الوكيل - الكتابة للطفل فخ كبير يقع فيه الكاتب أحيانا كثيرة، فلابد للكاتب بكل ما يمتلك من فنيات أدبية أن يحرص ويتفاده، ونلاحظ اليوم أن غالبية كتُاب الأطفال، وخاصة بعد ‘ثورة 25 يناير’ يقفزون على كل التلال الفنية بلغة مراوغة.اضافة اعلان

فتراهم يسعون للعب على أوتار الخيال والجمال والأخلاق والعلم والثورة والمقاومة خوفا من الاعتقاد بأن الطفل لم يعد طفلا، بل حولته الأحداث والتكنولوجيا إلى عقل واع يفرض على الكتُاب نوعا من الكتابة الفضفاضة الموجهة للكباروالصغار، والمتسعة لفضاء التأويل، والكاتب ‘هشام علوان’ هو أديب وإعلامي مصري، له مساهمات صحفية مرموقة، حيث عمل بصحيفة الخليج الإماراتية، وهناك حصل على جائزة تريم عمران، له عدد من الأعمال الإبداعية، أهمها رواية ‘واحة الخصيان ‘ والتي أعاد نشرها ببعض التغييرات تحت اسم ‘ المواوية ‘ ثم نشر روايته الهامة ‘ تحول الكائنات ‘ التي نشرت عدة مرات، ومؤخرا أصدر رواية ‘دفاتر قديمة’ له عدة أعمال للأطفال منها مجموعة فازت بجائزة الشارقة بعنوان ‘حكاية طائر النوم’، وصدر له من قبل عن كتاب قطر الندى مجموعته للأطفال ‘قاطرة الخيال’ وأيضا ‘خيال ظل المهرج، للأطفال’
وفي مجموعة هشام علوان الأخيرة للأطفال ‘فاتي أسد نباتي’ والصادرة حديثا من سلسلة قطر الندى برسوم الفنان محمود إبراهيم، يتخذ الحديث وجهة أخرى تصديقا لقول الباحثة ‘شارلوت هاك ‘(Charlotte Hak) أن أدب الأطفال هو كل ما يقرأه الأطفال بشرط أن يكون مناسباً لفهمهم وخبراتهم وانفعالاتهم’، والحقيقة: فقد انتمى الكاتب هشام علوان إلى الطفل انتماء لغويا ونفسيا ،وامتازت مجموعته بالخصوصية الشديدة ‘للطفل’ وعالمه الطفولي، ويتجلى هذا القصد منذ اختياره الذكي للعنوان ‘فاتي أسد نباتي’ والذي يفتح شهية الطفل للدخول إلى عالم القصص.

على أعتاب الحدوتة

‘فاتي أسد نباتي’ مجموعة تتكون من ثلاث قصص، منسوجة بلغة تحتضن الطفولة، فالقصة الأولى ‘العجوز التي هزمت التمساح’ قصة قد داعبت خيال الطفل لتهيئه وجدانه لفن الحكي ببدايتها ‘سأحي لك قصة العجوز التي تراها، ويستطرد الكاتب ‘يحكى أنه في جنوب مصر توجد قرية و….’، وينسج الكاتب الحدوتة بمهارة فنية برسم الخلفية التي يعشقها الطفل ‘بيئة الحيوانات والطيور والماء والطبيعة، ثم يبرق السرد اللطيف، لينزاح بقصة التمساح الذي يخيف أهل القرية ويزرع في قلوبهم الرعب بالتهام خرفانهم، وحيواناتهم كلها، وتبدع لغة الكاتب في تصوير الحدث ببساطة للطفل المتلقي بجملة ‘هلك الزرع ..والماشية وسنموت نحن أيضا’، حينها يشعل الكاتب فكر الطفل ليشاركه معه في عقدة القصة بجذب تركيزه قبل خياله بعرض الحلول المقترحة للقضاء على التمساح الشرير ‘بطل الحكاية ‘، حتى يطرق الكاتب بنعومة راقية باب الافتراض’ بأن عجوزا يمكنها حل اللغز′ حتى يستحوذ على كل حواس الطفل الذي بات ينتظر مفاجآت الكاتب الجميلة حتى يدخلهم معه في سياحة التجربة والترقب، وكأن الطفل قد قفز من موقعه ليتنقل بين كلمات القصة مع الحشد المنتظر، شوقا بجملة ‘ماذا ستفعل العجوز′، حتى يدرك المطاف الأخير بتدبيرها لحيلة عجيبة ،وهي ذبح خروف وفتح بطنه وإخراج ما بها كي تضع فيها كمية من الجير الحي داخلها ثم تخيطها بخيط شفاف، وما أن يلتهمه التمساح حتى يهلك، فيهلل الطفل المستمع المستمتع المشارك في الحدث بفرحة طفولية حبا لقصص الكاتب، بينما نجد الكاتب’ هشام علوان ‘ينتقل لمستوي خيالي أعلى من القصة الأولى في قصة’ الذئب والحلوى’، ويسير في دروب القصة بوعي كبير ،وفنية أكبر، ليعقد ارتباطا خفيا لدى الذئب، بين الخوف والحلوى، حتى يمد جسر الالتقاء بين الكلمتين ليدرك الطفل، المراد المقصود من هذا العنوان بقصة شيقة معتمدة على التخيل المدهش، وذلك بتصويره لذئب يبحث عن فريسته فيفشل في الحصول عليها حتى يقفز إلى سطوح أحد البيوت ليستقر في حظيرة الحيوانات، فيأتيه سوط من صاحب المنزل، حتى تصحو الأم على صراخ وليدها الذي تهدده بأن الأسد سيأكله وكذلك النمر والذئب، إذا لم يكف عن البكاء، ولا فائدة من انقطاع البكاء، حتى تطلب منه الهدوء لتحضر له الحلوى، فيسكت الطفل فرحا بهذا، لكن الذئب يدهش من عدم خوف الطفل من حضور الأسد والنمر والذئب، لكنه يسكت عند سماعه بحضور الحلوى، فيخاف من هذا المجهول ‘الحلوى’ ويعتقد أنه كائن مفزع شرس. بينما في قصة عنوان المجموعة ‘فاتي أسد نباتي’ يلعب الكاتب على وتر البيئة المعاشة والطبائع الاجتماعية، ومدى تأثيرها على تربية الكائنات، وذلك بتصوير قصة أسد صغير قد عثرت عليه غزالة فربته تربية مسالمة، وكانت تطعمه من غذائها ‘النباتات’ حتى كبر وامتلأ قلبه بالحب والسلام، وقد تتماس قصته ولو من بعيد مع قصة ‘حي ابن يقظان’ لكن الغابة تتعرض لهجوم من أسد آخر قوي فتطلب الغزالة من أسدها التصدي له، فيكتشف أنه نباتي، ولا يأكل اللحوم ومسالم وليس فيه من صفات الأسود شيئ، فتقنعه بأن يمثل الشجاعة باعتدائه على وحيد القرن، في شبه تمثيلية معدة ليقنعوا بها هذا الأسد المهاجم حتى ينجح بالفعل وتصفق له الحيوانات، وتخلق الروايات والحكايات التي تمجد من شجاعته، هنا يؤكد هشام علوان بمهارة سردية وبساطة فنية ولغوية وبدرجة قصوي قول ‘دكتورعلي الحديدي عن أدب الطفل’ أنّه: شكل من أشكال التعبير الأدبي، له قواعده ومناهجه، سواء منها ما يتصل بلغته وتوافقها مع قاموس الطفل، ومع الحصيلة الأسلوبية للسن التي يؤلف لها، أو ما يتصل بمضمونه ومناسبته لكل مرحلة من مراحل الطفولة، أويتصل بقضايا الذوق وطرائق التكنيك في صوغ القصة، أوفي فن الحكاية للقصة المسموعة’.

المشاهد الثرية داخل القصص

الحكاية لدي ‘هشام علوان’ حكاية تنفلق لتشع منها حكايات أخرى تخرج من رحم القصة الأولى فتطوف بالطفل في عوالم تتميز بسمات وإنسانيات عديدة، فالمشهد القصصي المرسوم للطفل، يجدله الكاتب بمشاهد تشد من آزره لتفتح الآفاق والفضاء الخيالي للطفل، لتدخل المتعة قلبه، فمنذ القصة الأولى ‘العجوز التي هزمت التمساح’ حتى القصة الثالثة ‘فاتي أسد نباتي، يتخذ الكاتب من الفكرة مسرحا سرديا حيا، ليعرض قصته ،مثلاعلى لسان الحيوانات تلك الكائنات المحببة للطفل ففي قصة ‘فاتي أسد نباتي’ يعرض لنا الكاتب منظرا للغابة ،مجسما كل ما بها من مناظر طبيعية خلابة ،ناطقة ملموسة، حتى تجد الغزالة ذلك الشبل الصغير ‘فاتي’ بلغة نامية تجذب الطفل للسكون داخل جمالها ‘كان يحبو بين أعواد البامبو’، يعشق فاتي الفراشات الملونة، يتأملها ويندهش لجمالها، حتى تقفز اللغة المعجونة بالحس الإنساني التي طالما يفتش عنها كل طفل ‘كبر فاتي وأصبح أسدا قويا يحمل كل صفات الأسود الشكلية’، وهنا يستعد الجميع لمشهد آخر، وهوحدوتة منبثقة من الأولى، وهي قصة الأسد المفترس الذي سيهاجم الغابة حتى يصور لنا الكاتب بلغة عذبه صافية، كيف تربي فاتي على الرقة والدعة ليعرض لنا مشهدا ثالثا، وهو ‘مشهد الحيلة والخطة’ التي دبرتها الغزالة لينتهي الأمر كله براحة نفسية للطفل، وفي قصة ‘الذئب والحلوى’ برع ‘هشام علوان’ في انتزاع كل طاقات الطفل العقلية والنفسية والخيالية بحس فكاهي طريف ‘لتتبع الحدث الغريب، وبدأ برسم المشهد الأول لذئب، وهو يتسلل القرية القريبة حتى يقع في الحظيرة، بلغة بسيطة واضحة تصادق الطفل بعذوبتها، ثم مشهد الأم وبكاء الطفل في لقطة أخرى، ‘واستيقظ ابن صاحب البيت وكان صغيرا فأخذ يبكي بصوت عال، ثم ‘مشهد الذروة’ وكأن الأطفال يلتفون حول الكاتب لمعرفة النهاية التي تسير في خطين متوازين معا هما حديث الأم مع طفلها لتسكته، وحديث الذئب مع نفسه ‘المناجاة النفسية’ ومدى خوفه من الحلوى التي هي مصدر سكوت وفرح الطفل، هنا تبرع لغة الكاتب في صياغة هذه التوليفة الغريبة وهذا الترابط الخفي بين الذئب والحلوى، أما في قصة ‘العجوز التي هزمت التمساح’ فهي مشاهد ما أن يقرأها الطفل حتى يشعر ببروز الكلمات على هيئة صور مجسدة ليلمسها بيده، فقد رسم الكاتب بلغته مشهد القرية الجميلة المطلة على نهر النيل وبجواره الماشية والبط والإوز والناس، وأهل القرية رسما ماهرا حيا ثم يردفه بمشهد الحبكة القصصية ‘التمساح وخطورته وصيده لأحد الصيادين الذي نجا، ووكذلك ابتلاعه للخرفان والماشية، ثم مشهد الخاتمة الجميل باجتماع أهل القرية كلهم، وذهولهم أما م ما فعلته تلك العجوز بذكاءها مستدعيا الصفات الشخصية التي خصها بها الكاتب، جعلت الطفل يترقب فعلها بكل تشويق، وساعده على هذا، بساطة وعفوية و فنية رسومات الفنان ‘محمود إبراهيم’ الذي ترجم روح القصص بحس عالي، فقد مهد الطريق برسوماته المجسدة لطبيعة القصص أمام الطفل ليتجول بين أروقه القصص مستمتعا بذلك الرسم الذي يعد لغة أخرى تقدم للطفل لتكتمل المتعة.

اللغة المصادقة للطفل

استطاع ‘هشام علوان’ من خلال ثلاث قصص، أن يحقق لغة التواصل بين الأطفال، فاللغة منتمية للحدوتة انتماء خالصا لا تشتت فيه، ولا انزياح ناحية فضاء آخر، وهذا غاية ما يريده الطفل، فقد حققت مجموعة ‘ ‘فاتي أسد نباتي’ الامتلاء النفسي واللغوي ببساطته للطفل، كما يؤكد على هذا المعنى دكتور ‘مصطفى ناصف ‘بقوله ‘الثراء أو الامتلاء اللغوي لابد له من قدرأو نوع من الدقة، وإلا اشتبهت الفجاجة والبصيرة ‘فقد تزينت لغة الكاتب برداء الوصف المحبب للطفل، والذي يثير مخيلته دون إجهاد ذهني أو لف ودوران إدراكا لنفسية الطفل التي تحب الصورة المرسومة بالمعنى أولا لتصادق الفعل بعدها وتقبله، وكما قال فرويد ‘والرأي عندي أن تبعد حراس الفكرعن الأبواب حين يبدع ذهنك، وتدع الخواطر تتدفق كالموج، وبعدئذ ينظر الفكر ليتفقد المجموع ‘.
كوصفه لحال ظهور التمساح ‘ فظهرت كتلة كبيرة سوداء جعلته يتراجع فزعا ‘، بينما تأتي لغة الوصف مترجمة لصورة العجوز بطله القصة الأولى’محنية الظهر، تمشي على عجاز خشبي ملفوف بالأقمشة الملونة ‘حتى تعلو لغة الوصف لديه بما يناسب الطفل، بإضفاء صفات غريبة على غير صاحبها، كوصفه للحلوى ‘بأنها كائن مفزع شرس′، وما أذكي الكاتب عندما أفنى خوف الطفل من الذئب بحس فكاهي رائع ليخرج الطفل منتصرا على الذئب بطل الحكايات المرعبة بفكاهة وسخرية ويظهر الذئب جبانا لخوفه من الحلوي، وتلمح فنية ‘هشام علوان’ أيضا في معرفة، ماهية اللفظ، ومدى تأثيره النفسي على الطفل، فتراه في حديث على لسان الذئب عن الأمر الذي تخيف به الأم ابنها حتى يسكت عن البكاء، يستحضر جمل ‘أمرته أن يسكت وإلا جاء الأسد وأكله.. وإلا جاء النمر وأكله، وإلا جاء الذئب وأكله’ ثم يعلي بذوق وجمال من قيمة الجملة المناسبة لوجدان الطفل ‘اسكت .. سأحضر لك الحلوى’، ولم يقل
وإلا جئتك بالحلوى ‘فالفعل الماضي’ جاء ‘موظفا في جملة استقبالية، قد يحدث دون تدخل، أما ‘المضارع أحضر’ فهو المشاركة من الأم له، ثم يداعب الكاتب سمات الطفولة بوصفه ‘فاتي’ كان شبلا صغيرا مغمض العينين، يحبو بين أعواد البامبو، وهكذا يستنطق الكاتب بلغته نبض الكائنات ويجسمها للطفل بروعة وصفها، صانعا للطفل عالما من الخيال والتخيل حتى يعيش بعقله ووجدانه داخل القصة الحدوتة، كما يقول ‘كِنت’ أن الخيال يسهم إسهاما أصيلا في تكوين عالم الطفل ‘ليتمنى الطفل فعلا ضرب الذئب بالسوط ليكون هو ‘الحلوى التي تضربه’ والتي تسكت الطفل ويستمر الطفل طائرا بخياله المنتامى، ليفكر ويقترح مع أهالي القرية ليقضي على التمساح الشرير، فتراه يصفق مرة إعجابا بمهارة الكاتب ،ومرة حبا في العجوز الذكية، ثم يحلق بخياله ليصارع مع ‘الأسد فاتي’ ذلك الشجاع الذي أسقط عليه الكاتب كل الصفات الإنسانية ليتخلى عن شراسته ،ويسكن دنيا الطفولة والحب، وتتجول لغة الكاتب مصبوغة بروح التعاون والمساعدة والتصدي والشجاعة، لتنثر معان تربوية في نفس الطفل الذي جعله الكاتب، بطلا مشاركا في الحدث، مصادقا للطبيعة، محبا للحيوانات، مهللا للخير،كارها للشر، وبذلك فقد عقد الكاتب ‘هشام علوان’ في هذه المجموعة صفقة ودوصداقة مع الطفل بلغته المنتمية للطفل بحسه وبخياله اللذين سكنا دنيا الطفل، إيمانا بقول دكتور عبد الملك مرتاض ‘السحر اللغوي إذا غاب عن العمل الأدبي غاب عنه كل شيء: غاب عنه الفن وغاب عنه الأدب معا’، فعلها هشام علوان في الوقت الذي تتماهى فيه الكتابات المقدمة للطفل حتى تفقد ماهيتها الفطرية.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة