الخميس 2024-12-12 11:41 ص
 

النص التُّراثِيّ، بين حَصْر المعنى، وانْشِراحِه

11:45 ص

الوكيل - ‘ فلا يُمكنُك أن تتخلَّص من أي شيء، إذا لم تُنَقِّب اضافة اعلان

عن جُذُورِه الدَّفينَة في الماضي ‘[م. أركون]
مُواجَهَة التراث، لا تكون في رَفْضِه، بل في الإقبال عليه، والدُّخُول فيه. لا أعني بالدُّخُول، الذَّوَبان في هذا التراث، أو الامِّحاء في أَبَدِيَتِه، بل أن نقرأه في تاريخيته، وأن نستمع إليه، لِنُمَيِّز في طبقاته الصوتية، بين ما يقبل الحياة والصيرورة، بحكم ما يحمله في طياته من حيوية، وحياة، وبين ما لم يعد يقبل الحياة، لأنَّه، في أصله، وُلِدَ مَيِّتاً، صامتاً، لا غِنَاءَ فيه.
ما يَهُمُّنِي في قراءتي للتراث، وفي انشدادي إليه، هو ما يُتيحُه لي هذا التراث نفسه، من إمكانات للمعرفة، والتأمُّل، والبحت، و ما يدفعني فيه، أي من داخله، لوضع يدي على تناقُضاتِه، وعلى ما فيه من تنوُّع واختلاف.
في نصوص الفقه، مثلاً، كثير مما يجعل القاريء يتساءل حول هذا ‘التَّنَاحُر’ القائم بين المذاهب، وهو تناحُر يجري، في أساسه، حول الرغبة في تَمَلُّك المعنى، والاسْتِحْواذ عليه. المعنى هنا، ليس سوى معنى النص الديني، بشقيه، ‘القرآني’ و’النبوي’. وهو ‘التناحُر’ نفسه الذي نجده بين السنة والشيعة.
فامتلاك المعنى وتسميته، أو تسمية مضامينه، و محتوياته، هو ما يجعل الانتقال من ‘نص’ فريق، إلى ‘نص’ الفريق الثاني، هو انتقال بين حَقْلَيْن، رغم انتمائهما لنفس التُّرْبَة، فهُما لا يُنْتِجانِ الثِّمارَ نفسَها، ليس بما يَضعانِه في هذه التُّرْبَة من بذور، بل بما يَضخّانه في هذه البذور من أسْمِدَة!
هذا ‘التَّناحُر’ في امتلاك المعنى، وضَبْطِه وتَسْييجِه، هو ما كان حَدَثَ حتى في الصِّراع بين الكاثوليك والبروتستانت، في التراث الديني المسيحي، قبل أن تتدخل الثورة التنويرية لتحسم هذا الصراع لصالحها، في قلب نظام المعرفة، كاملاً، وفي إحداث القطيعة المعرفية الكبرى بين الدين والدولة، ووضع الإنسان أمام مسؤولياته، أو تحريره، بالأحرى، من سلطة وهيمنة الكنيسة الكاثوليكية، التي كانت تحتكر تأويل الكتاب المقدس، وتضبط معناه، وتستفردُ به، وتُعَمِّمُه.
هذا ‘التَّناحُر’ في الاسْتِفراد بالمعنى وتحديده، هو بين أهَمّ ما تختزنه النصوص التراثية في طياتها، وما تُحاول أن تتكتَّم عليه، خصوصاً حين يكون هذا النص مُثْقَلاً بالرموز والمجازات، مما يصعب معه فَكّ شفرات هذا النص، أو بلوغ خباياه، بنفس السهولة، أو اليُسْر الذي يُتِيحه لنا النص ‘النثري’ المباشر، الذي يتفادى الترميز، أو ‘شعرية’ الكلام، وأسطوريته، أو سِرِّيَتِه.
هذا ما حَدَثَ في النصوص الدينية السماوية: التوراة، والأناجيل، والقرآن. وهو ما يمكن أن نجده في النصوص الدنيوية المقدَّسَة، نفسها، في حضارتيْ الشرق الأقصى، والشرق الأدنى. فهذه النصوص، هي نصوص شديدة الكثافة والتَّرميز، وهي نصوص مُشْكِلَةٌ، في لغتها، أي في مجازاتها، وفي طريقتها التعبيرية التي لا تُتِيح المعنى بصورة كاملة ونهائية، أو لا تكشف عنه بنفس اليُسْر والإبانَة التي نجدها في الأساليب التقريرية المباشرة، بقدر ما تجعله مفتوحاً على أكثر من وجْه، و أكثر من احتمال، ولا يقبل الحَسْمَ أو القَطْعَ، وأنَّ ما كان يُقَدِّمُه كل فريق من الفُرَقَاء الدينيين، من معانٍ، كان محاولة لفرض تأويلاته، باعتبارها حقيقةَ النص، أو الحقيقة النِّهائية، والمُطلقَة لهذا النص.
فتاريخ إقفال المناقشات الدائرة حول [المعنى] في النص القرآني، في الثقافة العربيه الإسلامية، كما يرى أركون، يعود إلى لحظة الطبري. في تفسيره للقرآن، الذي كان بمثابة التأسيس الأولي للأرثوذكسية الإسلامية، أي الخط الوحيد الصحيح، الذي سيعتبر غيره من التفسيرات، مجرَّد هرطقة وضلال، أو انحراف عن النص.
ثمة، دائماً، من يسعى ليكون هو مصدر المعاني والدلالات، وهو مصدر الفكر، والمعرفة. فتَمَلُّك المعنى، هو تَمَلُّك لـ ‘النص’ نفسه، وهو ما يُفْضِي، حَتْماً، لِتَمَلُّك ما يُرافِقُه، أو ما يكون أتَى تالياً عليه، بما يحمله من سلطة رمزية، ومن قوانين وتشريعات، غالباً ما تكون مطبوعة بِصِيَغ القطْع، والحَسْم.
لم يكتف هؤلاء، ممن سَعَوْا لِتَمَلُّك المعنى، بالنص التراثي الديني، بل إنَّهُم أدْرَكُوا أن هناك نصوصاً وتعبيرات أخرى، لها سلطتها، هي الأخرى، في تزكية هذا المعنى، أو استكمال تمَلُّكِه، لا يمكن تركُها في العراء، ولعلَّ النص الشِّعري، هو بين هذه النصوص، وربما أهمها في توسيع هذا المعنى، أو تضييقه، وحَصْره. فحين تَمَّت الإحالة على النص الشعري الجاهلي، باعتباره مصدراً لغوياً لتفسير ما اسْتَعْصَى تفسيره في القرآن، فهذا، في ذاته، كان مُؤَشِّراً على إفراغ هذا النص، أوَّلاً من معناه، وإفراغه ثانياً من وظيفته الجمالية، أو الشعرية، بتعبير ياكبسون، ووضعه، ثالثاً، في خدمةِ سياقٍ دلاليّ بعيد عنه. وهذا ما يُفَسِّر ‘شَكَّ’ طه حسين في كثير من القصائد التي اعتبرها غير ‘جاهلية’، لأن سياقها الدلالي، ومُدَوَّنتها اللغوية، يتنافيان مع ما حَدَثَ في النصوص التالية عليها من تعديلات في السياق، وفي المعجم، وحتى في وظيفتها الشِّعرية. فكِتابا ‘في الشعر الجاهلي’ و ‘حديث الأربعاء’، يكشفان هذا التهافُت على الشِّعر، لِفَضِّ هذا ‘التَّناحُر’ على المعنى، في النص الديني تحديداً.
سيظل النص التراثيّ، بمختلف تنويعاته، وبتعدُّد مجالات اشتغاله، بما فيها النص التاريخي، حقل بَحْثٍ، أو مَوْقِعاً، قابِلاً للتنقيب وللاستجواب، ليس بنفس الأسئلة، وبنفس المنظور، أو المنهج الذي كان مثقفوا النهضة اختاروه في قراءاتهم، بل باستعمال، وتوظيف ما هو مُتاح، اليوم، من معارف وعلوم، لم تكن موجودة، في السابق، أو كانت في طور الاختبار والتجريب. وفي هذا السياق، أجد ما قَدَّمَه أركون في هذا المجال، هو بين ما ساعَدَ في إحداث كثير من الشُّروخ والتَّصدُّعات في قراءة ونقد ‘العقل الديني’، أو ‘العقل الإسلامي’ الذي اعتبره ‘مشروع العمر’.
لا يمكن، في قراءتنا للتراث الديني، أن نتجاهل التراث الفكري والفلسفي، أيضاً، فهو كان له دور كبير، ومهم في تشكيل الفكر العربي ـ الإسلامي، ‘ضمن الإطار المعرفي للقرون الوسطى والعصور القديمة اليونانية’. فتجاهُل هذا الفكر، هو تجاهُلٌ لانشراح المعنى، وتَعدُّدِه، أو انفتاحه، وهو ما حدث، حين تَمَّ إقصاء ابن رُشد، واستبعاده، لأنه، من هذه الزاوية، هو عنصر تشويش على انغلاقية المعنى، ونفي لواحديته، وقطعيته التي تنسجم مع التوجُّه الأرثوذكسي، الذي لا يقبل بغير الاتجاه الخَطِّيّ الواحد، وبالتفسيرات ذات المنحى الواحد.

فالفكر، أو العقل الدوغمائي، هو عقل وُثُوقيّ حاسِم، والمعنى عنده تَمَّ وانتهى، ومصدره معروف، ولا يحتاج الأمر، في الفهم والشرح والتأويل، إلاّ لاستشارة النص، أو استشارة شروحه ‘الشرعية!’ التي ليس حولها نقاش، وهذا عكس العقل، أو الفكر النقدي، الذي هو، بطبيعته، مُرْتابٌ، ولا يطمئن للمُطلقات، ولا يقبل بالمُسَلَّمات، وهو بالتالي، لن يقبل بالمعنى الكُلِّيّ الجامع، والنهائي الحاسِم، فهو عقل يبحث، ويتساءل، لأن جوهر بنيته يقوم على السؤال.
في هذه المسافة بالذات، يبدو ثقل ‘التناحُر’، الذي لا يزال النص التراثي يفضحه، أو يشي به، وهو نفسُه ما نجده اليوم، في الفكر السلفي ‘الأصولي’ الذي هو امتداد لنفس التناحُر، ليس مع الفكر التنويري، الحداثي، العلماني، بل بين السلفيين نفسهم، بما يمثلونه من تيارات وفرق واتِّجاهات، أو مِلَل ونِحَل، رغم ما يحاول البعض منهم أن يُبْدِيه من نعومة، أو اعتدال في اختياراته الاعتقادية الروحية، التي هي، في النهاية، اختيارات أيديولوجية صِرْفَة، تستعمل الدِّين للوصول إلى السلطة، ونموذج ‘الإخوان المسلمين’ في مصر، باعتبارهم نواة الأصوليات التي انتشرت في العالم العربي، خير مثال على ذالك.
رَفْض المعرفة بالتراث، ورفض قراءته، أو التغاضي عنه، وتجاهله، والذهاب إلى الحداثة، رأساً، هو رفض للمعرفة بشروطها التاريخية، الموضوعية، التي تقتضي اختبار الحاضر في ضوء الماضي، ومعرفة الماضي، في ضوء الحاضر. فما يجري في واقعنا العربي الراهن، لا يجري في منْأًى عن هذا ‘التَّناحُر’ أو التَّناحُرات التي حدثت في الماضي، وهي، في صورتها الكلية، تعبير عن هذا الماضي، رغم اختلاف السياق. فالزمن ليس هو نفس الزمن، لكن الفكر هو نفسُه، وأعني، نظام الفكر، بما فيه من انغلاق ورفض، وربما الصورة التي هو عليها اليوم، أكثر تَطَرُّفاً وغُلُوّاً، مما كان عليه هذا ‘السَّلف’ الذي أساء قراءة ‘الرسالة’ أو ‘الوديعة’ التي ائتمنه الله عليها، أو عَمِل على حَرْفِها خدمةً لمصالحه، بغض النظر عن واقع النص، وما فيه من معطيات وحقائق. أليس كل ما هو واقعي تاريخي؟ إذا ما استعدنا عبارة هيغل، أن كل ما هو واقعي عقلاني؟


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة