الأحد 2024-12-15 04:51 م
 

ثلاثية روائية لـ ‘عبد الرشيد محمودي’: ‘بعد القهوة’

06:33 م

الوكيل - ‘بعد القهوة’ أحدث رواية صدرت للناقد والكاتب ‘عبد الرشيد الصادق محمودي’ عن مكتبة الدار العربية للكتاب بالقاهرة . يصفها مؤلفها الدكتور عبد الرشيد الصادق محمودي فى عنوان فرعي بأنها ثلاثية روائية، تدور أحداث الجزء الأول منها ‘قاتلة الذئب’ في قرية ‘القواسمة’ بمحافظة الشرقية في مصر، أما الجزء الثاني ‘الخروف الضال’ فتدور أحداثه في مدينتي الإسماعيلية في منطقة القنال، وأبوكبير في محافظة الشرقية، فيما تدور أحداث الجزء الثالث ‘البرهان’ في ‘فيينا’ عاصمة النمسا.اضافة اعلان

والرابط الرئيسي بين هذه الأماكن المتباينة مسيرة طويلة يقطعها بطل الرواية ‘مدحت’ بدءاً من طفولته بقرية ‘أولاد قاسم’، مروراً بصباه الأول وتعلمه في الإسماعيلية وأبوكبير، حتى ينتهي به الأمر إلى الإقامة فى فيينا مرتين: الأولى بعد التحاقه بالسلك الدبلوماسي ـ وقد شهدت المدينة عندئذ ولادة روايته الأولى وفشل زواجه، ومرة أخرى بعد عقدين من الزمان. فلماذا عاد إلى فيينا؟
هذا هو السؤال الذي يطرحه ‘مدحت’ على نفسه طوال الوقت، ولا يكاد يجد له جواباً حاسماً.
ونحن، على أية حال، بإزاء رحلة طويلة في المكان، والزمان، بحثاً عن الحب، رحلة في أعماق النفس، وصراع بين الجسد والروح، وعشق الموسيقى.
وتحفل الرواية ببيئات مختلفة وشخصيات متعددة، بالإضافة إلى شخصية البطل.
وهي ثرية بفضل الروافد الثقافية التي غذتها، وثرية باختلاف أساليب السرد، وتنوع المشاهد التي تتنقل بين ما هو هزلي، وما هو جاد شديد الجد.
واللافت للنظر أنها تأتي ككل متكامل، وكنسيج واحد متعددة ومتقاطعة ومتشابكة خيوطه.
ومن الملاحظ أيضاً أن التنقل من مكان إلى مكان، ومن فترة زمنية إلى أخرى يتم بسلاسة، وإن كان حافلاً بالمفاجآت والأحداث المثيرة للدهشة.
بل إن هناك ما يشبه الحضور لكل شيء؛ فما وقع للبطل في طفولته أو في صباه يعود إلى الظهور ويصبح حاضراً في فيينا. وفيينا نفسها تجد ما يبشر بها. فالجزء الثالث من الرواية يشير إلى أغنية أسمهان المشهورة ‘ليالي الأنس في فيينا’، والجزء الثاني يشير إلى أغنية أخرى لأخيها فريد الأطرش ‘يا زهرةً في خيالي’؛ يسمع البطل هذه الأغنية لأول مرة في الإسماعيلية، ثم يستحضرها عند زيارته الثانية لفيينا وهو يشاهد رقصة ‘التانغو’.
في بعض الأحيان يخيل للقارئ أنه بصدد قصة خرافية . فهناك شخصيات وحكايات ذات أبعاد يمكن أن تكون ‘خرافية’، مثل زينب جدة البطل التي يروى أنها قتلت الذئب، أو ‘ماريكا’ ‘ الخوجاية ‘ اليونانية التي تهبط ذات يوم على قرية ‘أولاد قاسم’ لتأخذ مدحت اليتيم إلى الإسماعيلية، فتعلمه اليونانية والفرنسية، وبفضلها يسلك طريقه إلى المدرسة، ومن خلالها يتعرف على أوروبا لأول مرة (فيما يسمى ‘حي الإفرنج’ في الإسماعيلية الذي أريد له أن يكون قطعة من أوروبا)، ثم يقذف به إلى أوروبا في نهاية المطاف، ومثل قصة الحب العارمة بين ‘ماريكا’ وسالم خريج الأزهر الذي يأتي ليلاً على صهوة جواده لكي يزورها في مخدعها و’يختطفها’ كما يعتقد البعض في ‘أبوكبير’.
شخصيات وحكايات لها أبعاد خرافية لأنها تضرب بجذورها في موروثات فولكلورية مصرية وأسطورية يونانية.
ومع ذلك، فإن الرواية تظل شديدة الواقعية شديدة الصدق باعتبارها تمثل ما يبدو أنها سيرة ذاتية لكاتبها . فالقارئ إذ يتنقل مع المؤلف بين تلك البيئات المختلفة يرى البيئة المعنية سواء أكانت ‘القواسمة’ أو ‘الإسماعيلية’ أو ‘أبوكبير’ أو’ فيينا’ واضحة المعالم، بل شديدة الثقل والوطأة إذا صح التعبير. ذلك أن بطل الرواية لا يعيش في أي مكان إلا ويحدد لنفسه الآفاق الجغرافية والمعالم المادية لكل بيئة لأن لكل منها مجالا لتجواله وضياعه أو ‘ضلاله’ – كما يشير عنوان الجزء الثاني: ‘الخروف الضال’. فمدحت من البداية إلى النهاية إنسان مغترب أينما كان يرى نفسه في أحد أحلامه ككائن قادم من الفضاء الخارجي، وجسمه أشبه بسفينة فضائية. ولكنه يجد في كل بلد مجالاً يتحرك فيه على غير هدى، وبلا هدف سوى أنه يعشق الأمكنة أينما حل . وكأنه يبحث عن الاستقرار في كل مكان يحل به، ولكنه مضطر لسبب أو لآخر إلى الرحيل عنه. أم أنه يريد الرحيل؟
ومن بين القصص الفرعية التي تحفل بها الرواية قصة تعلق مدحت بالموسيقى . صحيح أنها قصة فرعية ولكنها تمثل خطاً بارزاً يمتد من بداية الرواية إلى نهايتها . فهو لا يذكر يوماً من أيام حياته وقد خلا من الموسيقى، ولم تدعه الموسيقى أو ‘تطارده’ فيه. فهي تلح عليه وتناديه منذ طفولته، منذ كان يستمع – وهو لا يزال رضيعاً – إلى شعراء الربابة وهم ينشدون الملاحم إلى أن استمع لأول مرة في حياته إلى الموسيقى الغربية الكلاسيكية في القاهرة، ثم عرف هذه الموسيقى معرفة وثيقة وأقبل على دراستها وتعلمها في فيينا.
خط متواصل كأنه لحن مستمر لا يتوقف إلا ليعود من جديد. ولذلك نجد أن الموسيقى والغناء يحتلان مكانة مركزية في هذه الرواية، وهما جزء لا يتجزأ من حياة البطل و’ضلاله’.
ويبدو أن هذه الظاهرة ظاهرة الاهتمام بالموسيقى والموسيقى الكلاسيكية على وجه التحديد هي أحد جوانب الجدة والأصالة في هذه الرواية، وأنه باب في القص ربما يفتح لأول مرة في الرواية العربية.
وهناك قصة فرعية أخرى تدور أحداثها في فيينا، لكنها تحتل بدورها مكانة مركزية لأنها تشكل الخاتمة. وهي تبدو وكأنها قصة خرافية، ذلك أن البطل يرى أثناء زيارته الأخيرة لفيينا فتاة ‘تظهر’ وتختفي ثلاث مرات في غضون فترة زمنية قصيرة. وهو يلتقى بها في المرة الثالثة مع أختها وأبيها ويفتن بالأختين: يحب الصغرى التي دعته إلى العشاء مع الأسرة، ثم اختفت كعادتها، ويشتهي الكبرى لأنها مغرية تدعوه. فكيف يخرج من هذا المأزق أو هذه المحنة؟
هو إذن يحتاج إلى ‘برهان’. وهنا يشير المؤلف إلى قصة يوسف عليه السلام، وما جاء في الآية الكريمة ‘… لولا أن رأى برهان ربه’. كما يشير إلى نداء صادر من أعماق البطل وأوحت به الموسيقى: ‘انتصر للفرح’. وكل ذلك يحدث في ظل عاصفة ثلجية، ويسترجعه البطل في حالة بين النوم واليقظة، وبين التداعيات النفسية وما يشبه الكتابة.
ولنترك للقارئ فرصة الاطلاع بنفسه على طبيعة ‘البرهان’ و’الانتصار للفرح’. ولكن لا يفوتنا أن نشير إلى أن قصة يوسف تذكرنا بأن هذه الرواية الحافلة بالمفاجآت المثيرة للدهشة دائما تنهل من روافد ثقافية متعددة؛ فهي – بالإضافة إلى الفولكور المصري – تتضمن إحالات صريحة أو ضمنية إلى الكتب السماوية الثلاثة، وإلى الأساطير اليونانية وبخاصة ما جاء في إلياذة هوميروس وأوديسته – وبصفة أخص قصة ضياع أوديسيوس وهو في طريقه إلى وطنه عائداً من الحرب على طروادة – وإلى عدد من الروايات العالمية الخالدة مثل ‘الإخوة كارامازوف’ لدستويفسكي، و’الدكتور فاوستوس′ لتوماس مان. ومدحت هو في نهاية المطاف خلطة غريبة عجيبة، فهو فلاح مصري، لكنه في نفس الوقت يوناني قديم وأوروبي معاصر.
ومن اللافت للنظر أن تلك الإحالات تخلو من التكلف والتحايل ولا تثير في نفس القارئ أي شعور بالحيرة أو الاضطراب. فكل ما فيها يبدو طبيعياً وضرورياً مثله مثل الحضور الدائم للأماكن والأزمنة المختلفة، ومثل التشابه بين بعض الشخصيات الريفية الملتصقة بالأرض وبين أبطال الأساطير المحلقين في السماء. فليس في عرف هذه الرواية مسافة شاسعة بين فلاح على ظهر حمارته وهو يستمع إلى نداء ‘النداهة’ وبين أوديسيوس على ظهر سفينته وهو يخشى أن يتعرض لغناء الجنية الساحرة، فيطلب إلى ملاحيه أن يشدوا وثاقه إلى الصاري كي لا يلبي النداء.
يبقى القول إن مؤلف هذه الرواية موظف سابق في منظمة اليونسكو بباريس، بدأ حياته في المنظمة مترجماً، فرئيسا لتحرير الطبعة العربية من مجلة ‘رسالة اليونسكو’، فأخصائيا برامج بقطاع الثقافة، فمستشاراً ثقافياً.
درس عبدالرشيد الصادق محمودي الفلسفة في جامعتي: القاهرة ولندن، وحصل على درجة الدكتوراه في مجال دراسات الشرق الأوسط من جامعة مانشستر.
مارس الكتابة الإذاعية للبرنامج الثاني في إذاعة القاهرة، وللقسم العربي في الـ ‘بي بي سي’ بلندن. كما اشتغل بالترجمة في القاهرة وفي لندن.
كاتب متعدد الاهتمامات؛ فهو شاعر، وقاص، وروائي، ومترجم، وباحث في مجالات الفلسفة والنقد وتاريخ الأدب. نشر مجموعة شعرية، وثلاث مجموعات قصصية، ورواية. وتعد رواية ‘بعد القهوة’ هي روايته الثانية.
يعد في الوقت الحاضر بحثا عن العلاقة بين النقل والعقل أو الشريعة والفلسفة كما طرحت في الإسلام وفي الغرب. من كتبه في مجال الترجمة: ‘برتراند رسل، فلسفتي كيف تطورت’ عن المركز القومي للترجمة، القاهرة 2012، ‘الموسوعة الفلسفية المختصرة’ مع آخرين، مشروع الألف كتاب، القاهرة 1962، ‘طه حسين.. من الشاطئ الآخر’، كتابات طه حسين الفرنسية، المجلس الأعلى للثثقافة، القاهرة، 2008. كما حقق وقدم: ‘طه حسين.. الكتابات الأولى، دار الشروق، القاهرة 2002.
ومن أعماله المؤلفة:
Taha Husain’s Education from the Azhar to the Sorbonne (Richmond, U.K. 1995)
و’طه حسين من الأزهر إلى السربون’ وهو ترجمة للكتاب السابق، ‘اللورد شعبان’ مجموعة قصصية، ‘طه حسين بين السياج والمرايا’، ‘حبا في أكلة لحوم البشر’ ديوان، ‘ركن العشاق’ مجموعة قصصية، ‘أدباء ومفكرون’ مجموعة مقالات،’زائرة الأحد’ مجموعة قصصية في، ‘عندما تبكي الخيول’ رواية، ‘محاكمة اليهودي المارق ومقالات أخرى’، ‘غربة الملك الضليل ومقالات أخرى’.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة