بعد ما يزيد عن أربعين عاما قضاها (حسن) في وظيفته العامة أحيل على التقاعد، لبلوغه سنّ الستين. وفي يومه الأول بعد التقاعد جلس (حسن) على أريكته يشرب قهوته الصباحية، يرفع فنجانه الذي يتصاعد منه البخار، وينفخ عليه بنفَسِه الذي بدا ضعيفا، فقد مشت عليه الأيام والسنون حتى أرهقته، ثم يشرب محدثا صوتا يوقظ النائم ويزعج القائم.
لا عمل اليوم، اليوم أستريح، قالها مخاطبا نفسه، ثم أطلق العنان لذاكرته البعيدة وصار يتذكر كيف أنه وُلد في عائلة فقيرة الحال، وأنه واحد من سبعة أولاد، وأنّ والده يعمل بائعًا متجوّلا، يكسب قوته بالحلال من عرق جبينه، حيث استطاع أن يوفّر وجبتين في اليوم فقط، الحمص مع الفلافل على الفطور، والعدس أو المجدّرة على الغداء، ويكون النوم يوميًّا بلا عشاء.
علت الابتسامة وجهه حين تذكر المسافة الطويلة التي كان يمشيها للمدرسة بما يسمى حذاءً من باب المجاز، حيث كثرة الثقوب فيه حوّلته لنعل من أقبح النعال. لكن أحلامه وآماله كان تهوّن عليه هذا الطريق الوعر الذي كان يسلكه، وظلّ صاحب همة حتى أنهى دراسته الجامعية بتفوق، حيث لم يجعل الفقر أو العوز في يوم من الأيام حاجزا يمنعه من الوصول إلى غايته المنشودة.
زادت ابتسامته عندما تذكر أول يوم له في الوظيفة، وكيف كانت بداية لحياة جديدة، أسس بعدها أسرته المكونة من زوجته هدى، وابنه علي وابنته فاطمة. هذه الأسرة التي كانت مركز حياته، يعمل الساعات الإضافية من أجلها، ويحرم نفسه اللباس، والتنزه ليوفر لها احتياجاتها، فهو لا يريد أن يعيش أولاده عيشة الفقر والفاقة التي كان لها أثر واضح في جبينه ووجه. تعوّد على الفقد والحرمان، فصارا صديقين مخلصين له، لكنه لا يحب لأسرته الصغيرة رفقة السوء هذه. فعمل جاهدًا دون تعب أو كلل، حتى تخرّج ولداه، وتزوّجت فاطمة ورحلت مع زوجها إلى الكويت، وتزوّج علي وسافر إلى الإمارات. السعادة التي كان يتمناها لولديه رآها بأم عينيه، شهادات جامعية، ووظيفة محترمة، وأسرة، وشعر بفرح لأنه قد أدى الواجبات المنوطة به كأب بنجاح.
وانتقل (حسن) من ذاكرته البعيدة إلى القريبة، فتحولت ابتسامته العريضة إلى عبوس يطوي حزنا يغشى وجهه المتعب بثقل الأيام والأعوام، ففي العام الماضي وأثناء خروج زوجته إلى السوق لشراء الأغراض تعرضت لحادث دهس سلب منها روحها، وسلبه أجمل ما كان لديه في هذه الدنيا، زوجته وأمّ أولاده ورفيقة دربه، وبدأت دموعه الساخنة تعانق القهوة في الفنجان، وهمس لنفسه قائلا: فقدت روحي، لكن كيف يعيش الإنسان بلا روح؟ ألا يكفي تعب السنين وكل الفقد والعوز، ألا يكفي أنّني حرمت نفسي من كل لذة تاقت لها من أجل أسرتي، لكن أين هي أسرتي؟ ماتت زوجتي، وسافر الولدان، وها أنا أعيش وحيدا بين جدران الشقة التي اشتريتها بأقساط امتدت إلى عشرين سنة، وليس معي فيها إلا ظلي، أخاطبه ولا يجيبني. هذه الجدران التي كنت أحبها لأنها تأويني وأسرتي أراها اليوم كجدران الزنزانة تحيط به، وتكاد ظلالها تطبق عليّ وتخنقني، هذه الشقة صارت كبيْتِ الأشباح لا أثر لصوت أو حركة، كأنها قبر موحش دُفن فيه أحد الأحياء.
وقف(حسن) ونظر إلى صور زوجته وأولاده المعلقة على الحائط وخاطبها: أين أنتم يا أحبابي، لماذا تركتموني وحيدا، هل أخطأت عندما قدمت التضحيات تلو التضحيات من أجلكم، لأكون اليوم وحدي بين الجدران أنتظر ملك الموت فقط، هل هذه هي الحياة؟
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو