الأحد 2024-12-15 11:39 ص
 

سيناريو فتح مكّة

05:03 م

الوكيل - (إلى السيّد راشد الغنوشي)
لم يعد يخفى على أيّ من متابعي الشأن التونسي، أنّ هناك تجاذبًا أو ‘تقاطباً’ بين المعارضة وكثير من أطياف المجتمع المدني، من جهة، والنهضة وحلفائها، من جهة أخرى. وقد بلغ هذا التجاذب ذروته في اعتصام الرحيل بباردو، واعتصام ‘الشرعيّة’؛ وخاصّة تظاهرة النهضة يوم السبت3/8/2013 في القصبة، وقد رُفعتْ فيها شعارات مثل’ ديمقراطيّة: واجب’ و’دولة مدنيّة: واجب’ وما إليها من شعارات غريبة عن جمهور النهضة؛ حتى لَنَخال أنّنا ـ لولا معرفتنا بالجهة المنظمة ـ في اعتصام الرحيل. والشعار هامّ في مثل هذه التظاهرات، إذْ يُفترض أن يكون قد اخْتِير بعناية، وأن يكون مختزلا موجّها أسلوبا ونغمة وتوقيتا، إلى هدف معيّن، وأن نصغي فيه إلى نبض مختلف الطبقات الاجتماعيّة والمهن، وحتى المجاميع العِرقيّة كما هو الشأن في تونس ما بعد17ديسمبر/14جانفي، التي بدأت تنذر بشبح ‘تقسيم’ مخيف. ولكن لا شيء من ذلك، فهذه الشعارات لا تنمو من الحدث الذي تعيشه بلادنا، منذ استشهاد شكري بلعيد فمحمّد البراهمي فثمانية من حماة الوطن البواسل؛ بقدر ما هي مسلّطة عليه تسليطا. بل اضافة اعلان

هي تكاد لا تُراعي أيّة علاقة بالصور المرئيّة في القصبة، فكيف لسلفيّ يرفع الراية السوداء، في هذه التظاهرة أو في اعتصام ‘الشرعيّة’ في باردو، أن ينسجم!
وشعار الديمقراطيّة أو الدولة المدنيّة؟
ولعلّ هذا ما تفطّن إليه السيّد راشد الغنوشي، عندما طلب من الجمهور ألاّ يرفع سوى الراية الوطنيّة. فالراية السوداء في منظور الأصوليّين والسلفيّين راية الإسلام أو راية الشهادة. وكانت تسمّى ‘العقاب’ وهي راية للنبي. وقد سمّيت كذلك على ما يبدو، لِما كان العرب يضفونه على العُقَاب من كرامة متوهّمة؛ فهو لا يأكل إلاّ من صيده ولا يأكل إلا حيّا، أي هو لا يقتات على الجيف والحشرات. وإن لم يجد صيدا شهيا فإنّه لا يأكل ويظل جائعا.
ومن المعروف أنّ العلم الأبيض مع الحروف السوداء يرمز إلى دار الإسلام، فيما العلم الأسود مع حروف بيضاء يرمز إلى دار الحرب.وهذه الحركات تأخذ بمقولة ‘الجهاد في سبيل الله’ وهو جهاد ‘ماضٍ إلى يوم القيامة’ أو هو ‘الشأن الدائم لا الحالة العارضة’ بعبارة سيّد قطب الذي يرى أنّ سائر المجتمعات جاهليّة أي دار حرب، بما في ذلك البلاد الإسلاميّة، إذْ ‘لادار إسلام إلاّ التي يهيمن عليها الإسلام بمنهجه وقانونه’، وأنّ ‘منْ يدرك طبيعة هذا الدين، وطبيعة منهجه لا يتصوّره قابعا داخل حدود إقليميّة لا يُحرّكه إلاّ خوف الاعتداء’ بعبارته أيضا. وهو بهذا إنّما يرسم صورة لديانة توسّعيّة أكثر منها تبشيريّة، على نحو ما نجد عند كثير من الأصوليّين والسلفيّين. ف’الجهاد’ كما يقول ‘ضرورة للدعوة سواء أكان الوطن الإسلامي آمنا أم مهدّدا… والسبب أنّ المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة، وليست شيئا آخر على الإطلاق’.
ومن هنا يجوز لنا إذن ـ نحنُ التونِسِيِّينَ المسلِمِينَ ـ أن نتساءل عن علاقة الإسلام بالسلم؟ أليس من حقّ جيراننا الأقربين أو الأبعدين في الضفة الأخرى من المتوسّط أن يتوجّسوا خيفة من هذا ‘الإسلام’ العنيف إسلام الجهاد والتكفير؟ وهل يمكن لهم، كما يقول الباحث المصري عبدالسلام حيدر، أن يعيشوا ـ مادام الجهاد شأنا دائماـ داخل حدود آمنة؟ بل كيف نتدبّر إذن الآية القرآنيّة ‘وإن جنحوا للسلم فاجنح لها’ وغيرها من الآيات التي لا يتّسع لها هذا الحيّز؟ فهذا أعلى بكثير من سقفنا التونسي، ومن تونس البلد العربي الإفريقي المسلم المسالم الذي عاش في كنف الوئام والتآخي مع جيرانه وهم في الحقيقة جوارنا الروحي: الجزائر وليبيا والمغرب. وقد عرف بناة الدولة التونسيّة الحديثة، وعلى رأسهم بورقيبة، كيف ينأون بتونس عن الحروب الحدوديّة التي دمّرت علاقات كثير من بلدان العالم الثالث؛ سواء أَنَالَ تونس من رسم الحدود حيف أم لم ينلها.
ثمّة قاعدة معروفة في السينما، تنصّ على أنّ العلاقة بين الكلمة والصورة، علاقة تكامل؛ فلا الكلمة تكرّر الصورة، ولا الصورة تكرّر الكلمة. وهذا ما لم يُفلح فيه، مخرجو تظاهرة’فتح مكّة’ كما سمّاها زعيم النهضة، وكتبة سيناريوها، إذْ عمدوا إلى حجْب نقاط الضعف، بشعارات هي من ‘الكذب السياسي’. والسيّد راشد الغنوشي خرّيج قسم فلسفة، ولا نخاله إلاّ قد قرأ ما صنّفه أفلاطون وأرسطو وأوغسطين ومكيافيلّي في هذا الباب. وكثير من السياسيّين يتعاملون مع السياسة على أنها ‘فعل كاذب’ أو حِنـْث في الصنيع وفي القول. ولكن هل كان كلّ هذا الجمهور الخليط كما تدلّ على ذلك، راياته المرفوعة، من صنيعة الزعيم؟ أهو الذي اصطنعهم وربّاهم وخرّجهم، حتى يهتفوا بهذه الشعارات التي لا تناسبهم، ولا نسمعها عادة من زعيمهم ومعلّمهم؟ اللهمّ إلاّ أن يكون الأمر صورة من ‘بوذيّة زن’ حيث يُنظر إلى المعلّم على أنّه تجسيد حيّ لبوذا، فيضع نفسه بين يديه، كما يضع المريض حياته بين يديْ جرّاح ماهر.. ربّما.. فالسيد راشد وقد شبّه تظاهرة ـ لا تختلف من حيث طرق إعدادها عمّا كان يفعله بن علي في ذكرى السابع من نوفمبر من تسخير أدوات الدولة ـ بـ’فتح مكّة’، كان ـ بوعي منه أو دون وعي ـ يُقدّم نفسه كما لو أنّه تجسيد حيّ للتبي محمّد.. أو لعلّها صورة أخرى للعلاقة بين الخليفة ورعيّته، أو القائد وجنوده.
* * *
السؤال الذي يتحاشى النهضويّون الإجابة عنه، وقد عبّرت عنه المناضلة المرموقة ميّة الجريبي بكلّ وضوح، ودون لفّ أو دوران وهي تتوجّه إلى أحد ‘صقور’ النهضة عبد اللطيف المكّي وزير الصحة( والغريب أنّ كثيرا من الأطبّاء الذين تعاطوا السياسة كانوا دائما من ذوي الميول الفاشية): ما الذي يخيف النهضة من حكومة كفاءات مستقلّة عن الأحزاب جميعها، وتكون محل توافق بين كلّ الفرقاء؟
الحق أنّ الجواب الشافي قدّمه السيّد راشد الغنّوشي منذ حوالي ستّة أشهر، وتحديدا يوم 12فيفري 2012، إذْ صرّح معترضا على اقتراح الجبالي رئيس حكومة النهضة المستقيل، بُعَيد َ اغتيال الشهيد شكري بلعيد: ‘النهضة ستغادر الحكم نهائياً إن أصرّ سيي حمّادي الجبالي على حكومة كفاءات.’
والغريب أنْ لا أحد من المعارضة،قرأ هذا التصريح كما يجب أن يُقرأ،أو استوقفته عبارة’نهائيّا’. ولأكنْ صادقا، فمأساة تونس أنْ لا إسلاميّوها يقرأون الأدب ويشاهدون المسرح والسينما، ولا معارضوهم. وقد علّمنا طلبتناـ ونحن نشرح لهم بعض نصوص الأدب، ونقاربها من منظور ‘تداوليّ’ ـ أنّ عبارة مثل التي يضعها الكلب خطِرٌ’، ليست بالبساطة التي يتصوّرون؛ بل هي حمّالة أوجه: فقد يكون صاحبها على خُلُق عظيم، ! بعض سكّان الأحياء الراقية على سياج الحديقة’ انتبه
فهو يضعها خشية على الأطفال النزقين الذين يتسلّقون السياج، لقطف ثمرة أو زهرة، أو على أصدقائه، حتى يأخذوا حذرهم، وقد يكون الحيّ مرتعا للصوص النهار وسرّاق الليل، فهو يخيفهم… بل ربّما هو لا يمتلك كلبا أصلا!
فلو كان زعيم النهضة قال’ النهضة ستغادر الحكم إنْ أصرّ سي حمّادي الجبالي على حكومة كفاءات’ أي من دون’نهائيّا’، لكان من أظهر معانيها أنّ النهضة ستفقد الحكم مؤقتا، أو أنها يمكن أن تستعيده في انتخابات لاحقة. أمّا وقد تضمّن تصريحه كلمة’ نهائيّا’ وهي بمثابة نعت لمفعول مطلق محذوف، فهذا يعني من جملة ما يعني أنّ حكومة كفاءات مستقلّة عن كلّ الأحزاب، تدير ما تبقّى من هذه المرحلة الانتقاليّة، تقضّ مضجع النهضة، إذْ ستترتّب عليها جملة أمور، من أهمّها:
أنّ هذه الحكومة ـ في حال إقرارها ـ ستعمل على إعادة النظر في التعيينات الإداريّة التي قامت بها حكومة النهضة على أساس الولاء لها، وليس على أساس الكفاءة(الولاّة والمعتمدون ورؤساء المصالح العموميّة والعُمـَد…)، بما ينجم عنه تحييد الإدارة، وتحييد الأمن؛ فضلا عن استقلال القضاء. وهذه شروط لابدّ أن تتوفـّر في أيّة انتخابات شفافة نزيهة.
قد تفرّط النهضة في المجلس التأسيسي.. ولكن يصعب أن تفرّط في حكومة تترأسها هي، وتوزّع حقائبها هي. لنكن صرحاء: النهضة تخشى أيّة انتخابات في ظل حكومة كفاءات مستقلّة.. وزعيمها وقادتها يدركون ذلك جيّدا. فما بالنا لو جرت هذه الانتخابات بإشراف الأمم المتحدة، كما أصبح ينادي بذلك: لا السياسيّون وبعض المثقفين فحسب وإنّما بعض أساتذة القانون أيضا مثل الأستاذ سليم اللغماني الذي اقترح على رئيس الدولة أن يتوجّه إلى الأمم المتّحدة، بمطلب في هذا الغرض.. وباستثناء السيّد الباجي قائد السبسي، فلا أحد من المعارضة انتبه إلى هذه الناحية.
* * *
من تعاليم بوذيّة الزن اليابانيّة:خاصّ بإخواننا من النهضويّين عسى أن يراجعوا أنفسهم، ويراجعوا موقفهم من ميليشياتهم المسمّاة ‘روابط حماية الثورة’

ـ حكاية أولى:

قال البروفسور للمعلّم تان ـ ان: لقد جئت لكي ابحث في موضوع الزن
قال تان ـ ان: اجلس يا بروفسور، وتناول الشاي معي ثمّ أعدّ الشاي، وأخذ يصبّ قدحا للبروفسور، واستمرّ يصبّ حتى امتلأ، ورشح على جانبه. والبروفسور يراقب برعب، حتى إذا لم يقدر على أن يتمالك نفسه، صاح بالمعلّم:
ـ كفى لقدامتلأت الكأس!
فقال تان ـ ان: أنت مثل هذه الكأس، ممتلئ بالآراء والأفكار، فكيف تريدني أن أشرح لك الزن، قبل أن تـُفرِغ هذه الكأس؟

ـ حكاية ثانية:
من المعروف في البوذيّة أنّ النصر يمكن أن يتحقّق،دون قتل العدوّ؛ فالفنون الحربيّة اليابانيّة هي طرق للإدراك والفهم، ولس للعدوان دور فيها. ومثال ذلك قصّة الساموراي بوكدين،فقد وقف عليه وهو في مجلس مع أصدقائه، جنديّ يتقلّد سيفا،ويقول بفخر:
ـ براعتي في استخدام السيف، لا يجاريها أحد.
ثمّ توجّه بالخطاب إلى الساموراي:
ـ من أيّة مدرسة أنت؟
قال الساموراي:
ـ أنا من مدرسة النصر،دون استخدام اليدين
قال الجندي مزهوّا:
ـ وأنا أتحدّاك وأدعوك للمبارزة
قال الساموراي:
ـ حسنا! لكنّي أقترح أن يكون قتالنا في جزيرة، حتى لا نؤذي أيّ شخص آخر
وامتطيا قاربا. حتى إذا بلغا الشاطئ، قفز الجنديّ منه، إلى أرض الجزيرة، وأشهر سيفه. غير أنذ الساموراي بوكدين وقف في القارب،وكأنّه سيتبع خصمه؛ ثمّ دفع القارب بقوّة إلى الخلف، وهو يصرخ في الجندي الذي يشهر سيفا والذي لن يقدر على العودة، قائلا:
ـ هذا دفاع عدوّك، دون استخدام الأيدي!


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة