قبل سنوات زرت مركز الحسين للسرطان، وكنت عائدة للتو من علاج في واحدة من أعرق مستشفيات أوروبا: مؤسسة كوري في باريس. ذهلت وأنا أرى الأهالي يدخلون إلى المستشفى حاملين أطباقا من الطعام والمشاوي وباقات من الزهور، كما ذهلت وأنا أرى المراجعين في قاعات الانتظار وفي الممرات يستعملون الهواتف الجوالة بكثافة.
قبل أيام قادتني الضرورة إلى جراحة في المستشفى نفسه، لأجد أن المستوى الذي تقدمه للمواطنين لا يقل بشيء عن أعرق المستشفيات المماثلة التي عرفت في أوروبا وأمريكا. أطباء متمكنون في مهنيتهم، رائعون في إنسانيتهم، لا يتعاملون معك كرقم على قائمة بل استطاعوا أن يرتقوا إلى المهنية الغربية مع الحفاظ على الدفء الإنساني العربي، أجهزة حديثة متطورة وتقنيون واثقون ومتحمسون، نظافة لافتة وحرص جميل على كل المنجز ونظام إداري يحقق ما يتميز به الغرب وهو أنك، كمريض، إذا ما دخلت في الحالة العلاجية، فإن ثمة آلية مبرمجة تنفذ تلقائيا وبدقة، من مرحلة إلى أخرى. أسعدني أن أرى أن من حمل الزهور من ضيوفي اضطر إلى تركها في الاستقبال، موفرا على المستشفى ما يمكن أن تحمله من فيروسات وبكتيريا وكيماويات، وأن مظاهر الطعام المحمول من خارج المستشفى قد اختفت كليا، بل إن مقصف المركز نفسه لا يقدم الخضار النيئة إلا ما كان منها معلبا ومعقما. وأخيرا إنني عندما ذهبت إلى الأشعة وجدت يافطة تعليمات على الباب تقول: يمنع استعمال الهاتف الخلوي.
غير أن الصدمة الكبيرة كانت في أن أحدا من الضيوف وحتى الممرضين والتقنيين لا يلتزم بهذه التعليمات. وعندما راجعت الممرضة قالت لي: عندك حق ولكن ماذا نفعل؟ عدت لأقول لشاب يقف عند باب غرفة السيتي سكان: يا بني هل تعلم أن جهازك هذا يشوش على الأجهزة، فتجاهلني، وعندما نادته أمه انفجر بي صائحا بقلة أدب لافتة بشكل استدعى تدخل بعض المراجعين. عند باب الأشعة التشخيصية لم يكن الحال يختلف، وكان حظي التعليقات التالية:- نحن ننتظر هنا منذ ساعة ونريد أن نتسلى. ولماذا لا تتسلين بقراءة شيء مفيد أو حتى مسل؟ - لأنني لا أحب القراءة.
هل تعرفين أن هذا يشوش على الأجهزة ويضر المرضى؟
أجل، ولكن ألا ترين أن موظفة المقسم تستعمله، وحتى الممرضات؟
أخرى تقول: هذه التي تجلس في الصف الآخر طبيبة ترافق أمها ولم تعترض، فما شأنك أنت؟
لا ينفعني أن أقول إن شأني ينتقل من الخاص، أي الضرر الذي يمكن أن يلحق بي، إلى العام الذي يطال السلامة العامة والحفاظ على منجز طبي كبير، مؤسسة استثنائية استطاعت بلادنا أن تحققها. وهل يمكن لكائن أن يتصور حالنا من دونها؟ لا ينفعني شيء، فصبية، فهمت فيما بعد أنها طالبة جامعية في سنة التخرج، تلحق بأمها إلى غرفة التصوير وهي تثرثر على الخليوي، ورجل واضح من مظهره أنه من طبقة راقية يحمل هاتفه ويتجول أمام جميع غرف التصوير، وسيدة تحمل في أصابعها ثروة من الألماس تتبجح أنها تحمل في حقيبتها جهازين عوض الواحد، وحتى الخادمة الإندونيسية تنتظر سيدتها على الكرسي المتحرك وتتسلى بتقطيع الوقت على الخليوي.
يصدمني أكثر أنني حين أقول لجارتي، إنني عندما كنت في مستشفى كوري في باريس، كان يمنع على المراجعين والمرضى إدخال الهاتف إلى المستشفى ومن خالف طرد منها، تجيبني: هذا صحيح، وأنا أيضا أهلي في أمريكا، وقد ترددنا على مستشفى للسرطان كان يمنع على بعد دائرة عشرين مترا منها استعمال الخليوي... صحيح، إذا كانت الخليويات تشوش على محركات الطائرة فيفرض إطفاؤها بعد الإقلاع ، فكيف إذا على أجهزة إشعاعية؟ لكنها تردف: نحن عندما نكون في الخارج ننصاع ( كالبسس )، أما هنا وتضحك!!...
أية غرابة! هنا لا نحافظ على صحتنا، ولا على مؤسساتنا، ولا على أجهزة استوردت لنا بشق النفس، ولا على ضمانة عدم التشويش عليها وعلى نتائجها. ونمارس جهلنا وتخلفنا وقلة مسؤوليتنا في حين نعتقد أننا تطورنا وتحدثنا إذا اشترينا منتجات التكنولوجيا في طبعاتها التسويقية التي تسمح لنا بها قدراتنا الشرائية... بل التي تفوق قدراتنا. هنا يكمن مقياس التخلف والحضارة.
أصمت وأعد: خلال نصف ساعة: في قاعة واحدة، اثنان وخمسون هاتفا رأيتها ترتفع في أيدي أصحابها إلى الآذان أو إلى أصابع تكتب الرسائل، وأحاول أن أحسب كم الموجات التي ترسلها هذه الهواتف وغيرها مما لم أره، والحظ إنني لم أر شخصا غيري يقف أمام الباب حيث كتب أمر الحظر، ليطفئ هاتفه قبل أن يدخل. أمام وضع كهذا لا بد من سلوك عملي: على إدارة المستشفى أن تسلك مسلكا أشد قمعية كأن تمنع قطعيا إدخال الخليويات إلى حرمها، بمصادرتها عند الباب لقاء وصل، كما تفعل مع الزهور. أو بالإيعاز إلى العاملين بمصادرة أي هاتف يستعمل داخل هذا الحرم، أو بتكليف موظف خاص بذلك. وعلينا نحن في مختلف وسائل الإعلام أن ننظم حملة توعية عامة، وعلى الجهات المهتمة أن تقوم بحملات مشابهة من مثل حملة: أوعدينا تفحصي. كما أنه على المؤسسات الصحافية ودور النشر والكتاب أن تتبرع للمركز بكمّ من المطبوعات التي يمكن للمراجعين أن يتلهوا بها، علّنا بذلك نضرب عصفورين بحجر واحد. حماية التكنولوجيا المفيدة من التكنولوجيا الضارة، حماية التقدم العلمي من التخلف الاجتماعي والثقافي.
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو