الجمعة 2024-12-13 07:15 م
 

واقعية المضمون وكاريكاتيرية الشكل في مفارقات الضاحك الباكي

01:46 م

الوكيل - لعل من الأسباب المهمة التي تجعل فن العرض المسرحي من أهم الوسائل الفنية التعبيرية، بل والأكثر تأثيراً وفعالية عند جمهور المتلقين، مقارنة بوسائل فنية أخرى، كفن الشعر والقصة القصيرة والرواية، ان العرض المسرحي يقوم على أساس المواجهة وفعل الفرجة عند جمهور المتلقين في صالة العرض.اضافة اعلان

فإذا كان الشعر مختصاً بالبنية الإيقاعية للغة المرتكزة على أسلوب التكثيف، والصورة البلاغية المركبة. بينما تشير القصة القصيرة إلى محدودية الفكرة وإيجازها، عبر لغة نثرية فنية تقارب في اختزالها لغة الشعر.وتومئ الرواية إلى انشغالها بسرد التفاصيل والوقوف على حيثياتها المتشعبة مفصلة لمضامين ومواضيع تدور حول أحداث وشخوص تتصارع فيما بينها، في إطار حيز زمكاني محدد، تتجسد على منطقة الورق ومساحته البيضاء. فإن الفن المسرحي، بعروضه الفنية المتنوعة- وبما يحتوي في جعبته من أدوات فنية وعناصر فرجوية ينهض عليها العرض المسرحي، في أثناء تقديم لعبته الدرامية- يجسد الأحداث، بمفارقاتها وتقاطعاتها، ويعرض الشخوص، باختلافاتها وصراعاتها، حية أمام أعيننا مباشرة، مما يصب ذلك في ذائقتنا ومخيلتنا جرعات سحرية من التأثر والانفعال الذي يقودنا إلى غسل أرواحنا ونفوسنا بماء اللذة والمتعة المنعكسة من الجانب الجمالي في العرض، ثم امتلاء عقولنا وأذهاننا بحشد من الأسئلة والاستفسارات التي ترتد علينا من جانبه المضموني الوظيفي، لنواجه شوائب وفساد الواقع الذي نعيشه، ثم محاكمته بناء على تبني جرأة العرض وشجاعة البوح، حتى تطفو على سطح حياتنا الأفكار الايجابية وحلولها البيضاء في مقابل الفساد الأسود وسلبيته القاتلة، وبذلك تنتقل العدوى لنا من مجرد جمهور يشاهد عرضاً مسرحياً بشكل حيادي إلى جمهور فاعل بعد انتهاء العرض، يسعى في المجتمع إلى التغيير نحو الأفضل وفق الآليات المطروحة في هذا العرض. من خلال الجرأة والشجاعة على مواجهة الواقع الفاسد وهذا التوصيف السابق لوظيفة العرض المسرحي، تجسده مسرحية ‘اسرق أقل رجاء’، والتي نحن عبر الفقرات اللاحقة- بصدد الوقوف عليها وقراءتها قراءة استطيقية جمالية لمضمون العرض وشكله الفني.
الرؤية الإخراجية/ كسر للنمطية والدخول لمنطقة الإبداع
تنبني فكرة العرض المسرحي ‘اسرق أقل رجاء’ للكاتب الايطالي داريو فو والذي قام بترجمته إلى اللغة العربية الناقد السوري (نبيل حفار) وأعده وأخرجه للمسرح المخرج الفلسطيني فتحي عبد الرحمن حيث شارك في تجسيد أحداثه على خشبة المسرح ما يقرب من ثلاثة عشر ممثلا وممثلة، إضافة إلى مجموعة من التقنيين. تنبني فكرته على تعرية الواقع الأسود- طبعاً لا يقصد هنا واقعاً محدداً أو مجتمعاً معيناً، وإنما يشير إلى أي واقع ومجتمع فاسدين- والمتمثل بسلبية بعض الأفراد المتنفذين في أجهزة الدولة ، وما يحملون في قلوبهم السوداء من نوايا سيئة وفساد عفن جعلهم ذلك يقومون بسلسلة من الاختلاسات والسرقات المالية المنظمة من خزينة الدولة، والتي تعود في نهاية الأمر، لمصلحة الشعب وفائدته في المجتمع.
هذه هي الفكرة العامة التي دارت حولها مشاهد العرض وفصوله، والتي توزعت على ما يقارب الساعتين من الزمن. لم نشعر بطولهما نحن المشاهدين- وذلك، طبعاً، بسبب أن المخرج فتحي عبد الرحمن قد هندس العرض وصبه في وعاء كوميدي وقالب ملهاوي ينز آلماً ويفيض سواداً من قسوة أحداثه ومواقفه التي مزجت الضاحك بالباكي بداخلها، عبر مفارقات، حوارية وحركية، ملآى بعناصر تشويقية تقوم على وحدة عضوية فنية واحدة مربوطة بإحكام ومحبوكة بذكاء إخراجي يشير إلى تمكن المخرج ومعرفته بأسرار صنعته. مما دفعنا ذلك، كمشاهدين للعرض، لمتابعة تفاصيله وجزيئاته من الألف إلى الياء، دون أن نصاب بأي ذرة من ملل أو نحس بأي حالة من التعب أو الكلل.
ولكن السؤال هنا ماذا أراد فتحي عبد الرحمن أن يقول في هذا العرض؟ هل أراد أن يقدم مجرد عرض مسرحي يتناول حالة الفساد في مجتمع ما؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن العرض لا يخرج عن دائرة العروض التقليدية النمطية الكثيرة التي تناولت هذه الظاهرة بإطناب وإسهاب، كعروض المسرح الواقعي أو مسرح القسوة، والمضطهدين، والشارع، إلى ما هنالك من تجارب مسرحية تبنت في عروضها مسألة تعرية الفساد وكشفه في واقعها ومجتمعاتها. ولكي نكون أكثر وضوحا وتجلية للموقف، نصيغ السؤال بشكل آخر، هل أضاف المخرج فتحي عبد الرحمن شيئاً جديداً في عرضه هذا؟
إذا نظرنا إلى العرض بشكل فني يقوم على إعمال للذهن وحك للفكر، ووقفنا على جميع حيثياته وأبعاده وكافة تفاصيله وجزئياته، فإننا، بالضرورة، سننزاح، بمنظورنا هذا، إلى المدرسة السيميائية التي تنشر علاماتها على جسد العرض لتفسر وتشرح خفاياه المسكوت عنها بين سطور الفعل الدرامي ولعبته الفرجوية مشكلة، باجتماعها وحسب رأي أصحاب نظرية الجشتلطت المتعلقة بالجزء والكل، حالة من البوح الجماعي التي بقيت مسيطرة على فضاء العرض منذ بدايته حتى نهايته. ولكن أي بوح هذا، هل هو بوح خارج من عباءة الفضفضة الفارغة، أم أنه بوح يتدافع من هذيان رجل سكّير مليء بالثمالة والطيش؟ طبعاً لا هذا ولا ذاك، وانما هو بوح جماعي مبني على حالة من الجنون المعقلن. أو بمعنى آخر بوح يقوم على جدلية اللعب الفني الواقعة على الحد الفاصل بين صحو العقل وغفلة الجنون، وذلك من خلال أسلوب مسرحي ينتهض على فن الكاريكاتير الذي جسده النص/ الحوار وأداء الشخوص، إضافة إلى مفردات العرض الأخرى، من ديكور وإضاءة وأزياء وموسيقى… وبذلك فإن العرض المسرحي ‘إسرق أقل رجاءا’، وكإجابة عن الأسئلة المتقدمة، يكون قد اعتمد، في رؤيته الإخراجية على دمج الحس الجمالي -الملغم باللذة والمتعة، والتي تفيض من وعاء الكوميديا المطعمة بكل جوانب العرض- بالمعطى الوظيفي، الذي ينم عن أهداف ووسائل مختبئة خلف رموز وشفرات شتى، لم يتركها المخرج (فتحي عبد الرحمن) دون مفاتيح وقرائن تدل عليها وتفككها، سمعياً وبصرياً، وذلك من خلال إبراز إيقاعية فنية وزانت، في طرحها للفكرة/الحدث، بين عناصر الفن المسرحي ومعطياته الدرامية، حيث لم يبرز عنصر فني على حساب عنصر آخر في مشاهد العرض ومجرياته كلها، وبهذا يكون العرض قد انزاح عن النمطية التقليدية ودخل منطقة الإبداع الفني على مستوى طرح الفكرة وعرضها، في مقابل كثير من العروض المسرحية التي تناولت فكرة الفساد، جاعلة من الحوار/النص بطلاً يرتكز عليه العرض، مع تهميش بقية العناصر الأخرى، وبذلك تخرج اللعبة المسرحية، في مثل هذه العروض، من إطار الفرجة والدراما إلى الواقعة الخطابية الصراخية المباشرة.

الشخوص ولعبة الأداء:
يعتبر الممثل المسرحي، وحسب وجهة نظر كثير من المخرجين في العالم من أهم عناصر العرض المسرحي، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، وتنبع أهمية الممثل من أنه حامل لفكرة العرض، ومجسداً لها بشكل يقتضي خبرة بأساليب التمثيل ومعطياته الفنية، بحيث يتلائم أداؤه التمثيلي وينسجم مع أحداث كاتب النص ومخرجه في آن واحد. ولذلك يقع نجاح العرض، بالدرجة الأولى، على مدى إتقان الممثل لدوره. ولا يتحقق ذلك إلا من خلال القدرة على استحضار الممثل لأدواته الفنية وكيفية استخدامها في أثناء تجسيده لدوره المسرحي .
ولهذا فإن من الأمور المهمة التي يجب التوقف عندها في مسرحية ‘إسرق أقل رجاء’ هي لعبة الأداء التمثيلي التي جسدها الممثلون في العرض، وذلك كون المسرحية اتكأت في عرضها على ثلاث عشرة ممثلاً وممثلة أدوا أكثر من عشرين شخصية فيها، بمعنى أن بعضاً من الممثلين قاموا بتجسيد أكثر من دور في المسرحية.
وفي الفقرات اللاحقة، سوف أتعرض لأداء الممثلين، وقراءة أدوارهم، جمالياً، ووظيفياً، وهل استطاعوا إنجاح العرض وتكريس رؤيته وفكرته، أم أنهم كانوا عبئاً عليه، مما أدى ذلك إلى فشله وسقوطه؟

أولاً: حفارو القبور والسخرية اللاذعة:
يشكل مشهد حفارو القبور مفتتحاً تتأسس عليه أحداث المسرحية اللاحقة. ولعل المكانية في المشهد مبنية على مفارقة فنية محكمة، وذلك من خلال أن المقبرة مكان الحدث في هذا المشهد- تبدو من ناحية واقعية في الحياة، مكاناً يثير فينا مشاعر الفزع والخوف والحزن، وذلك كونها مكاناً يسكنه الأموات من البشر. فإنها حضرت في العرض المسرحي بأسلوب كوميدي هازل، مفعم بالسخرية اللاذعة والجرأة المشاكسة في تناول الحدث وطرحه، ولهذا أداء الممثلين، في هذا المشهد. أداءً ساخراً على مستوى الأفعال المسرحية وخاصة الحوار والحركة ، إضافة إلى الملابس الكاريكاتيرية التي تعكس السخرية وتكرسها في المشهد.
ففي حين أشعرنا كل من (أحمد حماده، محمد حامد، حسين نخلة، جميل السايح، مصطفى أبو هنود) كحفارين للقبور، وعبر أدائهم العفوي المميز، بحيثياته الصوتية الحوارية، والجسدية الحركية، أشعرونا ببساطة الإنسان الفقير وسعيه الحثيث من أجل الحفاظ على لقمة عيشه، وضعتنا شخصية مريم (مرح ياسين) بأدائها الفني الذي يومئ إلى فنانة محترفة في فن التمثيل، في جو من التحدي والتمرد لدى سماعها بقضية التآمر على نقل المقبرة، في مقابل مدير المقبرة والذي أبدع في تجسيد هذا الدور الفنان (أمجد غانم)، مما جعلنا نقف أمام قامة عالية في فن التمثيل، الانتهازي الذي يسعى في سبيل مصلحته بالتآمر مع المسؤولين على نقل المقبرة، وقطع عيش العاملين فيها. لينتهي المشهد عند دخول مدقق الحسابات وقيامه بلعبة التمثيل، بهذا المشهد من نهاية المسرحية بمساعدة مريم، وقد جسد دور مدقق الحسابات الفنان (أسامة ملحس) حيث استطاع بخبرته الفنية الطويلة في مجال فن المسرح من أن يلعب على أسلوب المسرحة داخل المسرح، وذلك من خلال تقمصه لبعض الأدوار: كالرجل الميت، والعائد من الموت، والشخص المجنون، ودور الممرضة.
جدلية البوح بين صحو العقل وغفلة الجنون:
تتجلى في المشهد الثاني من المسرحية، والذي تدور أحداثه في مصحة للأمراض العقلية، حالة من البوح وانكشاف سافر لملفات الفساد، عبر أداء مسرحي جمالي يعتمد في ثيمته الرئيسية على عنصر المفارقات التي قامت عليها المواقف والأحداث، في جو يفيض بالجنون تارة، وتارة أخرى يرتد إلى حالة من صحيان العقل الممنهج باتجاه المصالح الشخصية.
فإذا كان المشهد الأول حفارو القبور- قد ألمح، في بعض أحداثه ومواقفه الحوارية، ومن خلال أداء شخوصه الساخر، إلى قضية الفساد، فإن هذا المشهد ـالثاني- يصرح بها، بل ويشرحها بشكل تفصيلي. وذلك من خلال أداء تمثيلي تختلط فيه أساليب التجسيد والتشخيص بين صحو العقل وغفلة الجنون، والتي انعكست هذه الحال ـ البين بين- على حوارات الممثلين وحركاتهم، حتى اختلطت علينا الأمور، فعدنا لا نعرف المجنون من العاقل في هذا المشهد.
والجدير بالذكر كذلك، أن شخوص المشهد الأول كانت ذات وظيفة إخبارية، تركز دورها في الكشف عن بعض قضايا الفساد، وخاصة في نهاية المشهد عند دخول مدقق الحسابات، بينما في المشهد الثاني، انقلب دور الشخصيات كلها إلى حالة من الصراع الدرامي المتصاعد بين طرفي نقيض، الأول طرف إيجابي، يسعى إلى التغيير نحو الأفضل، من خلال محاربة الفساد وأهله. والطرف الثاني سلبي، يصر على بقاء الحال على ما هو عليه، كونه طرفاً منتفعاً من ذالك، بل وأكثر من هذا ، حيث يقوم بعمليات غسيل دماغ للطرف الإيجابي، محولاً إياه إلى آلة خاضعة لمشيئته السلبية.
إن اللافت للنظر في مسرحية ‘إسرق أقل رجاءً’ في أنها قامت على مشهدين، مشهد المقبرة ومشهد مصحة الأمراض العقلية. ولعل الرمزية التي تتوارى خلف هذين المشهدين تشير إلى عبثية الحياة في الأول، وذلك لأنها حياة تقوم على الفساد، وأكل القوي لحق الضعيف…فهي تصبح، إذاً، حياة عبثية، ولا يكون لها معنىً إلا بنهايتها، ولهذا تكون المقبرة هي المكان الصحيح الذي يسكنه كل البشر بعد موتهم، مهما طغوا وتجبروا في حياتهم، ولهذا، أيضاً، تأتي الكلمة التي تقولها (مريم) للوزير الفاسد، كخاتمة تنتهي عندها المسرحية: غداً سوف تموت وأضعك بيدي هاتين في تراب هذه المقبرة.
ويومئ المشهد الثاني إلى صراع الإنسان مع نفسه أولاً، ومع الآخرين ثانياً والذي يؤدي هذا الصراع، في كثير من حالاته الضاغطة، إلى افتقاد الإنسان إلى العقل، هذا العقل الذي من المفترض أن يقوده إلى السعادة في الحياة، عبر الأفعال الخيرة والأخلاق الحميدة، بدلاً من الفساد، بكل أشكاله وصوره، الذي يقضي على البشر ويعيق تقدمهم في الحياة.
فإذا كان المشهد الأول هو عنوان للموت الحقيقي، فإن المشهد الثاني هو مكان للموت المجازي، وبهذا كله نخرج من العرض بحالة قاتمة سوداء، تختفي خلف قالب كوميدي تلبّس المسرحية من بدايتها إلى نهايتها، حيث جاءت تحمل في داخلها صرخة حادة وتقذفها في قلب المشاهد/المتلقي للعرض، لينفجر على كل الأوضاع الفاسدة والأحوال السلبية التي تدمره وتقضي على حياته.
وفي الختام ، يجدر بنا القول أن هذه المسرحية والتي قدمت لغاية الآن في أكثر من محافظة فلسطينية بدأ برام الله والخليل وبيرزيت وليس انتهاء بنابلس- تقدم للمرة الأولى ليس في فلسطين وحسب وإنما في الوطن العربي برمته، وهذا الأمر يحسب، ايجابيا، للحركة المسرحية في فلسطين بشكل عام، وللمخرج فتحي عبد الرحمن وفرقة ‘المسرح الشعبي’ على وجه الخصوص.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة