الوكيل - واصل جرجس شكري تأمله في الشعر والحياة والوجود في مجموعته الشعرية الجديدة ‘تفاحة لا تفهم شيئاً’ الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في بوح ذاتي وحديث أصيل مع النفس في بحث عن معني أوسع للحياة. تفاحة جرجس شكري هذه، التي يقول سخرية أنها لا تفهم شيئاً، هي الوحيدة التي تفهم كل شيء ولا يخفي عليها شيء. فهي تفاحة الوجود والمعرفة، كما هي تفاحة الروح في بوحها الموجع توقاً للخروج من الأزمة والشرط الإنسانيين الذي يدركهم الشاعر ويعبر عنهما.
ثمة لسعة ووهج في شعر جرجس شكري يمسك القاريء متلبساً في لحظة اندماج غير عادية مع الواقع الفنتازي الذي ترسمه القصيدة، محاولاً تفكيك الفنتازيا للوصول إلى الواقع فيها. وللدهشة التي ستمسك بالقاريء أيضاً فإن هذه الفنتنازيا ليست إلا إعادة تركيب للواقع، أو إعادة تعبير عنه بكلمات أخرى. من هنا تختلط الصورة وتتداخل الاخيلة ويعاد رسم العلاقات ويؤنسن الكون بكل موجوداته في احتفال مهيب ليس لك إلا ان تكون جزءاً منه. فقصيدة جرجس سهلة ولا تبحث عن مجد في أقانيم البلاغة ولا في ممالك البيان، هي متقشفة زاهدة في اللهث وراء الاستعارات والصور النمطية والتشبيهات المتكلفة. إنها تأتي فعلاً كما ياتي الشعر في فطرته وكما ياتي في صورته الأولى، لا يبحث عن أن يكون شيئاً آخر: فكرة كبيرة مثلاً أو موعظة او وصاية فكرية أو جمالية؛ بل يريد أن يكون شعراً خالصاً، وليس شيئاً خارجه. من هنا الفطرة العالية في تشكيل القصيدة وفي تطور سردها وبوحها دون تكلف أو ادعاء ودون فواصل.
مثلا، الصورة الشعرية عند جرجس شكري ليست أداة لتوصيل فكرة ولا هي مركبة يعبر بها إلى عالم مختلف كما ليست زينة لتجميل القصيدة، إنها شيء ‘جيني’ وأصيل في القصيدة، وهي مكون أساس فيها لا يستقيم الولوج إلى عالم جرجس شكري دون الغوص عميقاً في عالم صوره الشعرية الرشيقة والمتتابعة. الصورة عند جرجس شكري ليست بلاغة مدهشة ولا تكوينا رومانسيا ساحرا ولا هي تجسيد حزين للألم، كما أنها ليست ارباك وصفي يعتمد على المفاجأة والغرابة. بل هي صورة غير متوقعة، لا تشعرك أنها تلهث وراء وصفها ولا تركض خلف غرابتها، تستمد جمالها من مكوناتها فهي جزء من كل، وهي لحظة من عالم كبير. فهي بالتالي وكما سنكتشف ربما، حزينة ورومانسية ومدهشة ومربكة وبليغة، لكنها لا تدعي أياً من هذا ولا تبحث عنه ولا هو غايتها. ففي هذه الصورة نجد الظهيرة التي تقطع نوافذ البيوت، و النوم الذي يظل الطريق، و الشعب الشاحب الذي يغسل ملابسه عوضاً عن هزائم متكررة، و الأرض تنفجر من الضحك، و الأيام التي تقف عند النافذة تدعو المارة إلى البيت.
ثمة فنتازيا عالية في موضعة العالم الشعري لجرجس شكري ضمن حدود عالمه الواقعي، حيث يتم ربط هذا العالم الافتراضي للقصيدة وللحالة الشعرية ضمن النسق العام للمألوف من الحياة حولنا. وهذا يخلق تداخلاً مدهشاً بين الفنتازيا وبين الواقع للدرجة التي يصعب تبيان الخط الفاصل بينهما، فكل عالم لا يحتفظ بشروطه وبمستوجبات وجوده بل أيضاً بجزء من العالم الآخر، في تلامس فطري لجوهر الروح البشرية الفانية والخالدة في آن.
يقول جرجس في قصيدة ‘أيام في ملابس الإعلانات’ :
‘حمل رأسه إلى بلاد بعيد
لا يدفن الناس فيها موتاهم
يحفظونهم في الهواء
وإذا امطرت
ترفع كل جثة مظلتها
وتحرس روحها بنفسها’.
ففي تلك البلاد لا يدفن الموتي، بل يحتفظ بهم في الهواء، فإذا ما امطرت فتحت كل جثة مظلة وفردتها لتقيها المطر. بالطبع ثمة إشارات اعمق من مجرد هذه الصورة الفنتازية تجسدها القصيدة في هذا العالم الغريب. إنه العالم الذي تعيش أيامه في ملابس الإعلانات وتتسول في الصباح وتبحث في المساء عن احتضار يليق بماضيها. إنه العالم الذي تنوح فيه المدينة على شوارعها وبيوتها وتموت حزناً على أيامها. وتذهب القصيدة اكثر في رسم هذا العالم ليقدمه جرجس وكأنه أحجية إذا ما قمت بحلها فسيقوم ‘مندوبنا’ بحملك إلى الفردوس. هنا يستعير الشاعر من عالم الإعلانات والفوازير التلفزيونية في ملامسة عالمه الشعري لعالم الواقع. لكن حتى عالم الواقع هذا لا يعمل على تعمق الفنتازيا وجعلها أكثر جمالاً بقدر تقريب فهمها وفهم صورها لأذهاننا.
لنتأمل أيضاً المقطع التالي من القصيدة ذاتها :
‘ستعيش أيامك في بيوت بلا شرفات
فغداً
يصل يوم القيامة في قطار المساء
يحمل سيفاً، بندقية، خمراً وحدائق
نساءً عاريات وقديسين
وربما يأتي يوماً عجوزاً
يبكي ويبحث عن وظيفة’.
وفي قصيدة أخرى يقول جرجس شكري:
‘شيعوا الجنازة
وأغلقوا ازرار ستراتهم
على المشيعين
أبرموا صفقات كثيرة
ثم فاوضوا نجوم الظهيرة
وبعد أن وضعوا مشاعرهم
في أحذية طويلة
دهسوا ما تبقى خارج المشهد’.
يستعير الشاعر من عالم المسرح الذي يألفه وعمل به من اجل توطين القصيدة في العالم، لكن حتى المسرح المستخدم في هذه القصيدة يتأقلم مع عالم الشاعر فلا يقوم الشاعر كما درجت عادة الكتاب بلي عنق الصورة أو العالم المستعار من اجل خدمة عالمهم، بل إن ثمة عملية تكيف طبيعية بحيث لا يسهل على القاريء ان يقف على حدود التماهي بين العالمين. وربما هذا جزء من عالم جرجس شكري الشعري عالم متداخل تقف فيه ‘الأنا’ المتاملة على حدود الفنتازيا والواقع متأرجحة تبحث عن اليقين او كأنها تنفيه لصالح السؤال المعرفي الكبير الذي يشكل القلق الإنساني الأشمل.
وقصائد جرجس شكري مفعمة بالصراع بين سطوة القدر وبين الطموح الفردي حيث نلمس هذه السطوة في تفاصيل كثيرة في متن المجموعة الشعرية لكنها سطوة تتداعي أمام رغبة الإنسان في العيش في عالم أفضل واجمل. إنه ذات الصراع الأبدي الذي تأسست عليه حكياة حياة الإنسان في هذا الكوكب، وكان جوهر الادب والفن منذ السطور الاولى للبشرية على جدران الكهوف وحتى اليوم. فجرجس يحاول ان يتلمس الضعف الإنساني واللحظة الضعيفة في حياة الإنسان وكيف تكون قادرة على التمرد على ذاتها. فالإنسان ضمن هذه اللحظة مجرد من كل قوة إلا ذاته. في ظل هذا الصراع تظهر السلطة الدينية والسلطة السياسية كقوى خارقة لكنها ليست أبدية على الإنسان.
‘وقدمت خبزاً ونقوداً
فجئت واثقاً مدفوع الثمن
ادين بحياتي لقديسين ومشعوذين’.
وتتكامل هذه اللوحة مع تأمل وقراءة طبيعة الانا الشاعرة عند جرجس شكري في هذه المجموعة. فالأنا الشاعرة في المجموعة هي أنا عارفة مراقبة متاملة صانعة راوية لما ترى ولما يقع تحت تصرفها، لكنها لا تتدخل من أجل تفسيره وتبريره وشرحه.
لننظر الوصف والتأمل في القصيدة التالية:
‘الأحد يوم الرب
عطلة الصناع، استراحة السماسرة
ويوم مولدي
صار راحة أبدية
بعد أن قرر الرب ان يغادر الأرض
في هذا اليوم
تاركاً هؤلاء الممثلين البؤساء
يواصلون ادوراهم
واكتفى بالفرجة من مقعده
بالسماء العالية’.
إنه الشاعر الصانع بتوصيف الرومان والخالق الأمهر بتوصيف اليونان، وهو المتأمل بتوصيف عصر النهضة والأنوار لكنه قبل كل ذلك الإنسان البسيط الذي يعيش المحن ويرويها، لأن في ذلك خلاص له. فهو خارج من اللحظة متأمل فيها في ذات الآن. وبالقدر الذي يعرف كل شيء فإنه يجهل أيضاً كل شيء.
يقول جرجس شكري في قصيدة أخرى:
‘هكذا صار يحلم
أنه يضع على مائدة عظيمة
بيوتاً بلا سكان وأشجاراً عارية’
ثم يكمل
لا تصدقوه
هذا رجل
استيقظ من نومه فوجد المرأة خاوية’.
كأننا نعود هنا إلى تداخل الواقع مع الوهم والفنتازيا مع العالم الحقيقي كما تتداخل انا الشاعر الحقيقية الملامسة للواقع مع الأنا العلوية للحظة الشعرية التي ترى فيها العالم من موقع الخالق المكون الصانع للأشياء، كما تتداخل الصور والاخيلة مع التفاصيل العادية القادرة على نقل تناقضات اللحظة البشرية الناجمة عن صراع القوة والضعف داخل الإنسان وعن صراعه مع القوى العليا سواء كانت الطبيعة او الآلهة او رجل السلطة. كان جرجس شكري يستعيد بهذا روح الشعر الحقيقية حين كان مجرد ترانيم لبقاء الإنسان، وبحث عن هذا الوجود. في القصيدة التي يحمل الديوان عنوانها نجد تكثيفا مدهشا لهذه التأملات الشعرية والفكرية
استيقظ المستقبل ذات صباح
حزيناً
حمل نفسه وقصد بيت الماضي
الذي كان بعيداً جداً
وصرخ في وجهه
ماذا فعلت بي؟
أنام ويداي خلف ظهري’.
في هذه اللوحة الرئعة نجد الحاضر نائماً على السرير يبكي عجزه عن فض هذا الاشتباك، في صورة تعيد لنا زمن الأساطير والملاحم التي تقاتلت فيها الألهة وتصارع البشر وتأنسن البحر والجبل في البحث عن حقيقة الحقيقة. المؤكد ان تفاحة جرجس شكري هي وحدها من تفهم كل شيء.
السياسة حاضرة بقوة في المجموعة التي كتبت بعد الثورة المصرية وكان مخاضها في أتون السنوات الثلاث الماضية من عمر مصر. والسياسة حاضرة لا بوصفها بلاغا سياسيا بل بوصفها جزء من الحلم، حلم الشاعر بدولة يخبزها وياكلها ويوزعها على الفقراء والمساكين مثلما فعل يسوع ربما. كعكة/دولة شهية يرقص فرحاً على رائحتها الشعب.
أحلم أنني أخبز دولة
وأمنحها للمساكين
بعد أن تصبح كعكة كبيرة
يفوح منها البخور
كعكة في حجم الدولة
شهية وكبيرة
والشعب يرقص
بعد أن آكل الدولة
حتى رأسها’
لاحظ تشبيه الدولة بالكعك (رغيف الخبز او الطعام) لأن هذا ما يتوقعه الفقراء والمساكين من الدولة. وهو نفس المنطق الذي يجسده الشاعر في قصيدة المجموعة الأولى المعنونة بـ’الطريقة المثلى لكتابة الشعر’ يقول لنا إن كلمات الشعر تسهر في الشوارع (بمعني تبحث عن الحرية) وتمرض وتنام على الأرصفة وهي ‘تكره الدولة وتحب الموسيقى’. كأن الموسيقى والحرية أشياء لا تتوفر في الدولة التي نحسبها نقيضا للشعر في هذا التوصيف. في ذات القصيدة يقول جرجس ‘فنحن لا ينقصنا شيء/ لاشي ينقصنا/فهل تبيعنا وطناً يا عم/ولو مستعملاً’ فالشعر كما الشاعر كما الكلمات يبحثون عن وطن حتى لو كان مستعملاً فهم يملكون كل شيء إلا الوطن. وفي قصيدة اخرى يقول ‘سأضع المستقبل في الثلاجة’. واستكمالاً لنفس البحث عن الدولة او الوطن او الحرية او رغيف الخبز يسأل في قصيدة ثالثة :
‘هل رأيت مدينة
شوارعها تنوح على بيوتها
وبيوتها
ماتت حزناً على أيامها؟’
فالمدينة والشعب والبسطاء هم من يعانون اخطاء الساسة ويدفعون ثمن جهلهم.
‘هذا كل شي
أكل أهل السياسة طعاماً فاسداً
فشعر الشعب بألم حاد في بطنه’
إنه ذات المشهد الكاريكاتوي الذي يقع فيه الشعب ضحية لبطش القتلة والاستغوال:
‘الرئيس في الصفحة الأولى
يبتسم ويحدث في الشعب
الجنرال إلى جواره يؤنب القاريء
وفي رأس الصفحة
رئيس التحرير يكذب ويطلب المغفرة’.
إنه المشهد الذي عبر الشاعر في قصيدة الديوان الاولى عن رغبة الشعر في التحرر منه وكأنه يقول في تلك القصيدة المفتاح ‘الطريقة المثلي لكتابة الشعر’ إن كتابة الشعر لا تكون إلا من خلال البحث عن الحرية وتوظيف الكلمات الحرة وليست الأسيرة المكبلة في عملية البحث تلك. إنها الكلمات والصور المنطلقة من عقال البلاغة والبيان وثقل الحذلقة إلي البساطة والعفوبة والإندفاع مثل تيار النهر السلس. فالحرية شيء متكامل من الكلمة إلى الصورة إلى المعرفة إلى الوجود. وهذا ما تقترحه تفاحة جرجس شكري.
بهذه المجموعة يكمل الشاعر المصري جرجس شكري مسيرته الشعرية التي بداها بديوانه الاول ‘بلا مقابل أسقط سفل حذائي’ عام 1996 وبعد ذلك ‘رجل طيب يكلم نفسه’ 1998 و ‘ضرورة الكلب في المسرحية’ 2000 و ‘الأيدي عطلة رسمية’ 2004. ترجمت أشعار جرجس إلى الألمانية والإنجليزية والسويديىة والهولندية.
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو