الوكيل - عنوان فيلم هيتشكوك مثلما هو دلالة مبسطة عن مشروع قصة بيوغرافية عن المخرج العالمي هو كذلك رسم لأبعاد التحديات الشكلية والتعبيرية لفيلم ساشا جيرفاسي.
هذه المعادلة اللغوية المبنية على الاسم والإضافة كـ ‘فيلم هيتشكوك’ إشارة تقديمية قوية إلى أرضية الإلتباس التي ميزت سينما هيتشكوك عموما، وأخذت شكلا أكثر فصاحة في مرحلة سايكو والطيور Birds. هذه التركيبة اللغوية تحطنا مباشرة أمام رعب المفارقات الهيتشكوكية حين تصبح العلاقة بين فيلم وهيتشكوك معقدة بسبب ما تقترحه وما تفتح وتحد من مجالات للقراءة. هل هيتشكوك هنا صاحب الفيلم أم موضوع الفيلم؟ هل هيتشكوك هنا مادة مضامينية أم تنويعة شكلية؟ لكن هذا الالتباس – هذا الشرط الإبداعي المباعدحداثي- يعري حقيقة لن يتوانى فيلم هيتشكوك في تأكيدها، وهي أن كل فيلم عن هيتشكوك، مقتبسا كان عن هيتشكوك، أو عن مصدر يتناول هيتشكوك، هو فيلم لهيتشكوك قلبا إن لم يكن قالبا.
في سياق الالتباس هذا أشار سلافوج جيجيك Slavoj Zizek إلى استعصاء، أو عدم جدوى، أية عملية إعادة صياغة remake لعمل هيتشكوكي، فقط لأن نتيجة هذه العملية مرهونة مسبقا بالفشل. فهي بأكثر ما تلغي بصمة السينمائي المُقلد، بكسر اللام، تكشف أثر هيتشكوك كسينمائي مقلَّد. في كل ريميك لهيتشكوك يختفي الفيلم ويظهر فقط هيتشكوك. إشارة جيجيك تجد تعبيرية قوية داخل فيلم هيتشكوك. في اللحظة الفيلمية التي كان فيها هيتشكوك الشخصية يستحم ويقرأ الجريدة يسأل معلقا على عنوان مقال نقدي، ‘رواد التشويق الجدد’، بنوع من التهكم والتحدي: ‘ لماذا يهتمون بالنسخ والاصل مازال موجودا’. تكثف العوالم المحيطة بسياق هذا السؤال من دلالته في سيميائية الفيلم بشكل يرسو على ما أشار له سلافوج جيجيك. ففضاء الحمام الذي ورد كثيرا في حوارات هيتشكوك كمجاز عن هوسه الشرجي بالنظام وترتيبه للأشياء بشكل قد يخفي أي أثر لاستعمالها، وكمسرح لأعقد لقطة سينمائية في تاريخ السينما، مقتل ‘جانيت لي’ في سايكو، يجعل تساؤل هيتشكوك يُحمل على ما هو أبعد من نسبية السؤال إلى مطلق الحقيقة التي مفادها أن سينما التشويق تعدلت مع هيتشكوك بشكل يجعل بصمته بادية رغم محاولة إخفائها بأية لمسة تأليفية خاصة. وهذه حقيقة لا تؤكدها الدراسة المنقبة عن أثر هيتشكوك في سينما الآخرين، وإنما الفيلموغرافية التي حاولت عبثا تجاوز هيتشكوك في سياق الرعب والتشويق. علاقة هيتشكوك مع سينما التشويق والرعب هي علاقة دون كيخوتي، وألف ليلة وليلة مع الرواية الأدبية. حتمية ‘الرميك’ دائما واردة، وأحيانا بالوعي التأليفي، وبمقصودية تناصية، كما هو صراحة في سينما الفرنسي كلود شابرول.
التباس آخر يؤثت له العنوان هو هذا الذي يعتري بطل فيلم هيتشكوك، أنتوني هوبكينس Antony Hopkins هذا الأخير تجمعه مع شخصيته علائق تتشابك واقعيا في الأصل الإنجليزي لكليهما، واشتغالهما مع المؤسسة الهوليودية الأمريكية، وسينمائيا في شخصية أكد من خلالها هذا الممثل العملاق، حضوره المتميز في السينما وهي شخصية هانيبال ليكتور في فيلم صمت الحمل The Silence of The Lamb للمخرج جونثان ديمي Jonathan Demme إضافة إلى كون هانيبال ليكتور شخصية هيتشكوكية بامتياز، فيها يجتمع المتحري والمحلل النفسي والمجرم في نفس الآن، تجتمع مع شخصية هيتشكوك في فيلم جيرفاسي في هذه النظرة الجمالية والشاعرية للجريمة. كلاهما يتفنن في تحويل الجريمة إلى ‘مسرح’ بالمعنى المشهدي والفرجوي للكلمة. أنتوني هابكينس يخترق كذلك عوالم المخيال الملتبسة الهيتشكوكية بامتياز ليعود مرة أخرى ليدرس المجرم التسلسلي ‘جون غامب’ الذي يجد مرجعيته في ‘إيد غين’ الذي ألهم شخصية نورمان بيت في فيلم سايكو. تداخل الذات الدارسة للجريمة في نفس الشخص عبر شخصيتين فيلميتين لموضوع الجريمة المتحول هو الآخر عبر عدة أقنعة سينمائية، يقحم الأداء السينمائي هو الآخر في دائرة التعالقات الفيلمية التي تفعل سينما هيتشكوك باعتمادها الذاكرة التناصية التي تتجاوز الفيلم إلى السينما، ومادة الفيلم إلى الترابطات في ذاكرة المتلقي. دور هيتشكوك يقترح نفسه كشفرة فيلمية لفتح هذا المجال الفيلمي الذي تختفي فيه خيوط التمييز بين الشخصية والمؤلف، بين الممثل والمخرج، وبين الواقع السينمائي والواقع العيني الذين تنهل منهما هذه البيوغرافية الفيلمية.
سطحية الخطية الحكائية التي ينم عنها عنوان ‘هيتشكوك’ تعد المتلقي بمادة مشوقة عن معلم التشويق تعرض لأهم محطات حياته وتتفضل بمفاتيح دلالية تزيح ستار اللبس عن موضوعاته وتضيء المعتم في كتابته السينمائية. لكن هذه المادة الحكائية لن تفي بهذا الغرض، على الأقل بمقياس مرجعية بيوغرافية سينمائية أخرى كـ ‘شارلي شابلين’ ل ‘ريتشارد أتينبوروغ’، ذلك لأنها تخفي ترسبات معقدة يتداخل فيها الحكائي بالروائي والبيوغرافي بالسينماتوغرافي. ففي المواضيع الذي يجد فيها المشاهد العادي إسفافا وضعفا في الفيلم قد يجد فيها المشاهد السينيفيلي مفاتيح عدة تقترح تشفيرات للوغاريتمات هيتشكوكية عدة. لن يصعب العثور على مقاربات لم تر في ‘هيتشكوك’ لساشا جرفاسي إلا عملا ضعيفا وتمرينا سينمائيا في الماكياج والمحاكاة لم يصل إلى هدفه. ومهما اخذت هذه المقاربات من مشروعية إما بالإسم النقدي أو بالمؤسسة النقدية التي وراءه، وإن كانت هذه المؤسسة قد أصبحت مجرد ذكرى لاغير، كدفاتر سينمائيةCahier du Cinema ) عدد فبراير 2013) فإنها لم تف الفيلم حقه، على الأقل في الاستقراء والاقتراح، وما نعنيه هو مقاربته من خلال الظرفية التي أنتج فيها أو هذه التاريخانية السينمائية التي أصبح فيها الفعل السينمائي يتجاوز الإنتاج والعرض. فبيوغرافية سينمائية لهيتشكوك بعد كتابات روبن وود Robin Wood وستيفن ريبيلو Stephen Rebello وسلاجوف جيجيك ومودليسكي تانيا Modleski Tania وكاميل باغليا Camille Paglia، تحط المتلقي في انتظار عمل سينمائي يتجاوز بيوغرافيا السينمائي إلى بيوغرافيا السينماتوغرافيا. وهو انتظار تؤطر له مبدئيا نوعية الفيلم والأرضية المرجعية التي استند عليها مباشرة، وهي كتاب ‘ستيفن ريبيلو’ الذي يجمع بين خطاب النقد والبيوغرافيا Hitchcock: The Making of Psycho. هذا السند الفيلمي لمفرده كفيل بجعل المتلقي أمام انتظارين: انتظاربيوغرافية هيتشكوك وانتظار الفيلم عن طريقة إخراج سايكو.
تتعقد المسألة أكثر ويُفتح هامش الانتظارعلى كيفية مواجهة المخرج في إنجاز فيلم ‘هيتشكوك’ لتحديات أخرى تمليها الظرفية الآنية للاستهلاك السينمائي، والذي يجمع بين الفرجة والتثقيف كما سبق وتمت الإشارة إليه أعلاه. فمقتني قرص فيلم ‘Psycho’ في نسخة Universal Legacy Series التي أنجزت للاحتفاء بهيتشكوك، وتتضمن نقدا وتعليقات لكتاب سينما مرموقين، وحوارات مع طاقمه ومن لهم تجربة الإشتغال معه في باعه السينمائي الطويل، إضافة إلى بعض أفلامه القصيرة، أقول مقتني هذا الديفيدي الذي أعاد مشاهدة الفيلم مع التعليق المصاحب لستيفن ريبيلو-صاحب الكتاب الذي اعتمده الفيلم- لابد وأن يخمن في نوعية هذه العلاقة التي تربط هذا الفيلم في نسخته التثقيفة مع فيلم هيتشكوك لساشا جيرفاسي.
نفس التحدي الذي قد يواجه المخرج في الكتابة والذي قد يواجهه المتلقي في استقراء العناصر الدلالية في الفيلم، ناتج أصلا عن نوعية هذا الفيلم الذي يتأسس على كتاب من جهة، وعلى الفيلم الذي يتناوله الكتاب من جهة أخرى. فيلم هيتشكوك يعتمد سايكو وقراءة ستيفن ريبيلو لسايكو في نفس الآن. كما أنه فيلم ينخرط في تعديل (اتحفظ كثيرا على استعمال كلمة اقتباس) أو تحويل سينمائي من نوع خاص، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن ستيفين ريبيلو كان هو الصوت المعلق على الفيلم في نسخة أونيفيرسال ليغاسي. وكون هذه العملية التحويلية تراوغ في تعديلها السينماتوغرافي بين الكلمة المكتوبة من جهة والكلمة المنطوقة في التعليق المصاحب لفيلم سايكو من جهة أخرى، فنحن امام نوعية تعديل سينمائي تنبني على الإزدواجية في توصيل نفس الرسالة المضامينية. اخذا بعين الاعتبار لكل هذه المعطيات السينمائية والخارج سينمائية يمكن مقاربة ‘هيتشكوك’ كتعديل مزدوج: تعديل للكتاب كمؤلف مكتوب وتعديل لتعليق الكاتب على النسخة الفيلمية كمؤلف منطوق. والتعديلان معا تحكمهما حدود معطيات الصورة الهيتشكوكية في فيلم سايكو والتي تصبح هي الأخرى عنصرا لا يمكن الإحادة عنه بطريقة من الطرق خصوصا إذا التزم المخرج بالمجال الدلالي والتعبيري الذي تسمح به مصادر المادة المضمونية للفيلم، كما تحكمهما القراءة النقدية لمؤلف الكتاب، وتغير نمط القراءة في المستوى الصوتي المرافق للصورة في التعليق على الفيلم. يستند ستيفين ريبيلو في قراءته وتعليقه على المعطيات الدلالية والرمزية لفيلم سايكو، تشكل مادة مضمون فيلم ‘هيتشكوك’ نفس المعطيات إضافة إلى قراءة ستيفين ريبيلو، وهي المعطيات التي تشكل مادة الشكل وتحدد أبعادها. معالجة ساشا جيرفاسي تجاوزت إملاءات مادة الشكل ومادة المضمون ليدخل في تناص مع النص الأصلي ينم عن مقاربة نقدية تنطلق من فيلم سايكو خاصة إلى سينما هيتشكوك في لغويتها عامة.
انطلاقا من هذا يمكن مقاربة فيلم ‘هيتشكوك’ كذلك كتشخيص أيقونوغرافي لتعليق المؤلف على ‘سايكو’ وإنارة مجازية للنقد الذي كتبه هذا الأخير في الكتاب. في كلا الحالتين لن يحيد المخرج عن المغامرة بالمعالجة من خلال هذه الصيغة السينمائية القديمة قدم السينما وهي الكتابة عن السينما من خلال السينما أوالميتاسينما. خاصية تجربة ‘هيتشكوك’ الفيلم هي تركيب الحدث الفيلمي كتفكيك وتحليل وكدراسة نصية تقارب فيلموغرافية هيتشكوك من خلال نموذج سايكو. وهذه المعالجة تبقى هي التعديل السينماتوغرافي الأمثل لمصدر الفيلم. ولن نجازف حين نقول أن فيلم ‘هيتشكوك’ من هذا المنطلق سيدخل السينما كنوعية تحويلية جديدة وهي تعديل النقدAdaptation of Criticism .
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو