السبت 2024-12-14 08:39 ص
 

ع عمان يا ناجي

07:48 ص
لن نجد أروع ولا أبلغ من فصاحة بساطتنا، فهي تغدو ضربا من ضروب الإبداع حين نتوغل في تحليلها، وتلهم المختص في التحليق في الخيال، رغم علمه بأن ثمة مسافة مستحيلة بين الواقع والخيال:اضافة اعلان

أحد مواطنينا يمتاز بخفة الروح ويتوغل في البساطة الى درجة اتخاذها مذهبا في حياته، كان لديه قطة تزعجه، ويسكن في بلدة أهلها أصيلون طيبون موهوبون بالوعي والحديث الطريف، تقع شمال محافظة الكرك 20 كيلو متر، وتبعد جنوبا عن عمان أكثر من 100 كيلو متر، مرورا بوادي الموجب، ويبدو أن كل محاولاته السابقة في التخلص من القطة باءت بالفشل، فهو يريد إبعادها عن البيت وليس شيئا آخر، وهذا ينم عن طيبته ورفقه بهذا الحيوان الأليف واعتبار دمه من المحرمات، أي هو يختلف عني مثلا حين كنت طفلا في الحارة، أنخرط في فريق أطفال أشقياء لمكافحة وقتل الحيوانت الفائضة في القرية، كالقطط والكلاب والحمير والزواحف وغيرها.. لكن صديقنا أفضل منا بكثير، وقلبه أكثر رقة وهو أكثر خشية من الله مقارنة بأطفال أشقياء، حيث قام بإبعاد القطة الى القرى المجاورة والتي تبعد مسافات متفاوتة عن قريته، وفي كل مرة تعود القطة للمنزل، وفي يوم قرر أن يوهم القطة بأنه سيأخذها الى عمان باعتبارها مدينة بعيدة عن القطط الأليفة التي تزعج أصحابها، ويتركها هناك، لتشق حياتها الجديدة، وأجزم أنه كان يتمنى للقطة حياة جديدة سعيدة، لكن بعيدة عن بيته.
صلى الفجر في المسجد ربما، وأحضر كيسا من خيش «شوال»، وضع فيه القطة الأليفة، وتوجه الى الشارع الرئيسي الذي يشق البلدة الى حيين غربي وشرقي، وقف في مواجهة شمس الصباح، فتوقف عنده باص ناجي، وهو باص نقل ركاب يعمل على خط البلدة الى الكرك ذهابا وإيابا، وهو أكثر باص متهالك وربما هو أقدم باص يعمل على هذا الخط، ومعروف لدى المواطنين جميعا، بأنه باص بطيء جدا في الحركة، يقوده رجل طيب جدا، كنا نتخفف من كل متاعب الدنيا والمشوار، حين نركب معه في الباص ذهابا الى مدينة الكرك أو إيابا، فثمة في الجلسة بركة تفرضها طبيعة ونفسية سائق الباص الشهير..
دخل صاحبنا الباص ملقيا تحية الصباح على ناجي والركاب، وغمز إحدى عينيه لناجي وخاطبه على مسامع القطة وبإشارة من إصبعه إلى الشوال، كي لا يرد عليه ناجي بما يبطل الرواية والنية المزعومة، أشار الى  الشوال، كي يفهم ناجي أنه ليس مطلوبا منه توضيح بل دعم للرواية، وقال (ع عمان يا ناجي)، كي تفهم القطة أن مشوارها هذه المرة بعيد وأن لا تحاول العودة الى المنزل، بالطبع ضحك ناجي تلك الضحكة الجميلة، وشمس الصباح تبدي قسمات وجهه الطيب، وقال إطلعوا..عمان بعيدة، ليثبت الرواية على مسامع القطة، وهما يعلمان تماما أن القطة أيضا تعرف اسم ناجي وتعرف أن «باصه» بالكاد يبلغ مدينة الكرك.
الباحثون عن النجاة من ضيق الحياة والبطالة، الذين انطلقوا من كل فج عميق «ليشهدوا منافع لهم» في عمان، أتوا راجلين تعبيرا عن استعدادهم بذل كل مجهود للحصول على وظيفة حكومية، لا يختلفون في طيبتهم عن ناجي وعن صديقنا، فكلهم يعلمون تمام العلم بأن الخيال والتحليق فيه أمر، بينما الواقع أمر آخر، وحقيقة أخرى صادمة..
هل اكتشف شبابنا أو علموا حقيقة أخرى لا نعلمها؟ هل أيقنوا أن البلاد وبشكل مفاجىء أصبحت تتمتع باقتصاد قوي، وتضاعفت وفرة موازناتها الى الدرجة التي نطالبها معها بوظائف حكومية بهذا الحجم؟ ..أم هم يريدون توصيل رسالة للمرة المليون؟!.
كتبنا قبل أسابيع مقالة عنوانها «موارد بشرية أم قنابل موقوتة؟!»، ذكرنا فيها أرقاما رسمية مصدرها ديوان الخدمة المدنية، تقول إن 388.861 الف من خريجينا الجامعيين يقفون على طابور انتظار الوظيفة الحكومية، وأن 60 % منهم إناث والبقية ذكور، وأن جامعاتنا تقوم سنويا بتخريج 80 ألف خريج جديد، وأن الدولة بالكاد تستطيع أن تخصص موازنات لمؤسساتها لتتمكن سنويا من تعيين 8 آلاف موظف جديد فقط، وأن هناك خريجي جامعات تخرجوا قبل 20 عاما ولم يلحقهم دور الوظيفة الحكومية بعد...ما الذي تغير على هذا الواقع، ودفع بشبابنا أن يقوموا بهذا المجهود لتوصيل رسالة وحقيقة مرّة معروفة؟!.
قلنا :  حتى القطة كانت تهزأ بالرواية وتعلم بأن باص ناجي لا يمكنه أن يصل الى عمان، ورغم علمها لم تقل شيئا، ولم تحاول إبطال الرواية الخيالية البسيطة.
 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة