الأحد 2024-12-15 02:55 ص
 

المعلم يؤتى

03:42 ص

في زمن هارون الرشيد حيث لم تكن الشمس تغيب عن دولته ولم يكن عدو في مأمن من صولته، وحيث كانت العدالة أمر ظاهر والعدل وصف باهر، وحيث كان إذا غضب تُسدل الستائر على جلسائه لأن أحداً لا يجرؤ أن ينظر في عينيه، وحيث كان يخاطب السحاب فيقول أمطري حيث شئتِ فخراجك عائد إليّ! فإن أمطرت في أرضه فله ولرعيته، وإن أمطرت في أرض غيره فستعود له جزية أو استرضاء وحيث كان يتحدث العلماء والفقهاء وذوي الرأي، ويسكت الجهال والصبيان والرعاع.اضافة اعلان

وحيث كانت الامانة شرف يفتخر به والخيانة منقصة ومذمة يُستبرأ منها ويُنبذ صاحبها فيكون عبرة لمن اعتبر، في ذلك الزمن عاش الامام مالك بن أنس رضي الله عنه في المدينة المنورة إلى جوار الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وفي بغداد يكبر الأمين والمأمون ولِيا عهد الخليفة إلى جوار أبيهما هارون الرشيد وينظر هارون الرشيد الى فلذتي كبده يكبران ويشتد عودهما وقد أتقنا فن الرجولة والتخشن، وأبدعا فن التواصل مع الناس واختلطا بهم، فَفَهِما حوائجهم، وأحسّا بمن حولهم فيبعث برسالة إلى الامام مالك فيها، بعد السلام والاحشام والاعزاز والاكرام .. إن شئت أن تأتي إلى بغداد فتقيم بيننا معززاً مكرما ونعهد لك بتربية وليّا عهدنا الأمين والمأمون فإنا نعوّل عليك بإنباتهما نباتاً حسنا، فتعلمهما القرآن والحديث ، وشعر العرب ، ومرامي الكلام ، والفقه الذي ينجوان به عند الله تعالى، ومكارم الأخلاق، ويكونا موضع رعايتك حتى يتشربا العدالة وسير العرب والغزوات، وانت في ذلك متفضل عليهما.
وتصل الرسالة الى الامام مالك رضي الله عنه مختومة بخاتم الخلافة فيجيب الخليفة بعد السلام والإكرام، يا أمير المؤمنين إن كان ما ذكرت في رسالتك أمراً تأمره فسمعاً وطاعة، وإن كان رأياً ومشورة .. فإن العلم يُؤتى ولا يأتي. والسلام!
فلما نظر الخليفة فيها قال : صدق الامام مالك، وأرسل له ولديه إلى الامام مربياً وعالماً وفقيهاً وقد طلب منه أن يوافيه بسيرتهما واخلاقهما وصنيعهما. ويبعث الامام مالك يوماً في تقريره إلى الخليفة أن وليّ عهده الأمين قد تأخر عن إدراك تكبيرة الحرام مع الإمام! ولم يكن السبب مباراةً ولا تسوقاً ، ولا لهواً أو لعباً، ولكن السبب أن الأمين قد اغتسل وانشغل بترتيب شعره متأخرا! فلما وصل التقرير الخطير المنذر ببداية انقطاع الحبال مع الله تعالى بالانشغال عن فرائضه ، والمظهر لتسيّب في أولويات الأمين ، والموضح ان بذرة سيئة دخلت الارض الطاهرة، وخُلقاً دسيساً قد لاحت بوادره ما يشكل خطورة على الثمرة المرجوة من ابن الخليفة فالانقطاع عن الله وتوفيقه انقطاع للمدد الالهي والدعم الرباني، أرسل الخليفة حلاقاً من بغداد الى المدينة المنورة فأجلس ولّي العهد ثم جّز شعره بالموس - الشفرة - ثم حمل شعر ولي العهد حتى رجع به بغداد فلما وضعه بين يدي الخليفة قال : الحمد لله الذي أعان هارون أن يزيل منكراً من بيته!!
قوم عرفوا طريقهم وعرفوا ما يصلحهم، عرفوا كيف يرتبطون مع الله، وكيف يصلحون دنياهم بدينهم، فأسكتوا المنافقين المتنفعين، ووضعوا لأنفسهم قاعدة مفادها العلم يُؤتى.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة