الوكيل - تعتبر الترجمة من المجالات العلمية التي عرفت تطورا دائما ومتواصلا على مر العصور والأزمنة إلى أن صارت اليوم من الميادين العلمية القائمة بذاتها وقد تأتى لها ذلك بفضل نظرياتها وعلمائها ومُنظريها.
فأصبح للترجمة اليوم مدارس تساهم في وضع وتطوير الجانب النظري والتطبيقي لها، إلا أنه من المفارقات الشائعة اليوم أن يصب التراجمة جام اهتمامهم على كل ما هو غربي غير مبالين بتاريخ عربي حافل ومزدهر للترجمة، شكل العرب نواته وكانوا الأوائل في كتابته والسباقين للنهوض به، حيث عملوا على وضع الدعامات الأولى التي عبدت الطريق لكي يسير ركب الترجمة نحو النهضة وكتابة العصور الذهبية لها. ولكن هذه النهضة لم تأت من فراغ بل كانت هناك مسوغات عدة :مادية وبشرية وثقافية، شكلت دافعا قويا لقيام حركة ترجمة عربية إسلامية رائدة ومزدهرة امتد تأثيرها إلى العالم الغربي.
1.العرب والترجمة:
تعد الفتوحات الإسلامية المبكرة في ‘الفترة الأموية’ و’الثورة العباسية’ من الأحداث التاريخية التي تركت بصمتها وأدت تأكيدا إلى الرفع من مستوى الترجمة بالعالم الإسلامي، فقد تمكنت الجحافل العربية في أقل من 30 سنة بعد وفاة الرسول (ص) من فتح مناطق امتدت من ‘جنوب شرق آسيا’ إلى ‘شمال شرق إفريقيا’ والتي كانت تخضع في تلك الحقبة لهيمنة ‘الإسكندر الأكبر’،وبهذا تمكن العرب من طي صفحة سيطرة الإمبراطورية ‘الساسانية’ وإلى الأبد.
وقد حصل جراء هذا التغيير تطورات جديدة في المنطقة تمثلت في توحيد ‘مصر’ و’الهلال الخصيب’ و’فارس′ و’الهند’ من الناحية السياسية والإدارية والاقتصادية، إذ من المعروف أن التسيير والإدارة كان يتم من المراكز الكبرى سواء في بلاد ‘العراق’أو ‘الشام’ أو ‘فارس′.
ومن بين العوامل المؤثرة أيضا هناك عامل إندثار الحاجز الإقتصادي والثقافي المتين الذي كان يفصل العالم فتوحد بذلك الشرق والغرب، فصار إنتقال المواد الخام والمصنوعات والمنتوجات الزراعية حرا وبدون قيد أو شرط، إلا أن أبرز هذه الأسباب يظل من دون شك ولاريب دخول صناعة الورق إلى العالم الإسلامي على يد الأسرى الصينيين فحل الورق محل المواد الكتابية الأخرى وخاصة في العقود الأولى من الفترة العباسية وقد صار مفروضا استعماله بعذ ذلك. ومن بين ألمع أسماء حماة حركة الترجمة نجد على سبيل التمثيل لا الحصر: ‘جعفر البرمكي’.
وقد أفرزت هذه المتغيرات نتائج ملموسة في الميادين الثقافية والعلمية فازدادت الرفاهية وتطورت الخدمات والتقنيات والمهارات وتحسنت الأساليب والرؤى وطرق التفكير وهذا ما أثر إيجابا على الإنتاج الفكري والعلمي والترجمي، فصارت طبقة العلماء ذات خبرة طويلة في حقول اختصاصاتهم، فصار لا يمكن مقارعتهم في مجالاتهم، وقد كانوا بالموازاة مع ذلك على قدر كبير من الدراية والمعرفة باللغات المتعددة أي بمداخلها ومخارجها وسبر كنهها فاستسهلوا الصعب وبسّطوا المُعقد، مما جعل النهل من مختلف المعارف الغربية -وخاصة اليونانية واليونانية- أمرا ممكنا وغير مستحيل وقد فتح هذا البعد الجديد افاقا جديدة ومشربا نضبا للتعرف على ثقافات جديدة ومعارف مهمة .
2. بدايات الترجمة عند العرب:
لا جرم أن البدايات الأولى للترجمة تعود إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، إذ من المعروف أنه (ص) طلب من بعض أصحابه تعلم اللغة غير العربية وهذا مؤرخ بحديث في ‘صحيح’ البخاري، وأذكرهنا حالة ل’زيد بن ثابت’ شاعر الرسول (ص) الذي تعلم اللغة اليهودية وساعد الرسول (ص) في مخاطبة اليهود وترجمة أقوالهم لأنه كان لا يأمنهم على كتابه، وقد كان ترجمانه ب ‘الفارسية’ و’القبطية’ و’الحبشية’ أيضا ويبقى هذا المثال دليلا دامغا على وجود مظاهر للترجمة في عصر ‘النبوة’، وإن انحصر في الجانب ‘الإداري الديبلوماسي’ إلا أنه يًمكن القول بأن الترجمة مثلث دائما قناة وضرورة من أجل التفاهم والتواصل.
مثلت النهضة الثقافية والعلمية محركا رئيسا مهد السبيل لتدفق العناصر الغير الناطقة بالعربية إلى البلاد العربية مما فتح الباب على مصراعيه أمام نشأة تعدد لغوي وشجع على ظهور أنواع من الإزدواج اللغوي (فارسي )(سرياني) (يوناني)، إلا أن قرار تعريب الدواوين في الدولة الإسلامية الناشئة خلال القرن الأول الهجري يظل من أبرز القرارت التي دعمت وساعدت على ازدياد الاهتمام بالترجمة، وكنتيجة لذلك ظهروعي لدى العامة باختلاف الألسنة وضرورة إتخاذ الوسيط لتحقيق التفاهم بين المتحدثين.
وبهذا أعلن انخراط الإنسان العربي ومشاركته الفاعلة بشكل مباشر في مد ترجمي متميز من حيث الكيف والنوع والسبب في ذلك راجع بالأساس لارتباطه بشكل مباشر بوظيفة نفعية واستراتيجية. كما اعتبر بناء بغداد وانتقال عاصمة الخلافة إلى العراق طفرة كبرى، غيرت التوجهات والتيارات الفكرية للمجتمع العربي ككل، فابتعد المجتمع قاطبة عن التأثير البيزنطي في دمشق. وقد تَكوّن في بغداد مجتمع متعدد الثقافات بالنظر إلى المزيج السكاني المختلف ديمغرافيا وعرقيا، إذ شكل مزيج من المسيحيين واليهود الناطقين ب’الأرامية’ أغلبية السكان المستقرين وكذا الناطقون بالفارسية، أما العرب فقد انتشروا بالمدن وكانوا منقسمين فمنهم من استقر بالمدينة ومنهم من عاش في البادية وهم المعروفون بسكان ‘الحيرة’.
2.1 .الترجمة في العصر الأموي والعباسي:
اتفق المؤرخون العرب والأجانب على أن الأمير ‘خالد بن يزيد’ هو أول من أمر بنقل المصنفات الإغريقية والسريانية إلى اللغة العربية وقد كانت مختارات من ميادين عدة ومختلفة نذكر منها : الطب والفلك والكمياء، كما أن الخليفة الأموي ‘عمر بن عبد العزيز′ هو أول خلفاء ‘بني أمية’ الذيي أبدى اهتماما بالترجمة والدليل على ذلك تكليفه للطبيب اليهودي البصري ‘ماسرجويه’ بنقل كناش للطب لـ’أهرن’ القس من السريانية إلى العربية والجدير بالذكر هنا أن اختيار مثل هذا التوجه كان فأل خير على ‘بني العباس′ إذ تقوى عضدهم وازداد محبو خلفائهم.
نالت الترجمة في العصر العباسي الحظوة العظمى، إذ يعتبر هذا العصر الفترة الذهبية لتطور الترجمة وازدهارها سواء من حيث التنظيم أو من حيث غزارة الإنتاج وجودته ، ولا سيما عند خلافة ثلاثة عباسيين وهم على التوالي: ‘الخليفة المنصور’ وبعده ‘هارون الرشيد’ إلا أن أبرزهم يظل وبدون منازع ‘الخليفة المأمون’.
يعد الخليفة ‘أبو جعفر المنصور’ أول خليفة وجه جهود الدولة إلى علم الترجمة، فقد عرف باهتمامه بميدان علوم الفلك والنجوم مما جعله يولي اهتماما بهذا الميدان وبكتب الأسلاف والأجداد وهذا ما يفسر إهتمامه المطرد بمعرفة ما كتبه السلف، فعمل على سبر غور عالم الفلك من خلال الترجمة فأمر على عهده بنقل كتاب ‘أقليدس′ المسمى’كتاب أصول الأركان’ وبعده كتاب ‘الهند والسند’ وهو مؤلف هندي يهتم بعلم النجوم ثم الكتاب البديع لصاحبه ‘عبد الله ابن القفع′ ‘كليلة ودمنة’ ذي الأصل الهندي ثم انتقل إلى مستوى اخر وهو ترجمة أمهات الكتب اليونانية خاصة تلك التي كتبها فلاسفة كبار أمثال: ‘أرسطوطاليس′ و’بطليموس′.
ثم جاءت بعد ذلك فترة حكم الخليفتين ‘المهدي’ و’الهادي’، إلا أنهما لم يكملا المشروع الترجمي الضخم ولم يقوما بالدور المنوط بهما فأهملا هذا النشاط الثقافي ولم يكثرتا به فتوقفت عجلت النهضة إلى أن جاء عهد ‘هارون الرشيد’ الذي اعتمد على الترجمة وجعلها من الأولويات بل قُل ركائز بناء الدولة العباسية القوية والمزدهرة، فقد كان ‘هارون الرشيد’ يرى بأن الثراء الفكري يرسي دعائم الدولة المتوازنة وهذا ما يمكن أن نفسر به قيام إمبراطورية إسلامية شاسعة متميزة ظلت علاماتها بارزة في التاريخ رغم مرور الأيام والشهور والسنوات، ولم ينحصر هذا التطور على الجانب العسكري والحضاري فقط، بل امتد إلى الجانب الفكري أيضا. هذا الأخير الذي يمكن اتسم بغزارة الإنتاج الأدبي الرزين والمنتظم الذي خرق صداه الافاق فوصل إلى الغرب وخاصة بعد ترجمة كتاب ‘ألف ليلة وليلة’ خلال القرن 18 م . ومما ميز عهد الخليفة ‘هارون الرشيد’ إعتماده عل طرق جديدة للتحصيل وتمثلث في إرسال بعثات علمية إلى الروم بغية البحث عن المخطوطات اليونانية وجلبها إلى الوطن مهما كان ثمنها، وقد كانت هذه المقاربة جديدة بالنسب لمعاصريه فقد كان الاعتماد على التراكم النوعي هو السائد والمعروف.
وتبقى الميزة الفارقة في تلك المرحلة هي تكليف مترجمين مسيحيين للقيام بعملية الترجمة، ممن كانوا على قدر كبير من التمكن والمعرفة باللغات الأساسية والتي يمكن ترتيبها كما يلي : اليونانية العربية والفارسية والسريانية، وقد كان يُنظر إلى هذه الأخيرة كلغة وسيطة وقنطرة تواصل بين الثقافات وهذا راجع في الأصل كون’ السريانية’ لغة المتعلمين انذاك فكان التواصل بها سهلا وممكنا.
عند تقلد الخليفة ‘المامون’ مقاليد الحكم، عاد للترجمة بريقها المفقود وتوهجها الزائل، فتأسست في عهده مدرسة علمية ذائعة الصيت المعروفة تحت اسم ‘بيت الحكمة’ والتي كان مقرها في بغداد وقد اهتمت بالأبحاث العلمية المتميزة وكذا الترجمة والتأليف في مختلف المجالات والميادين وقد برز في هذا العصر علماء أفداد، لا يشق لهم غبار وعلى درجة عظيمة من العلم والتبحر في المعرفة مكنتهم من منافسة الأوروبيين، بل ذهبوا أبعد من ذلك فقد شكلوا مرجعا أمنا وقاعدة موثوقا بها ومن أمثال هؤلاء نذكر: ‘الخوارزمي’ و’الجاحظ’و’الكندي’ وما هؤلاء إلا شنو من محيط، فهناك بالإضافة إلى هؤلاء مترجمون عظماء، ومن أشهرهم على الإطلاق ‘حنين ابن إسحاق العبادي’ الذي جمع في سجاياه المهارة في الطب والنبوغ في الترجمة والتصنيف.
يمكن اعتبار عامل ‘التخصص في الترجمة’ من العوامل المؤثرة في تطور ميدان الترجمة في تلك المرحلة، فقد كان المترجم مطالبا بإتقان اللغة الأصل واللغة المترجم إليها، كما ذكر ذلك ‘الجاحظ’ في كتابه ‘الحيوان’ ‘الجزء الأول’، كما أنه خلال فترة حكم ‘المأمون’ استعادت البعثات الطلابية عافيتها ونشاطها وبريقها فوصلت إلى منبع العلم ومهده وهي العاصمة اليونانية ‘أثينا’ نفسها، فتمت مراجعة ترجمات سابقة لتوافق التقدم الذي أحرزته اللغة العربية من حيث المفاهيم الجديدة والمصطلحات العلمية الدخيلة وخير مثال على عملية التكرار هذه أذكر: كتاب ‘المجسطي’ ل’بطليموس′ الذي كانت قد تمت ترجمته لأول مرة في عهد ‘المنصور’ وتمت إعادة ترجمته ثانية في عهد ‘هارون الرشيد’.
إن ما ميزحركة الترجمة خلال هذه المرحلة التطرق إلى مواضيع ومجالات جديدة كالرياضيات والتاريخ الطبيعي والأخلاق والنفسيات والفلسفيات والطب . حيث صارت ميدان الفلسفة مجالا مهما للعرب أكثر مما كان عليه، حيث قاموا بدراسة مصنفات ‘أرسطو’ وفهمها بكتب شراح يونانيين أمثال: ‘الإسكندر الافروديس′، وبذلك صارت متداولة ونظرت لماجاء بعد ذلك من مفاهيم ونظريات فلسفية إسلامية ناشئة في القرن 4هـ.
لقد أجمع القدماء ك’الأندلسي’ و’البيهقي’ و’ابن أبي أصيبعة’ و’الشهرستاني’ أن حُذاق الترجمة في الإسلام أربعة وهم: ‘حنين بن إسحاق’ و’ثابت بن قره الحرافي’ و’عمر ابن الفرخان الطبري’ و’يعقوب ابن إسحاق الكندي’، إلا أن ‘حنين ابن اسحاق’ يبقى أشهرهم وأمهرهم على الإطلاق وهو رائد حركة الترجمة في العصر العباسي خلال القرن الثالث، ولعلنا سنتطرق إلا المسوغات التي أتاحت لهذا المترجم الكفؤ أن يتبوأ المرتبة الرفيعة ويصل الدرجة العالية، فقد كان’حنين بن إسحاق’ مُتقنا لأربع لغات معاصرة وهي ‘اليونانية’ و’الفارسية’ و’السريانية’ و’العربية’ وبعد ذلك نجد إلتزامه الأمانة العلمية والدقة فيما يترجم رغم أنه كان يعتمد في ترجمته على المعنى وليس المصطلحات وهذا ما جعل إنتاجه غزيرا ومنتظما، بالإضافة إلى هذا فهناك عامل اخر مهم وهو التمكن من العلوم والمعارف المراد ترجمتها، مما كان يجنبه الوقوع في الأخطاء وهناك عامل الفصاحة والطلاقة في تعابيره في اللغة العربية أيضا، وأخيرا استخدامه لأسلوب علمي صارم في عمله الترجمي وقد تركز هذا الأسلوب في الاعتماد على النسخة الأصلية للمؤلف الذي ينوي ترجمته، أي أنه يقرأ الكتب بلغتها الأصل وبدون لغة وسيطة بينهما قد تحجب عنه الكثير من المعاني وجمالية النص، فإذا ما تعذر عليه ذلك لسبب من الأسباب فإنه كان يشترط توفر نسختين أوأكثر من الكتاب ليتاح له بذلك المقارنة والموازنة وسد الثغرات المحتمل وقوعها في المخطوط.
لقد انصب اهتمام ‘حنين ابن اسحاق’ على البحث عن المصنفات الطبية اليونانية وكان هناك سبب واضح لذلك وهو أن الرجل كان بارعا في الطب، ولولا ترجماته هذه لما وصلتنا أمهات الكتب اليونانية ولما اضطلعنا عليها. وقد تمكن ‘حنين ابن إسحاق’من ترجمة الشيء الكثير من مصنفات ‘أبقراط’ و’جالينوس′ فلخص بعضها وشرح الآخر. وإنه لمن نافلة القول الحديث عن طريقة عمله في ميدان الترجمة، حيث كان ‘حنين بن إسحق’ من أنصار العمل الجماعي في الترجمة، نظرا لما عاناه من ويلات في العمل الفردي، وهذاما جعله يفكر في الإستعانة بنخبة من المترجمين الشباب الذين كونهم ودرس لهم طريقة الترجمة السوية والأمينة، وقد أسند له الخليفة ‘المأمون’ رئاسة ‘بيت الحكمة’ وعهد له بتطبيق برنامج الترجمة المقرر في هذه المؤسسة.
عمد المترجمون خلال تلك الحقبة إلى اتباع ونهج أساليب للترجمة واحترام ركائز ومقومات لها، جعلت ترجماتهم تتصف بصدق النقل ومطابقة المعنى وصحة التعبير مع مراعاة حسن التبويب وإيضاح الهدف والإطار، أما في ما يخص تعريب المصطلحات الأعجمية، فلم يكونوا بحاجة إلى حفظ ولا حافظة وإنما أخذوا اللفظة الأجنبية وعربوها على بنية اللسان العربي، فكان المترجم يتصرف في اختيار اللفظ المترجم وفقا لفهمه وذوقه وقدرته على إدراك المعنى المراد، وحسب مقدرته في اللغة العربية ذاتها.
2.3. مدرسة بغداد للترجمة:
تعتبر مدرسة بغداد (بيت الحكمة) من أهم وأبرز المدارس العربية للترجمة وقبلها وجدت المدرسة السريانية وقد كان إنتاجها غزيرا حيث أصدرت عددا من مؤلفات الطب والفلسفة المترجمة عن اليونانية والمعروف أن اللغة السريانية كانت لغة التواصل والرابط اللغوي والثقافي بين الأمم الشرقية وهي لغة منبثقة من الآرامية كما أنها وتنتمي لمجموعة اللغات السامية السابقة لظهور المسيحية.
ويرجع السبب في تسمية المدرسة بـ’بغداد’ هو انبثاقها من مكتبة ‘بغداد’ والتي كانت في تلك الحقبة مركز إشعاع ثقافي وقد شكلت السريانية إلى جانب اليونانية أهم اللغات المنقول عنها، ومن أبرز ما مميز هذه المدرسة قيام المترجم بترجمات في بميدان تخصصه والذي يكون عارفا به متمكنا من نواصيه كالطب والفيزياء وعلم الفلك، ومن الملاحظ غياب كلي لترجمة كتب الأدب باستثناء الأحكام والأمثال، وقد كان العمل بهذه المدرسة مقسم، حيث كان المترجمون تناط بهم مهام أخرى غير الترجمة ونذكر منها النسخ والتصحيف والتجليد.
وعموما فقد كانت مادة الترجمة معتمدة في المقام الأول على نصوص يراد من وراء ترجمتها الدفع بعجلة المجتمع العربي نحو الأمام في كل الميادين وعلى كافة المستويات أي أنه كان يغلب على اختيارات الكتب الوازع النفعي المحض، وكنتيجة للسير في هذا المسار والتوجه تسربت إلى اللغة العربية نظريات وأفكار ومصطلحات كانت مفتقدة وربما كانت في أمس الحاجة إليها انذاك.
فقد ‘ كان النقلة والمترجمون في العصر العباسي الأول عصر النقل والترجمة يجيدون اللغة العربية كما يجيدون بجانبها اللغات التي يترجمون منها وكانوا يعتمدون على الحفظ والحافظة في استخدام الرصيد اللفظي من اللغة الأجنبية التي ينقلون عنها’
أرستقراطية المنظرين للترجمة : وهم فئة قليلة ممن تحدثوا حديثا إجمالية وحيزا ولا يتسنى القليل من طرق الترجمة. وشروطها ومذاهبها من دون أن تكون لهم تجربة تذكر في الميدان من أمثال الجاحظ التوحيدي الصفدي
مثلت الترجمة بالنسبة للعرب السبيل إلى اكتشاف الاخر والطريق إلى الرشف من منبع علمه ومعرفته، وهذا ما لم يكن معروفا عند القدماء فخطباء ومترجموا الرومان اتخذوا الترجمة كنوع من المحاكاة لنصوص الأقدمين، فجعلوا من الترجمة رمزا بلاغيا وأسلوبا من شأنه أن يقوي من عضد لغتهم الناشئة والتي لم يكن قد اكتمل تكوينها بالكامل انذاك.
رغم دراسة مترجمي بغداد وفي مقدمتهم المترجم العربي ‘الكندي’ الترجمة باعتبارها سبيلا إلى استجلاب المعرفة وتوظيف العلوم الكونية في مختلف التخصصات، إلا أنه من الجدير بالذكر هنا ارتباطهم واقتناعهم الكامل والثابت بلغتهم الأصل، وهذا الرسوخ في الرأي والعزيمة دفع بهؤلاء العلماء الأفداد الكرام إلى عدم الاقتباس من اللغات الاخرى فيما هو مرتبط بالجانب اللغوي والبلاغة ووالأساليب.
إن من أهم مميزات الترجمة في تلك المرحلة الحرص على الأصالة في الاختيار وضبط المخطوطات المراد ترجمتها وذلك بالبحث عن أصولها وتوثيقها التوثيق العلمي الصحيح والسليم، وكذا مقارنتها مع باقي المخطوطات ومن هنا يمكن فهم السبب الكامن وراء قطع المترجمين لمسافات طويلة وذلك بهدف البحث والتأكد من صحة المكتوب ودقة القول، وقد كان هؤلاء لا يدخرون غاليا ولا نفيسا مقابل الحصول على هذه المخطوطات، هذا من جهة ومن جهة أخرى كان هناك اهتمام كبير باختيار الأساليب والمصطلحات،وهذا يدخل في إطار ‘الأمانة’ الترجمية التي من الواجب التحلي بها عند الأخذ بزمام الترجمة والبدء في العمل بها، غيرأن جدة بعض المصطلحات العلمية وحداثتها كان تدفع بهم بين الفينة والأخرى ل’الإقتباس′، وهذا أمر إيجابي نظرا لكون اللغة تؤثر وتتأثر. لقد كان ممكنا إيجاد كتب ترجمت مرتين وأذكر مثالا ترجمة ل’الحجاج بن مطر’ لكتاب ‘أصول الهندسة’ لأقليدس في عصر ‘هارون الرشيد’و سماه ‘النور الهاروني’ ثم أعيد ترجمته ‘ في عصر ‘المأمون’ وسمي بـ’النقل الماموني’.
كل ما سبق يدل على مدى النهضة والازدهار التي عرفتها الترجمة في العصرين الأموي وخاصة العباسي وهو راجع لاهتمام الدولة بكل مكوناتها بميدان الترجمة وذلك منبثق من الإيمان باختيار عنصر الترجمة باعتباره مفتاحا للمعرفة والعلم والرخاء وذلك عن طريق استجلاب واكتشاف كل ما هو جديد والمساهمة في بناء صرح العلوم في الدولة.
2.4 مدرسة طليطلة :
قامت مدرسة ‘طليطلة’ للترجمة بالأندلس في القرن 12م، وقد ضمت بين جنباتها ثلة من المترجمين الأوروبيين العظماء هذا ما ذكره ‘جورج مونان’ إذ أشار إلى أنها أول مدرسة حقيقية للترجمة. حل العرب بشبه الجزيرة الإبيرية سنة 711 م واستقروا بها زهاء 7 قرون وخلال هذه الفترة تقلبت أحوال وأوضاع الأندلس فكانت اخرها فترة حكم ‘ملوك الطوائف’ وقد عرفت الأندلس انحطاطا سياسيا ويقول ‘المعتمد بن عباد’ واصفا حالة الوهن تلك :
مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
إلا أنه ورغم هذا التدهور على المستوى السياسي، فقد ظل الإشعاع الأدبي والفكري للمجتمع الأندلسي مستنيرا ومشعا لأن اهتمام الأمراء والملوك بالعلماء والمفكرين ظل قائما وذلك بتهيئ الظروف الملائمة للبحث وبذل جزيل ووافر العطاء لهم وكذا حيازة المخطوطات منهم.
بعد رحيل العرب أصبح المجتمع الأندلسي يتكون من اليهود والمستعربين وهم الساكنة التي تعربت إلى حد ما ولكنها بقيت على دينها المسيحي وقد نتج عن هذا التعدد والتنوع السكاني تعدد لغوي أيضا، كما يمكن ترتيب اللغات السائدة انذاك كما يلي: ‘الأمازيغية’ كلغة شفوية لا يترجم لها واللغة العربية الكلاسيكية والتي كانت الغة العامية ولها السواد فظلت لقرون متداولة كتابة وقراءة ثم تأتي الرومانية اللهجة الأهلية والتي ستنبثق منها الإسبانية القشتالية، وقد كان يتحدثها رجال الدين وعلماء اليهود.
من بين العوامل الرئيسة والمؤثرة في حركة الترجمة بـ ‘الأندلس′ هناك سلطة الكنيسة ومؤسساتها والتي مثلها البابا والقساوس وبعدها هناك سلطة الدولة وتتمثل في السلطة الإمبراطورية، وقد انقسمت جمهرة المترجمين خلال القرن 12م إلى مجموعتين المجموعة الأولى وتضم المترجمين ‘اللاتينيين’ وقد حملوا هذا الإسم لأن لغة الوصول لديهم كانت اللاتينية وهي لغة الكنيسة بامتياز انذاك، وأغلبهم من علماء اليهود، والذين كانوا يجيدون اللغة العربية والفلسفة والعلوم الإنسانية الأخرى.
وقد كان من مميزات هذه الطبقة اللاتينية: كون غالبية هؤلاء المترجمين الذين شاركوا في هذه الحركة لا ينتمون إلى شبه الجزيرة الإيبرية، بل قدموا إليها من أراضي أجنبية وخاصة من إيطاليا والجزر البريطانية كما أن أغلبيتهم كانوا ينتمون إلى الكنيسة وهم نخبة مثقفة قادرة على الكتابة والقراءة كما أنها تتوفر على لغتين او أكثر.
ثم هناك مجموعة الثانية وتضم المترجمين ‘الألفونسيون’ وقد سموا كذلك لارتباطهم ب’ألفونسو العاشر’و قد كان على عهده مشروع ترجمي ضخم قام بالسهر عليه ومتابعته وتمويله شخصيا خلال القرن 13 . ورغم غياب المعاجم المزدوجة والقواميس المختصة إلا أن مترجمي ذلك العهد كانوا يلجأون من أجل سد هذا الفراغ إلى التكاثف والتكامل من خلال الاعتماد على العمل الجماعي المثمر بين أصحاب جميع التخصصات والاختصاصات فكانت النتائج مبهرة وإيجابية إلى حد كبير، وقد تجلى ذلك في الترجمات المنجزة والتي كانت على قدر كبير من الأمانة العلمية والجودة الترجمية.
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو